العرب ومنتدى الدوحة وتكريس اللغة السياسية الجديدة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صار "منتدى الدوحة للديمقراطية والتجارة الحرة" حدثاً ثابتاً في سياق النشاطات التي تشهدها دولة قطر سنوياً. الجديد هذه السنة على هامش الدورة السادسة للمنتدى النجاح الذي تحقق في مجال جعل اللغة التي كانت أبعد ما تكون عن ثقافة مواطني دول مجلس التعاون الخليجي لدول الخليج العربية وممارساتهم اليومية لغة متداولة ومقبولة. صار هناك تكريس لهذه اللغة عبر الممارسة. أكثر من ذلك، تحولت هذه اللغة جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للمواطن القطري كما بات المواطن الخليجي على أستعداد للتعاطي معها وتقبلها.أنها بصراحة لغة العصر التي لا غنى عنها في حال كان مطلوباً التفاعل مع الأحداث بدل العيش على هامشها.
بغض النظر عن الندوات التي أستضافها المنتدى والنقاشات التي شهدتها وكان بعضها مفيداً والبعض الآخر تكراراً لندوات سابقة. وبغض النظر عما أذا كان الحضور البريطاني كان هذه السنة أكبر مما كان عليه في الماضي وأكثر بروزاً، في حين كان الحضوران الأميركي والفرنسي أقلّ من المعتاد، لا يمكن تجاهل أن قطر أستطاعت عبر الخطاب السياسي والأقتصادي والثقافي الذي يعتمده المسؤولون فيها تحقيق نقلة نوعية على صعيد تكريس تجربة سياسية تقوم على الترابط بين التنمية والتبادل التجاري والتقدم الأقتصادي والتطور السياسي.
ليس سراً أن من يلعب الدور المحرّك والمطوّر للتجربة القطرية هو أمير البلاد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي يوفّر بطريقة دخوله الى الجلسة الأفتتاحية للمنتدى، والى جانبه حرمه الشيخة موزة، صورة عن مدى ما تحقق في السنوات العشر من حكمه على صعيد التقدم الأجتماعي خصوصاً لجهة اعطاء المرأة الدور الذي تستحقه في المجتمع مؤكداً بذلك ان ليس لدى قطر سوى سياسة واحدة واضحة وأن القيادة على أستعداد للعب الدور المطلوب منها في مجال تطوير المجتمع وتوعيته. أنه رجل على أستعداد لتحمّل مسؤولياته وعلى أستخدام الجرأة التي يتمتع بها من أجل أتخاذ مواقف شجاعة حين يتطلب الأمر ذلك. ومن هذا المنطلق، صار الخطاب القطري يتضمن تعابير ملازمة للتجربة التي يمر بها البلد من نوع " أن الديمقراطية والتنمية والتجارة الحرّة تكمل بعضها بعضاً ولا يمكن تطبيق أحداها بمعزل عن الأخرى، فالديمقراطية، خاصة في البلدان النامية لن تتحقق من دون تنمية فاعلة في جميع المجالات الأقتصادية والأجتماعية. والحرية السياسية لا معنى لها في مجتمع يسوده الفقر وتعاني شريحة كبيرة فيه من الجهل والمرض والبطالة. وبالمقابل، أن التنمية المستدامة لا يمكن أن تتحقق ما لم يسمح للفرد بالمشاركة في أتخاذ القرار وحماية مصالحه الأقتصادية".
أنها تعابير لا بدّ من بذل جهد من أجل أن تترسخ في ذهن المواطن كي يستوعب عن طريق التدرج، وليس القفزات الكبيرة، معنى التجربة الديمقراطية وتلازمها مع التعليم والبرامج التربوية العصرية وثقافة التسامح وتوفير فرص العمل للجميع والتنمية والتطور الأقتصادي. وبكلام أوضح، يأخذ أمير الدولة على عاتقه شرح مستلزمات التقدم للمواطن بدل أن يكون من اولئك الزعماء الذين يتكلون على جهل المواطن وتجهيله للبقاء في السلطة. وفي حال كان المرء يريد الذهاب الى ما هو أبعد من ذلك في فهم معنى الخطاب السياسي والأقتصادي والأجتماعي الذي يصدرعن "منتدى الدوحة للديمقراطية والتجارة الحرة"، يمكن التركيز عندئذ على جانب آخر في الخطاب يتعلّق بضرورة الربط بين الديمقراطية والأستقرار العالمي. وفي هذا المجال ورد في الخطاب الأميري "أن نجاح الديمقراطية في المنطقة ليس في مصلحتها وحدها، وأنما سيكون له تأثير أستراتيجي ملموس في دائرة جغرافية واسعة تمتد منها الى الشرق والغرب. فتعزيز الأمن في مناطق ليست بعيدة عنّا وخفض معدّلات الهجرة الشرعية وغير الشرعية اليها أنّما تؤثر فيه مسيرة الديمقراطية في منطقتنا، لأن نجاح المشروع الديمقراطي أمر أساسي لعلاج مظاهرالطغيان والفساد التي لا تزال تلتهم خيرات الشعوب وتحرمها من حقوقها وتدفع بعض أبنائها الى التطرف والأغتراب".
في الواقع، تُدخل التجربة القطرية تعابير جديدة لا مفر من أعتمادها على صعيد لغة الخطاب السياسي العربي، في حال كان مطلوباً من هذا الخطاب مواكبة ما يدور في الخارج حيث التجارب الناجحة سياسياً وأقتصادياً وأنمائياً وأنسانياً وديمقراطياً. أنها تعابير تنمُّ عن القدرة على فهم ما يدور في العالم خصوصاً من زاوية أستيعاب "أن بناء الأمن الأقليمي لا يمكن أن يكتمل ما لم تتقدم الممارسة الديموقراطية، لأن الأمن ليس مجرّد ترتيبات عسكرية تتفق عليها الدول، وأنّما تلزمه أجراءات سياسية داخلية تمكن المواطن من المشاركة في شؤون وطنه وتحمّل مسؤولياته. فالمواطن المشارك مواطن آمن لأنه يعرف ما له وما عليه. والمواطن الآمن هو الذي يبني الوطن الآمن. والوطن الآمن بدوره هو الذي يرسي دعائم نظام أقليمي ينعم بالأمن ويتمتع بالأستقرار. ولهذا، أن الأمن المنشود لا يكتمل الاّ بتقدّم الديمقراطية".
لعلّ أهمية الخطاب السياسي القطري تنبع من قدرة البلد على التمتع بأستقلاليته وممارستها من منطلق أن صديقَك من صدَقك. ولهذا لم يجد أمير الدولة حرجاً في القول للعالم ما يعتبره حقّاً في ما يتعلّق بالموضوع الفلسطيني وتشكيل "حماس" حكومة ذلك "أن تحدي خيارات الشعوب لن يؤدي الاّ الى تأجيج مشاعر اليأس وتوليد موجات الغضب، فضلاّ عن أنّ الوقوف ضدّ الأرادة الشعبية يناقض روح الخيار الديمقراطي الداعي الى الأمتثال لما تقرره الأغلبية".
وفي السياق ذاته، سياق توضيح الخطاب السياسي القطري وتقريبه من فكر المواطن والمجتمعين الخليجي والعربي، حرص النائب الأوّل لرئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني على شرح تصور بلده للديمقراطية ومفهومه لها من منطلق أنها "بناء لدولة المؤسسات وحقوق الأنسان، ذلك أن المشاركة الشعبية الديمقراطية ليست عملية شكلية وأن لا بدّ من خطة شاملة في مجال التنمية. أضافة الى ذلك، أن الخيار الديمقراطي عملية توعية متواصلة". وحرص النائب الأوّل لرئيس الوزراء على التحذيرمن حرق المراحل بقوله :"لا بدّ من الأيمان بالتدرج لأن القفز على الواقع الأجتماعي يفضي الى صراعات".
ليس سراً أن قطر تبحث عن حلول للمشاكل الأقليمية وأن أهتماماتها تشمل كل ما له علاقة بالأزمات التي تعاني منها المنطقة. ولذلك لم يجد الشيخ حمد بن جاسم بن جبر بدّاً من طرح تصوّر لمخرج من الموضوع النووي الذي أرتبط بالبرنامج الذي تطوره أيران. أنه مخرج ينبع في النهاية من أنّ لدى دول المنطقة مصلحة واضحة في تفادي أي مواجهات بسسبب البرنامج الأيراني الذي يخشاه العالم. وأنطلاقاً من هذه المصلحة القطرية والخليجية والعربية وحتى العالمية، لم يتردد الرجل في أنتقاد الأزدواجية في المعايير التي يعتمدها العالم في تعاطيه مع أسرائيل من جهة ومع العرب والفلسطينيين من جهة أخرى. وخلص الى طرح ما قد يكون مخرجاً مشرّفاً للجميع بدعوته الى ألتوصل الى "أتفاق دولي يجعل كل المنطقة، بما فيها أسرائيل خالية من الأسلحة النووية".
لم يصدر هذا الكلام عن رجل عادي، بل صدر عن رجل يقول صراحة "أن قرارات مجلس الأمن لا تطبّق على أسرائيل. نحن لدينا علاقة مع أسرائيل وعلاقة مع الغرب، ولكن هناك وقت لا نستطيع فيه الدفاع عن هذه السياسة أمام مواطنينا. نحن ضدّ الأرهاب، ولكن هل يستطيع أحد أن يفسّر لي ما تفعله أسرائيل. هناك مشكلة. هذه المشكلة ولّدت الأرهاب".
يغادر المرء الدوحة بعد أكتشافه أن أهمية التجربة التي يسشهدها البلد تكمن في أنها تجربة تتجدد وتتطوّر يومياً. ربما كان أفضل تعبيرعنها ما لم يقله بطريقة مباشرة النائب الأوّل لرئيس الوزراء القطري الذي أراد غير مرة عبر المداخلة التي كانت له في "منتدى الدوحة السادس للديمقراطية والتجارة الحرة" دعوة العرب الى التعاطي مع ظاهرة الأرهاب بأعتماد وسائل مختلفة عن تلك التي أعتمدوها حتى الآن بقوله " أن الأرهاب ينشأ بشكل عام عن الفقر والبؤس واليأس. أن الأرهاب مشكلة سياسية ونفسية وأخلاقية، وبناء الديمقراطية من أكثر الوسائل فعالية في مواجهة الأرهاب". هل من يريد أن يسمع وأن يأخذ علماً بأن هناك لغة لخطاب سياسي جديد في المنطقة يمكن الأستفادة منها؟ أم أن المطلوب البقاء في أسر الخطاب الخشبي الذي لا يتجرّأ على الأعتراف بأن في الأمكان التطور والتعلم من تجارب الآخرين ، خصوصاً من التجربة القطرية، من دون عقد، وأن على العالم العربي ألأقرار أخيراً بأن منطق النقاش الديمقراطي هو المنطق الذي يجب أن يعتمد بدل منطق ألغاء الآخر أكان داخل البلد وخارجه؟