كتَّاب إيلاف

مهرجان المربد هذا العام.. ممنوع دخول النساء

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لم يستح مربد هذا العام من نازك الملائكة، و لا من لميعة عباس عمارة، و لا من عاتكة الخزرجي أو سعاد الصباح أو سلمى الخضراء الجيوسي أو فدوى طوقان، و لا من سكينة بنت الحسين أو تماضر بنت عمرو أو ولادة بنت المستكفي أو ليلى الأخيلية أو رابعة العدوية أو عشرات غيرهن، و لم يستح من البصرة ذاتها، الشاعرة الساحرة أم اللغة و القريض، ليعلن بكل صراحة - أو لنقل وقاحة- عدم دعوة أية شاعرة إلى المشاركة في المهرجان هذا العام ليحوله إلى ملتقى ذكوري شأنه شأن كل العراق الذي بدأ السواد يلفه تدريجيا، بعد أن انتقل من فاشية الحزب الواحد و القائد الأوحد إلى فاشية عصابات الشوارع السوداء المتشنجة التي تعتنق السواد زيا و فكرا..

و قد كنت أتمنى من كل هذه الأسماء التي شاركت في ذلك المربد، و بينها ما يوصف بالتقدمي، الاحتجاج الصريح على هذا التعسف المخجل بالمقاطعة على أقل تقدير و الصراخ في الإعلام على أكثره، بدلا من التغني بمحاسن مهرجانهم الذي توجوا به المسلسل المبكي في البصرة الذي بدأ بالقتل و التهجير و نهب و تهريب الثروات، و لم ينته بانتهاك براءة الطلبة في الجامعة، و بالتأكيد لم ينته أيضا بالمربد "الذكري" الأخير، الذي أصبح أشبه بحانات الشواذ في الغرب التي ترفع يافطات تمنع دخول النساء..

أما الأسباب المعلنة، و التي أعترف بأنني لم أطلع عليها إلا من مقالات بعض الأخوة العراقيين المحتجين (و ما أقلهم)، فهي أقبح من قرار الحرمان ذاته، بل و أنني لأخجل من ذكره هنا، و لكنه عموما يعكس ذلك الجزء الشمولي المتعسف من ثقافتنا الذي يعمم الخطأ الفردي على الجميع، فإن أخطأت شاعرة فكل الشاعرات خاطئات، و إن كنت شيعيا فأنك صفوي، و إن كنت سنيا فأنك زرقاوي، و إن ناقشت الفدرالية فأنك شوفيني، و إن اعترضت على ما يجري في عراق اليوم فأنك قطعا صدامي.. هكذا نحن مذ كنا، فلا مساحات رمادية و لا حوارات و لا خراف سوداء في القطيع، لا في عهد صدام و لا في عهود سابقة أو لاحقة، فالمستبد القابع في عقولنا التاريخية يتجسد يوميا عبر الأب أو شيخ العشيرة أو مدير المدرسة أو مدير الدائرة أو المسؤول الحزبي أو أمام المسجد وصولا إلى أعلى الهرم المقرف للاستعباد الذي أعتدنا عليه فلم نعد نثور عليه منذ قرون، بل نثور لننتقل من استعباد إلى آخر، أو نتوسل الآخرين ليقوموا بإزاحة المستبد نيابة عنا..

ما حصل في المربد له مقدمات واضحة للعيان منذ اليوم الأول لسقوط النظام السابق، فقد بسط "الحكام الجدد" سوادهم على الشارع جنوبا و وسطا و غربا ( و إن بمسميات مذهبية تختلف هنا أو هناك ) و زحفوا أخيرا نحو بغداد العريقة و تمكنوا من أجزاء كبيرة منها، تحت أبصار الحكام الجدد و تشجيعهم، فهم وجوه لعملة واحدة.. و لن يستثنوا الشمال الكردي إذا تسنى لهم ذلك، فهم قادمون بمشروع سياسي يلبس الجبة و القفطان، و لا يحتاج المرء لكثير من البحث التاريخي القريب ليدرك بأن الوطن ذاته لا حضور لهم في أدبياتهم، و أقصد هنا الطائفتين الأكبر معا، فاختلافهم شكلي، و جذر مشروعهم واحد، و مفهوم الأمة يسود على مفهوم الدولة، و الوطن الذي نبكيه يوميا لا يعدو في نظرهم ولاية في الأمة الأكبر التي يديرها الخليفة في كابول أو الإمام في طهران..

لا عزاء لشاعرات العراق و لا لنسائه، و لا موجب له، فما حصل في المربد الأخير لا يستحق دمعة تذرف، فهو نقطة في بحر المد الهائج الذي يهدف لتحويل نساء العراق إلى جواري و قيان، و آلات للإنجاب و الاستمتاع، و أخيرا "الحجاب أو التيزاب" كما تذكرّهن ملصقات تنتشر يوميا على جدران المبكى في العراق، كما يهدف الى تحويل رجال العراق إلى رهبان بالليل و فرسان بالنهار، يقاتلون كل يوم حتى آخر عراقي لإعلاء راية القائد الضرورة أو الفقيه أو الخليفة..

و من مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي اجهضه بريمر و ليس "أحرار" العراق المزعومين، إلى الدستور الكسيح، إلى المدن العطشى التي باتت تنام و تصحو على القتل و الإرهاب و التفخيخ، و إلى مساكين العراق الذين أختلطت عليهم الأزمان، و إلى المهزلة الحكومية الجارية اليوم على طريقة شيعي هنا.. سني هناك، و إلى التهجير الطائفي للسكان، و إلى مسلسل تصفية الكفاءات العلمية و الأكاديمية وسط صمت حكومي مطبق، إلى الفساد الذي أصبح إلى جانب الإرهاب المؤسستين الوحيدتين اللتبن تعملان بكفاءة في بقايا هذا الوطن، و إلى كل ما يذكر و لا يذكر، يبقى الأمل قائما..لأن الأوطان لا تموت، و العراق بالذات، ممنوع من الصرف مهما طال الزمن.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف