كتَّاب إيلاف

أزمة الوفد.. ما وراءها!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

احتراق الأصفار في مصر

في جدل معبر قبل حريق حزب الوفد في الثالث من أبريل بقليل ، وصف رئيس الحزب الناصري المصري في تصريح له حزبا جديدا يعد له بعض المستقيلين من الحزب الوطني الحاكم مع آخرين " بأنه سيكون صفراً جديداً يضاف إلي قائمة أصفار الأحزاب السياسية"، وقد رد عليه الدكتور يحيي الجمل أحد الداعين والمؤسسين لهذا الحزب الجديد بقوله إن " الحزب الجديد - الذي لم يوجد بعد - صفر محتمل، قد يتأكد كونه صفرا من عدمه بعد قيامه، بينما الأحزاب القائمة أصفار مؤكدة ".
وبعد هذا الحوار بساعات تضاربت الأحكام القضائية في تمكين المتنازعين على رئاسة حزب الوفد الجديد، فبينما حكمت إحدى المحاكم بخلع رئيسه السابق الدكتور نعمان جمعه..! قضت أخرى بتمكينه وبطلان قرارات الأولي، وذهب كل حزب بما لديهم فرحين، فكانت معارك الفتوات وأبنائهم وأنصارهم من الحرافيش في رداء سياسي لم يستر مدي الضحالة والاختزال والقزمية التي وصلت إليها الحياة السياسية في مصر.. وقع الحريق.. واحترقت معه رموز زائفة وقضايا زاعقة ليس لها من معنى سوى عند المتصارعين عليها.! معارك الزعامة قديمة جديدة في الحياة السياسية المصرية، وكثيرا ما كانت أول ما يقضي علي الأفكار النبيلة كما كان انتصارها في أحيان أخرى انتصارا للزيف وتشويها للتاريخ الحقيقي ، فما انقسم حزب الأمة إلى شطريه في العقد الثاني من القرن العشرين، إلا اختلافا بين زعاماته عدلي يكن وفريقه النخبوي من جهة وسعد زغلول وشعبيته الجماهيرية من جهة أخرى، كما انتهت تجربة الحزب الديمقراطي المصري " 1918 - 1922 " أول حزب مصري وعربي يحمل هذا الوصف حقيقة لاختلافات مماثلة حول زعامته. كما أنه ماثل للعين خلافات الزعامة القائمة والانشقاقات المستمرة التي لا يمكن استثناء غير الحزب الحاكم منها ولأسباب معروفة، والتي قضى بعضها على الأحزاب نفسها، بل امتد هذا المرض الجائحة " قياسا إلى جائحة الانفلونزا " للأحزاب الجديدة التي لا زالت ورقية دون اي قواعد اجتماعية - إلا إذا كانت عائلية - فكثير من المؤسسين يتنازعون الزعامة الورقية في قاعات المحاكم دون أي فعل أو نشاط سياسي يمكن أن تلمسه فضلا عن أن تحسه.! إنه صراع الموات على الموت وصراع الأصفار على اليمين واليسار.
لا شك أن ما حدث في حزب الوفد مستفز ومثير ولكن لا شك كذلك أنه عرض متوقع لمرض كامن في كثير من القوى الحزبية والمدنية في مصر، فكما أن الحكومات المتعاقبة منذ عهد بعيد ابتكرت مفاهيم كأبناء العاملين وأهل الثقة لا أهل الخبرة، ووحدة الهدف والقائد الملهم.. انتقلت هذه الفيروسات لكثير من مؤسسات الحياة السياسية والمنظمات المدنية بقصد وبلا قصد.
من المهم تجاوز التوصيف في أزمة الحريق وضمها لعشرات الحوادث عن سقوط رموز مؤثرة كانت في أعلى الأماكن والمناصب فسادا وإفسادا، من المهم ضمها لإحجام نخب سياسية ومثقفة من أجيال مختلفة ويأسها من العمل السياسي والحزبي، وكذلك ربطها بالحركة الإصلاحية النشطة الآن في مصر التي ضمت تجانسا مستقلا من المخلصين والمهمومين مختلف القوى السياسية ومن المستقلين ، الذين لم يحملوا عتاقة القوى السياسية وقوالبها ومعارك الزعامة داخلها.
إن السؤال الأهم الذي تفجره أزمة الوفد الحالية هي ضرورة تداول السلطة داخل الأحزاب القائمة وضرورة إنتاج نخب بديلة تكون أكثر تقديرا لحق الاختلاف والاعتراف وأكثر نضالية وإصرارا على العطاء منه على الأخذ والكسب.
وظني أنها لن تكون من أبناء عقود النكسة والشعارات السابقة الذين تشربوا مقولات " التنظيم الواحد والقائد الأوحد " في العهد الناصري ثم تشربوا الصعود البيروقراطي في العهد الساداتي، الذين مدحوا متى منحوا وذموا متى حرموا، إن هذه النخب البديلة ستكون جنى طين طيب وماء لا يكذب يربط شمال مصر بجنوبها، سيكون رهانهم على سلطة الضمير والأمة قبل أية سلطة أخرى، إن هذه النخب البديلة أهم سماتها التجرد وإنكار الذات لا تقديسها وتقديس مكاسبها. هم موجودون على شطآن القوى السياسية، منتشرون على مقاهي القاهرة، مهمشون من الزعامات العتيقة داخل الأحزاب لكنهم شرط استعادة الحياة السياسية بل إعادة اختراعها في مصر. إن أزمة الحوار العام في مصر، وليس الحوار السياسي فقط، الذي لم يعد سياسيا ولا أخلاقيا في كثير من أشكاله وتجلياته، ليست إلا تجليا لأزمة أعمق هي أزمة صناعة الرموز في مصر، رغم تنوع وتعدد مصانعها، التي همشت وأقصت كثيرا من الحقيقيين ولا زالت تقصي بقيتهم ليصعد من ليسوا أهلا للصعود. يسقطون بعد أن كانت تدق لهم الطبول وتفرش لهم الأرض رملا، في الصحافة والإعلام، في السياسة والاقتصاد، في الحكومة والمعارضة.. وليس آخرها رئيس الوفد المخلوع كما لم يكن أولها!. إنها دعوة للتغيير ليس تغيير الأفراد والزعامات المتشبثة بمقاعدها ولكن تغيير الأفكار والعقليات وروح الجدل والحوار كذلك، حتى لا تحرق الأصفار - حين تصير أحادا- وطننا يوما، وتتحول عن كونها اصفارا.
هاني نسيره كاتب من مصر

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف