كتَّاب إيلاف

إمـارة خـللســتـان

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حسنا فعلت وزارة الداخلية المصرية عندما وصفت أحد منفذي غزوة الكنائس بالإسكندرية عند ـ أو قبيل! ـ القبض عليه صباح الجمعة 14 أبريل، بكونه "مختل العقل" ومصابا "بخلل نفسي"؛ وذلك لأكثر من سبب:
أولا: لأنه في عشرات الاعتداءات التي وجهت ضد الأقباط عبر العقود الماضية لم يحدث أن أُدين أحدٌ على فعلته. وبما أننا نعيش أزهى عصور التقشف والشفافية، فمن الأفضل توفير مجهودات ونفقات تمثيليات القبض على والتحقيق مع المتهمين قبل إشهار براءتهم، وذلك بالإعلان مقدما أنهم مختلوا العقل، وبالتالي لا يمكن محاكمتهم! [ولا أهمية هناك لإصرار الوزارة على أن وراء الغزوة المباركة شخص واحد فقط برغم تباعد الأماكن؛ فمن الناحية الفلسفية البحتة لا فرق بين قيام مختل واحد أو مجموعة من المختلين بالعمليات!]
ثانيا، وهو الأهم: لأن وزارة الداخلية العتيدة تدرك بالقطع، بناء على ما يمدها به من تقاريرٍ مخبروها الذين يعرفون "دبة النملة" في كل ركن، أن الخلل العقلي والنفسي قد تفشى في ربوع الكنانة. بل إن الأمر لا يحتاج لتقارير مخبرين أو مخابرات؛ إذ أن أيا من يرى أحوال مصر، وأيا من يتعاطى مع إعلامها (راجع مثلا صفحات الفكر السلفي والزغلولي بالأهرام أو البرامج الدينية بالتلفزيون الخ) أو يستمع لخطابها الديني (راجع مثلا أحدث الفتاوى حول التماثيل وحول دية الذمي)، سيخرج بيقين راسخ بأن الهوس الديني قد وصل إلى درجة من "الخلل العقلي والنفسي" أصبح معها وباء عاما (pandemic) في مصر المنكوبة، تتقازم بجواره أخطار وباء "انفلونزا الطيور". وهو خلل زرعته وغذته ونمته ورعته الدولة بإعلامها وتعليمها وقوانينها وقراراتها الإدارية التي تتحرك في إطار دستورها العنصري.
إذن فلقب "فسادستان" الذي أنعم البعض به على مصر ـ أم الدنيا ـ بعد أن زاد الفساد فيها عن حدود "المعقول" لم يعد يكفي لتوصيف أحوالها المصائبية؛ وأصبح من الأدق أن نطلق عليها "خللستان" (بفتح الخاء أو ضمها). وهو لقب من مميزاته أنه سيَسهُل تحويلُه في الوقت المناسب إلى "إمارة خللستان الإسلامية".
***
"لم أعد أحتمل الإهانات والبصقات على وجهي بسبب عدم ارتدائي الحجاب. لقد أصبحت غريبة في بلادي". هذه الكلمات التي نقلها مراسل جريدة "لو فيجارو" (17 أبريل) عن شابة قبطية في الإسكندرية تلخص ببلاغة ما أصبح يلقاه الأقباط في حياتهم اليومية. ولكن هذا ليس سوى جزء من قمة جبل جليدي يمثل حجم معاناتهم العامة على كافة الأصعدة كمواطنين من الدرجة الثانية، بينما الدولة تصر بعناد على إنكار وجود أي مشكلة.
إلى مَن ـ بعد الله ـ يذهب الأقباط بمظالمهم طالبين عدلا وإنصافا، حتى لو كان جزئيا؟
ـ مجلس الشعب لم يحدث مرة واحدة أن ناقش أو شكل لجنة تحقيق (باستثناء لجنة العطيفي في 1972 التي دُفن تقريرها الشهير فور كتابته) أو تقدم باستجواب بشأن أي من المجازر التي حدثت للأقباط عبر ثلث قرن من الزمان. ولم يحدث أن تعرض المجلس لأي من شكاوى الأقباط المتعلقة بحقوق بديهية للمواطنة. بل إن قانونا مثل ذلك المقترح بشأن دور العبادة مازال تائها في أروقة المجلس منذ الدورة الماضية، في الوقت الذي "تُسلق" فيه فورا القوانين المرغوب في صدورها. ومن أعاجيب المجلس الموقر في دورته الحالية أن إخوانجية الحكومة يقضون وقتهم في منافسة إخوانجية الإخوان في المواقف المتطرفة وفي استصدار القوانين والقرارات، من عينة قانونٍ (ساهم في إعداده أحد إخوانجية الأقباط!) يعطي الحق لمصر في محاكمة كل من يتعرض بالإساءة "للأديان السماوية" (أي الإسلام) في أي مكان في العالم، وبغض النظر عن جنسيته! [وبمقتضى هذا القانون "الخللستاني" العجيب، فإن زيمبابوياً يعيش في استراليا سيجد نفسه تحت طائلة القضاء المصري إذا تعرض بالنقد للإسلام!]
وعندما فتح الله على المجلس الموقر بالتعليق على حادث الإسكندرية الأخير فقد أدانه لأنه "يتنافي ومباديء الإسلام الحنيف". وبالضبط، فإن مثل هذا اللغو الديني الذي لا محل له والذي ليس من اختصاصات مجلس نيابي في دولة مدنية محترمة، إضافة إلى الأحاديث المصطبية حول أن "الأقباط ليسوا أقلية" (!!)، يفضح إلى أي درجة وصلت أحوال "خللستان".
ـ الجهاز التنفيذي دوره الرئيسي في مصر هو تنفيذ التوجيهات العليا، وإن كان يعرف جيدا كيف يُفسد عند التنفيذ ما هو حسنٌ في تلك التوجيهات. أما "الحكم المحلي" فبالإضافة إلى الفساد الذي ارتفع فيه "فوق الركب"، فإن وجود الأقباط فيه منعدم، مما يجعله جهازا "إسلاميا" إن لم يكن إسلامويا صرفا. وفي كل الأزمات المتعلقة بالأقباط فإنه يقوم بأسوأ الأدوار ولم يعد يحاول حتى ستر تطرفه الخللستاني. بل وصل الأمر إلى إن الحواسب الآلية التابعة لمصلحة الأحوال المدنية "الخللستانية" أصبحت لا تعترف بغير الإسلام دينا وتسجل أسماء الناس كمسلمين رغم أنوفهم وأنوف الذين أنجبوهم! ومع ذلك لا يتحرك، ولا يخجل، أحد!
ـ الجهاز الأمني الذي استشرت قوته وسلطاته بصورة سرطانية، يعتبر أن مهمته الأساسية هي "استتباب الأمن والاستقرار" وليس إقامة العدل أو حماية حق المواطنين في ممارسة حقوقهم القانونية. ومع التسليم الافتراضي بأنه ليس "مخترقا" من المتطرفين أو لا يتلذذ بالتسلط (وهي افتراضات يصعب تصديقها إنسانيا)، فإن احتكاره لملف سياسي مثل ملف الأقباط وحقوق مواطنتهم هو أمر شاذ لا مثيل له في العالم.
ـ الحزب "الوطني (!) الديموقراطي (!)" الحاكم لم يفعل أمرا إيجابيا واحدا بشأن حقوق مواطنة الأقباط، ناهيك عن الأدوار المشبوهة لقياداته المحلية في العديد من الانفجارات "الطائفية" التي تحدث. أما بقية الأحزاب فهي من الهزال بحيث لا تمثل قضية المواطنة بالنسبة لمعظمها أولوية خاصة. وحتى حزب التجمع الذي كان برنامجه، وخطاب رئيسه د. رفعت السعيد، نموذجيا في هذا الصدد، فيبدو أنه يتعرض لرياح عاصفة داخليا حول هذا الموضوع بالذات...
ـ المسلمون العقلانيون والعلمانيون هم "الحلفاء" الطبيعيون للأقباط إذ يشترك الجميع في المطالبة بقيام دولة مدنية حداثية يتساوى فيها المواطنون مساواة تامة بدون قيد ولا شرط. لكن هؤلاء مازالوا قلة قليلة وقد تعرضوا، ومازالوا، لضربات النظام الحاكم الذي هو في حالة تحالف وتنافس (أو ما نطلق عليه "تحافس") مع الإخوان. ومن ناحية أخرى، فما أكثر أدعياء "الإصلاح" الذين هم في الواقع أبعد ما يكون عنه، بل فقط يسرقون شعاراته في سبيل تحقيق أهداف مناقضة للإصلاح الحقيقي.
ـ رئيس الجمهورية تنازل (abdicated) عن دوره وواجبه الدستوري، ليترك كل ما يتعلق بالأقباط، وهم قطاع من شعبه يبلغ سدس السكان، بين أيدي حفنة من عمداء وعقداء الأمن. وفي المقابل، راح يؤكد يوما بعد يوم على دوره كرئيس مسلم لدولة مسلمة (ليس من حق أي غير مسلم فيها سوى الانصياع). وما علينا ـ كنموذج ـ سوى ملاحظة أن السيد الرئيس لا يُفَوّت مناسبة دينية بغير المشاركة؛ مثل الاحتفال العالمي بتحفيظ القرآن، والاحتفال العالمي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والاحتفال بالمولد النبوي الشريف الخ. ويبين تحليلٌ سريع لمضمون خطب الرئيس في تلك المناسبات أن أولويات سيادته تدور حول الإسلام وأوضاع الإسلام وسمعة الإسلام في العالم والدفاع عن مقدسات الإسلام والتمسك بالهوية الإسلامية ـ في الوقت الذي لم يسمعه أحدٌ يتحدث مرة واحدة خلال حكمه المديد عن الهوية المصرية أو الشخصية المصرية أو الوطنية المصرية.
وبدون شك فإننا نعتبر الرئيس مبارك المسئول الأول عن تدهور أوضاع الأقباط طوال فترة حكمه، ليس فقط بحكم موقعه ومسئوليته الدستورية، لكن بالأحرى بسبب إصراره على إنكار وجود مشكلة تتعلق بمواطنة الأقباط وبسبب السياسات التي طبقها، والأخرى التي كان واجبا عليه تطبيقها لكنه لم يفعل. المعضلة هي أن الرئيس مبارك ليس معروفا عنه سهولة تغيير سياساته، ولا نعرف إن كان سيفعل قبل نهاية فترة حكمه. على أي حال، فإن ما صرح به أمام أعضاء من حزبه الحاكم يوم 18 أبريل يبين إصراره على أن المساواة في المواطنة مطبقة بالفعل، وبالتالي لا توجد هناك مشكلة!

***
إذن فالواضح أنه ليس هناك من بين الأجهزة المسئولة والآليات السياسية للمجتمع من يشعر بأدنى المسئولية تجاه المواطنين الأقباط. ولا يهم أحدا سوى إطفاء الحرائق بأقل قدر من الجهود، مع التأكد من لوم المجني عليهم في كل حالة (..ومحاكمتهم وإدانتهم، بالطبع، باعتبارهم غير مختلي العقل!).
أما الكنيسة فهي تخضع لضغوط هائلة من قبل الدولة، لا تخلو من لوي الذراع، في كل أزمة بهدف تهدئة الأوضاع وامتصاص غضب الغاضبين بأي ثمن. ولذا فهي تجد نفسها مشدودة بين رغبتها في الاقتصار على أداء دورها (الذي هو ـ بجانب الدور الديني الصرف ـ "الشهادة للحق") وبين ضغوط الناس الذين لا يجدون متنفسا وموصلا لمطالبهم ومظالمهم.
وإذ يصاب الأقباط باليأس التام من مواقف الدولة ويتجرأ البعض منهم بالشكوى أمام جهات أعدها المجتمع الدولى بالتحديد من أجل معالجة الأوضاع التي تشذ عن المواثيق الدولية، تثور ثائرة الإعلام والحكام وتنهال الاتهامات والتخوينات والتهديدات والبذاءات على رأس كل من تسول له نفسُه الكلام.

***
نحن إذن أمام "مُحدّدة" رباعية الأضلاع:
1ـ أقباطٌ متمسكون حتى النخاع بقبطيتهم ومصريتهم بدون أدنى نية أو رغبة في التخلي عن أيهما أو عن وطنهم الذي هو وطن أجدادهم منذ فجر التاريخ الإنساني.
2ـ دولةُ لا تعترف للأقباط بحقوق المواطنة الكاملة، طبقا لما هو متعارف عليه في الدولة الحديثة، ولا ترغب (من القمة للقاع) في الاعتراف بوجود مشكلة، ناهيك عن البحث الجاد في حلول جذرية لها.
3ـ مجتمعٌ تغذى على أفكار التطرف الديني الذي قدمته له الدولة، لدرجة أنه لم يعد يعرف معنىً للمواطنة خارج الهوية الدينية الاستعلائية العنصرية؛ وأصبح يتقبل، إن لم يكن يمجد، العنف الديني.
4ـ أقباطٌ استعادوا من الوعي، بعد عقود من السلبية (التي كثيرا ما تنبع عن "تكبير المخ" ورغبةٍ في الابتعاد عن المواجهة اتقاءً للشر)، ما يجعلهم على استعداد للوقوف بحزم مطالبين بحقوقهم المشروعة. وإذ يرحبون بكون أغلبية المصريين مسلمين (على العين والرأس) فإن مصر هي في يقينهم دولةٌ متعددة الأديان وليست حكراً على أحد؛ ويجب أن تدار على هذا الأساس وحده. وإن كانوا مسالمين بطبيعتهم، كأحفاد لصناع "أم حضارات" البشرية، إلا أنه مع تزايد الضغوط فإن الانفجار وارد حتى لو كان مكروها.
وفي إطار هذه "المُحدَّدة" رباعية الأضلاع ستتحرك الأمور في الفترة القادمة. ولكن أطراف "المعادلة" كلهم، باستثناء الأقباط، مسلحون بأجهزة وأدوات السلطة أو الشارع ولهم من يمثلهم وينوب عنهم.
أحد أهم مشاكل الأقباط هي أنه مع اختفاء طبقة الزعماء التقليديين منذ 1952 أصبح تمثيلهم المدني شبه منعدم. ومن البديهي أننا لا نزعم أن الأقباط كتلة واحدة، ناهيك عن أن تكون متجانسة، اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا. ولكن من البديهي أيضا أن "قبطيتهم" تعطيهم خصوصية وتضع عليهم عبئا مشتركا، كمجموع وكأفراد. وإذ تم تهميشهم واستبعادهم بصورة زاعقة وساحقة عبر العقود الأخيرة، فإن إشكالية "تمثيلهم" تقفز على السطح.
وليس في هذا الكلام أي أثر "للطائفية" إذ أن تمثيل الأقليات العرقية أو الدينية بصفتها تلك على مستوى الدول هو أمر معروف ومطبق. ففي فرنسا مثلا، هناك "المجلس التمثيلي الإسلامي" (أو اليهودي أو الكاثوليكي) الذي ساعدت الحكومة على تشكيله منذ سنوات قليلة (ويسيطر عليه ـ بالمناسبة ـ إخوانجية فرنسا) والذي يقوم بدور "الوسيط" بين الدولة والمسلمين (أو اليهود أو الكاثوليك) فيما يتعلق بصفتهم تلك، وبغض النظر عن كونهم مواطنين، أو مقيمين، يتمتعون بالمساواة التامة في الحقوق والواجبات في دولة علمانية.
نحن إذن لا نرى مفرا من الدعوة لتشكيل "مجلس قبطي" يقوم بدور تمثيلي شبيه بما سبق ذكره في فرنسا. وهناك أساليب مختلفة، انتخابية الأساس، لإقامة هذا المجلس. ولكننا نرى أن يتم تشكيله على وجه السرعة بالصورة التالية، حتى يتم الاتفاق على أسلوب آخر. ونرى ألا يزيد أعضاؤه عن المائة من الأقباط، يشملون:
ـ أعضاء المجلس الملي العام.
ـ رؤساء جمعيات حقوق إنسان، ورؤساء الجمعيات الخيرية الكبرى.
ـ وزراء سابقون (على ندرتهم).
ـ أعضاء قياديون في الأحزاب السياسية (على ندرتهم).
ـ أعضاء قياديون في النقابات المهنية (على ندرتهم).
ـ أساتذة جامعات من المهتمين بالشأن العام.
ـ مستشارون حاليون وسابقون في محكمة النقض (على ندرتهم).
ـ عشرة أشخاص من بين أقباط المهجر المهتمين بأوضاع الأقباط ومصر على وجه العموم.
وإن كنا لا نتوقع ترحيبا حكوميا حارا بمثل هذا المجلس، فإننا لا نرى المانع في أن تتجمع لجنة تأسيسية صغيرة (نقترح أن يشكلها وينسق أعمالها واحد مثل المهندس يوسف سيدهم، الذي لا يمكن لأحد أن يشكك في وطنيته أو في اهتمامه بهموم الأقباط) للقيام بإجراءات تشكيله بأسرع صورة كجمعية حقوقية. فليس في هذه المبادرة العلنية ما هو غير شرعي أو غير قانوني؛ إذ أن دور المجلس سيكون مساعدة الدولة على اتخاذ السياسات والقرارات اللازمة لحل مشكلة مواطنة الأقباط.
وهو أمر يستحيل بدونه الكلام عن إصلاح، سواء كان بأجندة أو بغير أجندة! وفقط بعد أن تُحل المشكلة، ستكون "خللستان" في طريقها لتصبح "مصر" مرة أخرى.


guindya@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف