كتَّاب إيلاف

فيدرالية كردستان كأقليم قائد

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الأخبار السيئة سريعة الانتشار والأخبار الجيدة قلما تجد من يتحدث عنها. أريد هنا أن اتحدث عن الأخبار الجيدة في العراق الذي يجتاز محنة دامية. أريد أن أتحدث عما تمثله وترمز إليه الفيدرالية الكردية الوحيدة التي يسودها السلام والازدهار في عراق أبى يتامي صدام والإرهاب الإسلامي وبعض دول الجوار إلا أن يقدموا له يومياً وجبة من الدمع والدم. سيسجل التاريخ بأحرف من نار ودم لسوريا التي حولها نظامها إلى قاعدة خلفية للإرهاب، ولإيران التي تشجع القطاع المتطرف من الشيعة ضد قيادة آية الله علي السيستاني المعتدلة. الجدير بالذكر أن آية الله السسيستاني ينتمي إلى التصوف الشيعي الذي هو تعريفاً مضاد للعنف. وستحتفظ الذاكرة الجمعية العراقية لأية الله علي السيستاني بمأثرته التاريخية: رفض إعلان الجهاد ضد التحالف. وهو ما جرمه عليه الجهاديون العرب وفي مقدمتهم راشد الغنوشي.

لكن اسمحوا لي قبل الدخول في صلب الموضوع أن أقول كلمة على هامشه رداً على بعض الجهاديين التونسيين الذين يتساءلون بسخرية عن اكتشافي المتأخر للقضية الكردية. منذ الستينات تعاطفت مع ملحمة الملا مصطفي البرزاني الذي قاد من كردستان معركة الأمة الكردية من أجل نيل حقوقها القومية والثقافية. وفي سنة 1969 كتبت في الأسبوعية البيروتية"الحرية"، لسان القوميين العرب: أمتان مازالتا في الشرق الأوسط لم تنالا استقلالهما هما: الأمتان الفلسطينية والكردية. وفي الثمانينات والتسعينات شاركت من باريس في أغلب المظاهرات التي قادها الكرد دفاعاً عن حقوقهم القومية والثقافية المهضومة في العراق وإيران وتركيا، هذه الأخيرة حافظت على تراث الخلافة العثمانية في اضطهاد الأقليات. وعندما أصبح إقليم كردستان ملاذاً آمناً ومستقلاً عن حكم صدام منذ 1991رأيت فيه طليعة لتحرر الأقلية الكردية المضطهدة في تركيا وإيران وسوريا ونموذجاً صالحاً لكي تستلهمه كثير من أقليات الشرق الأوسط في نضالها لنيل حقوقها القومية والثقافية والمدنية والدينية. وفي 4/4/1998 وجهت على صفحات اليومية اللندنية"الحياة" رسالة مفتوحة إلى صدام حسين عددت له فيها بعض جرائمه ومنها مذبحة حلبجة وأعطيت فيها، لأول مرة في الصحافة العربية، كما لاحظ لي بعض الأصدقاء الأكراد، تفاصيل ضافية عن هذه المذبحة. وعندما قرأت في الأسبوعية "الوطن العربي"حديث الرئيس جلال طالباني الذي وجه فيه نداءً إلى مثقفي العالم العربي لزيارة كردستان للتعرف الميداني على تجربتها الرائدة، سارعت بضم صوتي إلى صوته وأمليت مقالاً نشر في إيلاف وفي عشرات المواقع الإلكترونية وبعض الصحف العربية قلت فيه لولا أن المرض أقعدني لكنت أول الملبين لنداء رئيس العراق الجديد وطالبت المثقفين بتلبية النداء. بعد مسيحي لبنان، الذين كانوا رواد الحداثة في الشرق، ها هم أكراد كردستان يقيمون الدليل على جدارتهم بحكم أنفسهم بأنفسهم بطريقة حديثة وديمقراطية نادرة حتى الآن في الشرق الأوسط.

لنعد الآن إلى صلب الموضوع. الاهتمام بالأقليات له سببان رئيسيان: أولاً لأنه، مبدئياً، مشروع في حد ذاته فاضطهاد فرد واحد، فما بالك باضطهاد ملايين الأفراد، هو جريمة لا تغتفر، ومن واجب كل مثقف يعي مسئوليته كحارس يقظ للقيم الإنسانية والعقلانية أن يقاوم هذا الاضطهاد بكل ما أوتي من قوة؛وثانياً: لأن الأقليات كانت على مر العصور مصدر ثراء سياسي واقتصادي وعسكري وعلمي وفني لبلدانها. حسبنا أن نعرف أن الأقليات في الفضاء العربي والإسلامي أسهمت بحصة الأسد في صنع الحضارة العربية الإسلامية. مترجمو"بيت الحكمة"كانوا من الأقلية المسيحية، ومعظم الأطباء والعلماء كانوا من اليهود والنصارى، ونخبة الفقهاء والمحدثين كانوا بأغلبيتهم من الأقليات وخاصة الفارسية، والفلاسفة المسلمون لم يكن بينهم إلا اثنان فقط ينتميان إلى الأغلبية العربية هما الكندي وابن رشد. وكيف ننسى دور صلاح الدين الكردي في التصدي الناجع للحملة الصليبية من دون أن يلوث حربه الدفاعية بالانتحاريين وبالفظاعات التي ارتكبتها حماس والجهاديون المعاصرون، أو دور الفقهاء والكتاب والشعراء الأكراد مثل محمد كرد علي وأحمد شوقي. نعم أمير الشعراء أحمد شوقي كردي. يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب في مذكراته: كنت برفقة شوقي في دمشق فلما اقتربنا من قبر صلاح الدين قال لي: سأدخل لأقرأ عليه فاتحة الكتاب لأني كردي مثله، ويضيف عبد الوهاب: عندئذ عرفت أن أمير الشعراء كان من أصل كردي ولم يكن من أصل تركي كما كان يشاع.

العراق يقف اليوم على شفير الحرب الأهلية أولاً بسبب التناقضات التي جمدها النظام العسكري منذ 1958، وزادها نظام صدام البائد تجميداً، في البراد الكبير. بعد سقوط نظام صدام انكسر البراد وذاب الجليد فخرجت التناقضات القومية والطائفية... من مكمنها. صبت دول الجوار الزيت على هذه نار التناقضات وغذتها أخطاء الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة العراق خاصة غداة حرب تحريره من كابوس صدام. كنت منذ أول يوم ومازلت أعتبر إسقاط قوات التحالف لنظام صدام العائلي فعلاً تاريخياً محرراً. ولولا هذا الفعل لظل هذا النظام الدموي القليل النظائر في التاريخ باركاً كالكابوس على صدر الشعب العراقي يمارس التطهير العرقي ضد أقليته الكردية ويقصفها بأسلحة الدمار الشامل ويحفر لأغلبيته الشيعية المقابر الجماعية ويسجن ويعذب ويقتل كل سني أو مسيحي أو تركماني أو آشوري أو يزيدي... يشك في ولائه. صدر مؤخراً بالفرنسية كتاب جماعي معظم مؤلفيه عراقيون وعرب بعنوان"كتاب صدام حسين الأسود" أحصى ضحايا هذا العظامي الهاذي بـ مليوني ضحية من أبناء العراق. للذين يدعون أن حرب العراق كانت حرب احتلال ولم تكن حرب تحرير أحيلهم على استطلاعات الرأي التي تؤكد أن أغلبية العراقيين اعتبرت ولازالت أن حرب العراق هي حرب تحرير لا حرب

احتلال وأخص بالذكر استطلاعات معهد غالوب ومعهد جيمس الزوغبي ذوي المصداقية العالمية كما لاحظ د. سعد الدين إبراهيم.
محنة العراق الراهنة لا تمنعني من استشراف مستقبله الواعد. حتى إذا تطورت الاشتباكات الطائفية الجارية اليوم إلى حرب أهلية وقامت بدلاً من الفيدرالية العراقية ثلاث دول عراقية أساسية كردية، شيعية وسنية فإن حقائق العصر ستفرض عليها، بعد انجلاء غبار المعارك، أن تتعاون، في ظل نظام فيدرالي، لضمان أمنها القومي. لا يستطيع أي كيان سياسي أن يكتسب شرعية لدى مواطنيه إلا إذا حقق لهم ثالوث الازدهار الاقتصادي، والديمقراطية والسلام داخل وخارج الحدود. الدولة - الأمة المركزية، فضلاً عن الكيانات السياسية الصغيرة، لم تعد قادرة على تحقيق هذا الثالوث إلا إذا دخلت طوعياً مع جيرانها في فيدراليات أو أسواق مشتركة. وهكذا حتى في السيناريو المتشائم، فإن مكونات العراق القومية والطائفية ستعود تحت ضغط الحفاظ على أمنها القومي إلى التعاون ثم الفيدرالية التي تتضافر المؤشرات على أنها ستكون شكل الدولة -الأمة الذي سيسود العالم في القرن الحادي والعشرين. كيف ننسي أن الولايات المتحدة -لكن الترجمة الصحيحة هي الدول المتحدة كما لاحظ د. محمد عبد المطلب الهوني - التي هي اليوم أعظم قوة في العالم هي دولة فيدرالية. أهم التجارب الفيدرالية في القرن العشرين صمدت لامتحان الزمن، من ألمانيا الفيدرالية إلى المملكة البلجيكية.
بإمكان فيدرالية كردستان أن تلعب دوراً قائداً وأن تكون قدوة حسنة لباقي فيدراليات العراق. الطفل كما الشعوب تتعلم بالتقليد. ولا شيء يمنع الأغلبية العربية الشيعية والأقلية العربية السنية، عندما تستبطن شرطها كأقلية، من التعلم من تجربة كردستان العراق حيث نجح الحزبان الكرديان الكبيران بزعامة كل من رئيس الجمهورية العراقية جلال طالباني ورئيس حكومة إقليم كردستان مسعود البرزاني في بناء سلطة ديمقراطية وإقليم مزدهر اقتصادياً.

بإمكان كردستان العراق أن تكون أيضاً إقليماً قائداً لنضال كل كرد تركيا وسوريا وإيران المهضومي الحقوق. بإمكانها أن تساعد كرد تركيا على تقديم شكاواهم إلى لجنة بروكسيل ذات النفوذ الكبير على الحكومة التركية، وإلى محكمة حقوق الإنسان الأوربية التي أرغمت الحكومة التركية على إلغاء عقوبة إعدام زعيم كرد تركيا عبد الله اوجلان.

مؤسسات الاتحاد الأوربي هي اليوم أفضل ملاذ لكرد تركيا للمطالبة بإعطائهم حقوقهم القومية والثقافية وفق القوانين والمعاهدات الدولية ومعايير كوبنهاجن في ضرورة حماية حقوق الأقليات. وعندما تغدو الدولة التركية دولة قانون بمعايير الاتحاد الأوربي فإنها ستعطي مضطرة الأقلية الكردية حق تقرير المصير بما في ذلك الحق في الانفصال. ذلك هو أيضاً الحل الواقعي والعقلاني بالنسبة لكرد إيران وسوريا عندما تقوم في هذين البلدين دولة القانون التي هي الشكل الوحيد للحكم الصالح في القرن الحادي والعشرين.

الفيدرالية التي دشنتها كردستان هي أيضاً نموذج للحكم الصالح في الشرق الأوسط كله. الفيدرالية والحكم الصالح -وهما في كثير من البلدان متلازمان - مطروحان اليوم على جدول الأعمال في الشرق الأوسط. في العراق حيث غدت الفيدرالية أمراً واقعاً ودستورياً، وفي السودان الذي لن يضع حداً لاضطهاد أقلياته القومية والدينية في جنوب السودان وفي دارفور، ويضع ثانياً حداً لنزيف الدماء ونزيف الاقتصاد السوداني إلا إذا اقتنع أخيراً أن وسيلته الوحيدة إلى ذلك هي الفيدرالية. يبدو أن المملكة المغربية قد استلهمت تجربة كردستان العراق عندما أعدت مؤخراً مخططاً ستعرضه على الأمم المتحدة يتمثل في إعطاء سكان الصحراء الغربية الحكم الذاتي وتعميم اللامركزية على باقي أقاليم المملكة، ولا عجب في ذلك فالفيدرالية واللامركزية، في ظل ديمقراطية توافقية، هي نمط الحكم الصالح في العالم. لا تتحقق إرادة العيش المشترك بين مكونات دولة حديثة، دولة القانون، إلا إذا شعر جميع سكانها وخاصة أقلياتها أنهم يتمتعون بكامل حقوقهم الدينية والمدنية والثقافية والقومية واللغوية، وبحقهم في تقرير مصيرهم بما في ذلك الحق في الانفصال. وأن يكون ذلك في ظل ديمقراطية توافقية تقوم على التفاهم بين جميع مكونات البلد على صنع واتخاذ القرار بدلاً من الاحتكام دائماً إلى أغلبية الأصوات خاصة في الديمقراطيات الناشئة، كالعراق، حيث مازالت ثقافة احترام حقوق الأقليات لم تترسخ بما فيه الكفاية في الوعي الجمعي. لقد جرب الشرق الأوسط الحكم الطالح الذي دشن دائماً ديكتاتورياته باضطهاد الأقليات لكي يعمم بعد ذلك هذا الاضطهاد على جميع السكان. الشرق الأوسط، الذي هو فسيفساء من الأقليات، يفوق مجموعها في بعض البلدان الأغلبية الحاكمة كما في إيران مثلاً حيث الفرس أقلية بالقياس إلى مجموع الأقليات، في حاجة ماسة إلى الفيدرالية واللامركزية والديمقراطية التوافقية لتأمين استقراره الذي هو ضمانة ازدهاره.

منذ الآن تمثل فيدرالية كردستان نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه نمط الحكومات الصالحة في الشرق الأوسط. في ظل حكم ديمقراطي يتم فيه على غرار فيدرالية كردستان فصل الدين عن الدولة، أي أن تكون الدولة هي الفضاء العام ويكون الدين، كخيار فردي، منتمياً إلى الفضاء الخاص. هذا الفصل يشكل الضمانة الحقيقية للمواطنة الحديثة التي تفترض وجوباً المساواة بين جميع المواطنين بقطع النظر عن جميع الخصوصيات كالجنس والقومية والدين مثلاً.

الأقليات، والنساء والنخب الحديثة من جميع السكان هي ملح أرض الشرق الأوسط وخميرة تحديثه، وهي التي ستمنع في العراق كل ردة إلى الوراء، إلى الحكم الفردي ودولته المركزية التي لا يمكن إلا ان تكون ديكتاتورية مهما كان حاكمها. في العراق الجديد يوجد أكثر من 200 منظمة نسائية مستقلة. وكيف ننسي أن نساء العراق كانوا في طليعة من تصدوا للقوى الدينية المعادية لحقوق المرأة التي حاولت سجن المرأة العراقية في القبر المنزلي وحرمانها من حقوق المواطنة. البرلمان العراقي المنتخب ديمقراطياً هو أول برلمان في العالم العربي ثلثه من النساء. نساء العراق لسن راعيات لحقوقهن وحسب بل وأيضاً لحقوق جميع مكونات العراق، فقد أوصى "ملتقي نساء العراق" الذي انعقد في الأردن نيسان- إبريل 2005 بأن يكون العراق الجديد "دولة تعددية، فيدرالية وديمقراطية". وكان الملتقي بشهادة عالم الاجتماع د. سعد الدين إبراهيم ممثلاً لكل الطيف النسائي القومي والطائفي العراقي: كرديات، شيعيات، سنيات، صابئات، ومسيحيات. ويلاحظ سعد الدين إبراهيم أن ثلث الحاضرات كن محجبات لكن ذلك لم يمنعهن من"معارضة إقحام الدين في السياسة وإقحام السياسة في الدين، كما لم يمنعهن الحجاب من المشاركة في الرقصات العربية الكردية في الحفل الختامي".
هذه هي طلائع عراق الغد، العراق الفيدرالي، التعددي والديمقراطي. وإن غداً لناظره قريب.

* مداخلة في مؤتمر" أسبوع المدى الثقافي الرابع" المنعقد في إربل - كردستان في الفترة ما بين 22- 30 نيسان -إبريل 2006.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف