كتَّاب إيلاف

اكتبي نصا مستخدمة لغتك الخاصة..

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الزمان: لا يتغير.. فالتاريخ لا يعبر بأرض العرب.
المكان: غرفة صف في مدرسة حكومية للبنات.
الوقت: لا يهم أي واحدة من الموجودات.
الحصة: مادة تعبير.

كان الجو حارا جدا، وغرفة الصف ضيقة، والبنات مكدسات كسمك "الساردين" على كراسي متهالكة ملتصقة بطاولات أعياها الزمن. الأعداد المهولة للتلميذات وانعدام الصيانة جعلا مبنى المدرسة، كشيخ هرِم ينتظر الموت أن يصرعه وينهار في أية لحظة.
حلّت معلمة اللغة العربية ماجدة كالمصيبة الكبرى على الصف، وخيّم صمت مرتبك وأصبح المكان موحش. بدت التلميذات الصغيرات كالمعتقلين السياسيين في السجون العربية، المهددين بالاستجواب والتعذيب على مدار الساعة.
ماجدة معلمة لها سنوات طويلة وهي تُدَرس مادة اللغة العربية بجميع أقسامها.معلمة مرعبة، لم يرَ احد قط ابتسامة عبَرَت تقاسيم وجهها ولو بالخطأ. ذات معالم كلها بؤس وغضب. تبدو كأن الرب خلقها على مضض.
كعادتها المعلمة ماجدة دخلت على الطالبات بجبروت الحجاج "أرى رؤوسا قد أينعت..." توسطت في الساحة الأمامية لغرفة الصف، وألقت بنظرة مخيفة على البنات. بدأت تحدّق فيهن واحدة تلو الأخرى، كأنها مدير سجن شرس يبحث بين السجناء عن ضحية للتنكيل والضرب. بعدها أعطتهن ظهرها العريض وخلفيتها المكتنزة بالشحوم. جسمها مثلها غير متزن وليس متناسق مع نفسه، شكله كزجاجة شامبو "سانسيلك" ذات القاع المفروش والعنق الطويل. لذلك التلميذات يُطلقن عليها "المعلمة سانسيلك."
أمسكت المعلمة ماجدة بالطبشورة وبدأت تكتب على السبورة "اكتبي نصا مستخدمة لغتك الخاصة عن كيف كرّم الله الإنسان." رمت بالطبشورة على الأرض بقرف ثم التقطت مسطرتها الخشبية الصلبة، والتفتت إلى التلميذات المذعورات من سطوتها وقالت : أريد منكن أن تكتبن نصا قصيرا، لا يزيد عن نصف صفحة. تذكرنَّ فيه فضل الله على الإنسان..لا أريد كلام ليس له لزوم..كوني واضحة ومحددة..راعي قواعد النحو والصرف والإملاء..هيا ابدأن بالكتابة ولا أريد أن اشعر بأنفاسكن... والتي أحس بنَفَسَها سأكّسر هذه المسطرة على رأسها..لديكن ثلث ساعة ..هيا"
جميع البنات يدركن جيدا ما الذي سيحدث لو انزعجت معلمتهن منهن. فأذهانهن الصغيرة خزّنت تجارب مخيفة جرت لبعض التلميذات التي نالت منهن المعلمة ماجدة. بعض التلميذات أسالت ماجدة دمائهن من أيديهن الغضة من شدة الضرب..
مرّت ربع ساعة فرفعت فاطمة إصبعها بأدب شديد، لتعلن بأنها انتهت من كتابة النص. أتت المعلمة ماجدة وأخذت الورقة منها بعنف متَعَمَد وقالت بصوت أجش: "هل أعدتِ قراءة نصك وتأكدتِ من صحته؟؟" هزّت فاطمة رأسها بالإجابة ثم كتّـفت يديها بهدوء كما هو مطلوب منها أن تفعله بعد أن تنهي عملها..
جلست المعلمة ماجدة على كرسيها وبدأت بقراءة نص فاطمة:
" خلقَ الله سبحانه وتعالى الإنسان آدم وكرمّه كثيرا، لدرجة انه ساعة خلقه أمَرَ جميع الملائكة بالسجود له. أيضا خَلقَ له "حُرمة" تقوم على خدمته وتنفيذ طلباته، وتعمل من اجل توفير السعادة والراحة له، وإذا لم تكفيه "حُرمة" واحدة، فأن الله أجازَ له أن يحصل على أربع، هذا بالإضافة إلى الجاريات اللاتي ليس لهن عدد محدد. برَّ الله الإنسان آدم بالقيام بإرشاد البشر وهديهم بحيث بعث من صنفه جميع الأنبياء والرسل. انعَمَ الله على آدم بكل شيء في الإيمان له درجة، وفي الإرث له الضعف، وفي الشهادة صوته مقابل صوتين من أصوات "الحريم"، وفي العقل الكمال، وفي الاستشهاد مستواه كالأنبياء والصديقين في الجنة. آدم هو المخلوق المفضل لدى الله فقد جعله سيد الخَلق وحاكم هذه الأرض. خصَصَّ له حِصصا في الدنيا، كما خصَصَّ له حِصصا في الآخرة، وإذا اسُتشهد في سبيل الله له اثنتين وسبعون حورية عين بكارى، تنتظرنه في جنات النعيم. الله له فضل كبير ونعم كثيرة أسدلها على آدم، وكل ما على آدم هو أن يتبع ما أمر الله به، وينتهي عما نهى عنه، أن الله جلّت عظمته هو الكريم الرحيم.."
ذُعرت المعلمة ماجدة من نص فاطمة ونادتها بتشنج: "تعالي هنا يا بنت.." أتت فاطمة وهي ترتجف خوفا لا تدري عن الذنب الذي ارتكبته..سألتها المعلمة: "لماذا لم تذكري تكريم الله للمرأة .. يا بلهاء!!!" ردت فاطمة بهدوء: "أنت قلتِِ يا معلمة الإنسان..." وردت المعلمة: "وهل المرأة ليست بإنسان يا غبية؟" أجابتها فاطمة: "لا ادري.. يا معلمة..لم اعرف أنها إنسان..لم يعلمني احد أنها إنسان..الانسان لا يُخلق من ضلع اعوج وليس نجسا في بعض الايام..الذي اعرفه أن جدي كان مزواجا يطّلق ويتزوج ويقول خلقن "الحريم" ليكنَّ متاعا لنا، وان معظم أهل النار من "الحريم" لأنهن نسرات مخادعات...وكان يوصّي أبي دائما ويقول له "اضرب النساء بالنساء والحمير بالعصا.." أيضا أبي حين يتشاجر مع أمي ويصفعها يقول لها "أنتِ ملكي يا حيوانة، ولن تستطيعي أن تدخلي خيط في ابره إلا بأمري." خالي كان ثريا وأختيه الاثنتين الأرملتين كانتا بالكاد تستطيعان أن توفرا لقمة العيش لهما ولأطفالهما، وحين توفي والد خالي ورّث ابنه ضعفي ما ورّث لابنتيه! أخي الأكبر يضرب زوجته ليل نهار ويقول لها "هذا شرع الله فيك لأنك ناقصة عقل ودين ولا ينفع معكِ سوى الضرب.."وكلما اشتكت إلى والدها يقول لها: أنتِ مُلك لزوجكِ..أبي باع أختي الكبرى لشيخ ثري في عمر جدها بغير علمها...لأن من عَقـَد قِرانها لا يطلب إثبات شخصية "الحُرمة" المعقود عليها.. والد صديقتي سَرقَ حلال والدته بنفس الطريقة أيضا ..جَلبَ شهود زور إلى المحكمة، وامرأة انتحلت شخصية والدته فاستولى على أملاك والدته ولم تستطع أن تسترد منه شيئا...عمتي عادت يوما إلى بيتها وحاولت أن تفتح الباب ولم تستطع..جاءها سائق البيت وسلّمها ورقة طلاقها باحتقار، واخبرها أن كفيله الذي هو زوجها قد طلقها، وتزوج من امرأة أخرى، واستبدل قفل البيت، وان ثيابها أُرسلت إلى بيت والدها...عمي يسجن بناته ويحرّم عليهن الخروج من البيت، فهن أميات لأنه منعهن من الذهاب إلى المدارس...ويقول "الحريم" كالأفاعي "كيدهن عظيم" خاصة إذا تعلمن..هذا ما أعرفه عن "الحُرمة"..لا ادري أن كنتِ تعدين "الحُرمة" إنسانا...لكن إذا كانت إنسانا لماذا لم ينصفها ربها في شيء؟؟
تعجبت المعلمة من سرد فاطمة المؤلم، وتذكرت وجعها حين طلّقها زوجها بوحشية، وسلبها طفلها الوحيد احمد حيث كان رضيعا، ومن يومها وهي حاقدة على البشر وعلى العالم بأسره..استرجعت المعلمة نفسها بسرعة وقالت لها: "هيا انصرفي.. اذهبي إلى مقعدك..وتذكري إن الله عادلٌ ولكن عباده هم الظالمين..."

فغمغمت فاطمة بصوت غير مسموع وتساءلت: "عادل...لماذا خصَّ آدم بالكمال وحواء بالنقصان!!؟؟"

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف