الأقباط بين الأندماج الوطني والتذويب الديني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ما الذي يجري في مصر؟ وما هو التفسير الأبعد لظاهرة الاعتداء على الأقباط وكنائسهم؟ وهل من مخرج لهذا الكابوس؟
بكل بساطة الأقباط يتعرضون في العقود الأربعة الأخيرة لموجة جديدة من موجات "التذويب الديني" التي طالما عانوا منها طوال التاريخ.
هناك فرق بين "الاندماج الوطني" و "التذويب الديني". يتفاعل الأقباط بسرعة وبنشاط مع مشروع الاندماج الوطني على أرضية المواطنة في إطار الدولة المدنية، ولكن للأسف الاندماج الوطني كان فترات عابرة في تاريخ الأقباط الطويل ولم يبدأ إلا مع ظهور الدولة الحديثة على يد محمد علي عام 1805، واستمر حتى نهاية هذه الأسرة عام 1952، وعادت ريمة لعادتها القديمة كما يقولون.
لم تظهر كلمة مواطنة ووطنية ومصطلح "الجماعة الوطنية" إلا إبان هذه الفترة، ومن ثم من فأن أهم انجازات الليبرالية المصرية ودولة أسرة محمد على هو نشر مفاهيم الوطن والوطنية والمصرية والكفاح الوطني من آجل تعايش حقيقى على أرضية المواطنة، وكان من ملامح ذلك إلغاء نظام الذمية عام 1855.
وقد تجاوب الأقباط بهمة مع مشروع الاندماج الوطني، ولهذا يقول سعد زغلول في مذكراته أن الأقباط هم الذين بادروا بالذهاب إليه من أجل التحالف والكفاح الوطنى المشترك من آجل مصر وطن حر للجميع، على العكس كان نفور الأقباط من مصطفي كامل الذي كان يدعو إلى مشروع الجامعة الإسلامية ويدعم الاحتلال العثمانى في مواجهة الاحتلال الإنجليزي.
ظهور جماعة الأخوان المسلمين عام 1928 حمل معه مشروع أسلمة مصر وعودة محاولات تذويب الأقباط مرة أخرى، ولكن تيار الليبرالية والكفاح ضد الإنجليز والمناخ الذي كانت تعيشه مصر آنذاك جعل تأثير الأخوان ضعيفا.
مع مجيء يوليو 52 وانتماء الكثير من أعضاء الضباط إلى التنظيم الاخواني، رجعت مصر للوراء فيما يتعلق بالاندماج الوطني والهوية المصرية والديموقراطية، وكان ضمن أعضاء مجلس قيادة الثورة شخصيات متأسلمة غاية التعصب مثل حسين الشافعي وكمال الدين حسين الذي فرض كتاب نظمي لوقا على المدارس الحكومية، ومن سخريات القدر أن يجلس كمال الدين حسين على المقعد الذي كان يحتله يوما ما طه حسين كوزيرا للتعليم. الفرق بين فترة الليبرالية وفترة الثورية هو الفرق بين طه حسين، وكمال الدين حسين.
ولكن اصطدام عبد الناصر مع جماعة الأخوان أجل موضوع الأسلمة السافرة عقدين من الزمن والتي عادت تطل بوجهها القبيح مع نظام السادات واستفحلت في عهد مبارك.
وتخبطت مصر بين المشروع القومي العربي والمشروع الإسلاموي ثم التحالف بينهم مؤخرا على أرضية العداء للعالم وللغرب خصوصا.
ولكن الأقباط رفضوا المشروعين معا وتمسكوا بالهوية المصرية وبجذورهم التي تمتد إلى أعماق التاريخ المصري، وفي نفس الوقت استماتوا في مواجهة محاولات التذويب الديني.
المشروع الأسلامى الذى أطل بوجهه منذ بداية السبعينات لا يهدد الأقباط فقط فى دينهم بين الأسلمة والذمية وعند الحد الأدنى الذوبان فى الثقافة والهوية الأسلامية، وأنما أيضا يهدد الهوية المصرية فى صميمها ويشتتها ويحولها إلى شئ ثانوى تابع لهوية دينية عابرة الحدود.
الأقباط يضطهدون ويشتمون ليس لأنهم يقولون أن مصر لهم وحدهم ويريدون إسترجاعها كما يدعون عليهم كذبا، ولكن لأنهم يعلون الهوية والانتماء المصري على أي انتماء آخر، وفي نفس الوقت يعتبر الأقباط أنفسهم جزء من التيار الإنساني العالمي ولا يعادون العالم من آجل المتأسلمين.
العالم تغير وبات واضحا أن الأقباط لن يقفوا مع المتأسلمين في مشروع عدائهم الحالي للعالم، لأنه ببساطة عداء ينطلق من ثقافة دينية تنشر الكراهية وقد عاني منها الأقباط طوال قرون من الزمن.
منذ أيام السادات وحتى الآن يشكل النظام المصري والأخوان المسلمين وجهان لعملة واحدة فيما يتعلق بمشروع أسلمة مصر ومحاولة تذويب الأقباط في هذا المشروع، وليس غريبا أن الحكومة والأخوان معا يحتفون بالشخصيات القبطية التي تؤيد هذا المشروع، خذ مثلا السيد أدوارد غالي الذهبي والسيد نبيل لوقا بباوي وكلاهما يحتفي به النظام المصري وعينهم في المجلس النيابي كممثلين للأقباط، لأنهم يعملان بكل همه لتذويب الأقباط في المشروع الإسلامي، فكلاهما حصل على درجة علمية في الشريعة الإسلامية وكلاهما تم تكريمه من قبل الأزهر. في نفس الوقت يحتفي الأخوان بشخصيات مثل رفيق حبيب وجمال أسعد وهم يؤيدان أيضا تذويب الأقباط فى المشروع الأسلامى،فجمال أسعد دخل مجلس الشعب على قائمة الأخوان ، أما رفيق حبيب عضو حزب الوسط الإسلامي تحت التأسيس فكل كتاباته تدور كلها حول مفهوم واحد وهو تذويب الأقباط في الهوية الإسلامية والمشروع الإسلامي.
ليس غريبا أيضا أن النظام والأخوان يشتركون فى الأصرار على نفى أن للأقباط مشاكل فى مصر فعلى مدى حكمه الطويل يصر الرئيس مبارك بأنه ليس هناك مشاكل للأقباط رغم كل الأعتداءات والمذابح التى تعرضوا لها، وفى نفس الوقت يصر الأخوان إنه ليس هناك مشاكل للأقباط أيضا، وفى بيانهم الأخير عقب أحداث الأسكندرية جاء فيه " نحذر من الترويج الزائف عن وجود مشكلة قبطية فى مصر"... وأضح أنهم يرون أن هذه المذابح غير كافية للتخلص من الأقباط!!!
لم أسمع أبدا الرئيس مبارك طوال ربع القرن الأخير يتكلم عن الهوية المصرية ولكنني سمعته عشرات المرات يتكلم عن الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي والهوية الإسلامية، أما الأخوان المسلمين فلا يعرفون فكرة سوي فكرة الأمة الإسلامية والهوية الإسلامية. الخلاف بين النظام والأخوان في الدرجة وليس في النوع، ولكن في النهاية المشروع واحد، والإعلام والتعليم والدراما وثقافة الشارع في مصر في العقود الأخيرة كلها تدور حول مشروع الاسلمة والمحاولات القسرية لتذويب الأقباط في هذا المشروع.
لم ينعزل الأقباط نتيجة الاحساس بالظلم والاضطهاد وعدم المساواة فقط وإنما انعزلوا لاستشعارهم بتحول واضح في نموذج "الاندماج الوطني" إلى مشروع "التذويب الديني" وقد ترتب على ذلك أيضا تأكل القيم المشتركة بالتدريج وانكماش أرضية التعايش المشترك، لصالح قيم جديدة وافدة، وقد تمسك الأقباط في المقابل بالقيم المصرية المتوارثة وبالهوية المصرية وبايمانهم الديني.
الأقباط حسموا موضوع الهوية مبكرا، المشكلة الأساسية تكمن في قطاع كبير من المسلمين لم يحسموا مسألة الهوية حتى الآن من مصطفي كامل إلى مهدي عاكف.
لا تجد قبطيا واحدا، باستثناء الذين قبلوا مشروع الأسلمة، يتحدث عن مفهوم الأمة بمعني يزيد عن حدود مصر الجغرافية، لأنهم يرون بلدهم مصر نموذجا متكاملا لأمة لاتحتاج امتدادا جغرافيا وإنما التفاعل بندية وبايجابية مع الآخرين. الأقباط ليسوا جماعة أصيلة فحسب وإنما هم في الواقع ومعهم الليبراليين المصريين حراس للهوية المصرية في أزمنة الانحطاط.
رغم الاختلاف والتباينات الكثيرة بين الأقباط، وهذا طبيعي لشعب يزيد عن عشرة ملايين، إلا أن هناك توحد حول مفهومين: التمسك بالهوية المصرية ومقاومة التذويب الديني حتى الموت، بل أن كل تاريخ الأقباط يتمحور حول فكرة واحدة هي مقاومة التذويب الديني، وقد دفعوا ملايين الشهداء في مقابل ذلك.
الكنيسة القبطية هي حصن مقاومة التذويب عبر العصور، ولهذا يحتمي الأقباط بها في فترات الأزمات، ولهذا أيضا تستهدف بالهجوم لأن الطرف الأخر يدرك أنها القلعة الصامدة في مواجهة التذويب ، والأقباط يخرجون بصورة تلقائية من الكنائس إلى الاندماج العام بمجرد إنتهاء خطر التذويب، وهذا ما حدث أبان الفترة الليبرالية والتي أسس فيها العلمانيون الأقباط المجلس الملي كبرلمان علماني لإدارة شئون الأقباط.
أيضا التفاف الأقباط حول قداسة البابا شنودة أمر طبيعي لأنه رمز مقاومة التذويب في العقود الأخيرة ووقفته في وجه مشروع تطبيق الشريعة أيام السادات عرضه لمشاكل لا حصر لها ولكنه صمد بصلابة وانتصر.
المشكلة ليست في الاضطهاد فقط وإنما الهدف هو تركيع الأقباط وإذلالهم لارغامهم على قبول المشروع الإسلامي، وإصرار الأقباط على حقهم في بناء الكنائس ليس فقط من آجل العبادة، ولكن لأن وجود كنيسة في كل بلد وقرية مصرية بها أقباط هو بمثابة منارة مصرية تقاوم الذوبان وتحافظ على الهوية.
حديث الأستاذ مهدي عاكف الذى نشرته صحيفة روز اليوسف مؤخرا يعكس جوهر المشروع الإسلامي، فالجنسية لديه هي الإسلام ولا يمانع من أن تحتل مصر من قبل دولة إسلامية، أو أن يحكمه ماليزي، أما مصر فكما قال بالنص طظ في مصر وأبو مصر واللي في مصر.
أما الأقباط فمهما كان الحصار والاضطهاد فلن يركعوا ولن يذوبوا وسيظلون إلى النهاية متمسكين بإيمانهم وبهويتهم المصرية الأصيلة ويفتحون أذرعهم لكل القوي العلمانية التي تحترم الحريات الدينية وتعتز وتعلي الهوية المصرية على ما عداها، والكرة فى ملعب الأغلبية لانقاذ مصر من جنون المتأسلمين والعودة إلى المواطنة المصرية كمظلة للجميع.
كاتب ومحلل سياسى - واشنطن
Magdi.khalil@yahoo.com