سنة على سقوط مشروع الهيمنة السورية على لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
شهد الشرق الأوسط قبل عام حدثاً في غاية الأهمية تمثل في سقوط مشروع الهيمنة السورية على لبنان. قبل سنة، في السادس والعشرين من نيسان-أبريل 2005 تحديداً، خرجت القوات السورية من لبنان تحت ضغط اللبنانيين أوّلاً ورغبة المجتمع الدولي على رأسه الولايات المتحدة وأوروبا ثانياً... كان متوقعاً حصول ذلك على مراحل نتيجة صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن، وهو قرار تسبّب فيه الأصرار السوري على التمديد للرئيس اللبناني أميل لحود. لكن أغتيال رفيق الحريري، في وقت كان النظام السوري يسيطر على الأمن الأمن في لبنان سيطرة كاملة، جاء لجعل الأنسحاب يتم بشكل سريع وحاسم. نعم حصل الأنسحاب بشكل سريع وحاسم، لكن النظام السوري ما زال يحلم بالعودة الى لبنان معتقداً أنه سيظل قادراً على التحكم بالبلد عبر قوى معينة على رأسها "حزب الله" أو الألغام التي خلفها بما في ذلك السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها والمنظمات الأصولية السنّية التي أراد دائماً أبلاغ العالم أنه الوحيد القادر على ضبطها... والمعاهدة الموقعة بين الجانبين السوري واللبناني في 22 أيار- مايو 1991 والتي تضمنت أتفاقات من كل الأنواع تربط لبنان بسوريا وتقيّده بها. لم يكن صدفة أن الرئيس الراحل حافظ الأسد أختار يوم 22 أيار-مايو بالذات لتوقيع المعاهدة مع لبنان. أن هذا التاريخ يكشف النيات الحقيقية للرئيس السوري الراحل، نظراً الى أن 22 أيار - مايو 1990 هو يوم تحقيق الوحدة اليمنية. تلك كانت وحدة أكثر من طبيعية بين كيانين سياسيين فيهما شعب واحد أنفصلا بسبب الظروف الدولية، لكنهما عادا الى الوضع الذي يفترض أن يكونا عليه، أي الوضع الطبيعي الذي أسمه الوحدة بمجرد زوال الظروف الدولية. وقد تمثلت هذه الظروف بالأستعمار البريطاني للشطر الجنوبي للبلد الذي أستمر حتى العام 1967 ثم بالحرب الباردة التي أستمرت حتى العام 1990. كان أنهيار الأتحاد السوفياتي أنهياراً للمنظومة التي بناها في العالم وكانت اليمن الجنوبية جزءاً لا يتجزأ منها نظراً الى أنها وفّرت له موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية. كان أنهيار النظام في الجنوب بمثابة تتمة لأنهيار جدار برلين وسقوط برلين الشرقية أمام الحرية والقيم التي كانت تمثلها برلين الغربية. هناك أمران لم يدركهما حافظ الأسد. ألأول توق اللبنانيين الى الحرية والأستقلال وقدرة لبنان على أن يكون بلداً مستقلاً، عن سوريا أولا، على الرغم من كل المشاكل والمصاعب التي صدرها له النظام السوري. أما الأمر الآخر فهو أن برلين الشرقية لم تجتاح برلين الغربية. ما حصل هو العكس. وحتى أذا أفترضنا أن لبنان يمثل في المعادلة القائمة مع سوريا برلين الغربية، فأنه لن يكون قادراً على نقل تجربته اليها بالقوة لأسباب لا يمكن ألا الأقرار بها ذات علاقة بالموازين القائمة بين البلدين.
كان ملفتاً أن النظام السوري الذي يتحمّل بطريقة أو بأخرى المسؤولية عن أغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه على رأسهم النائب باسل فليحان، لم يحاول حتى التفاوض في شأن الأنسحاب وتفاصيله. بين ليلة وضحاها، لم يعد وجود لقوات عسكرية سورية في لبنان. بقيت بالطبع عناصر أمنية في حماية هذا الحزب "اللبناني" أو ذاك في هذه المنطقة أو تلك. كان كافياً مجرّد شعورالنظام في دمشق بأن الضغوط اللبنانية والعربية والدولية حقيقية، لتنفيذ الأنسحاب من دون أسئلة أو أجوبة طاوياً بذلك صفحة في تاريخ العلاقات بين البلدين الشقيقين اللذين يفترض ألاّ يكون هناك ما يفرّق بينهما سوى الخط الحدود المعترف به دولياً... لو كان هناك في دمشق من هو قادر على التفكير بالمستقبل بدل البقاء في أسر عقد الماضي وأوهامه بما في ذلك أن برلين الشرقية يمكن أن تجتاح برلين الغربية.
كان أغتيال رفيق الحريري، العربي الأصيل الذي عمل من أجل خدمة سوريا ولبنان والسوريين واللبنانيين، أفضل تعبير عن عمق الأزمة التي يعيشها النظام السوري. أنها أزمة تجعله يستمر في الحلم بالعودة الى لبنان عسكرياً بدل أستغلال خروجه من البلد لمعالجة المشاكل الحقيقية التي تعاني منها سوريا والتجرؤ على طرح هذه المشاكل، التي يُعتبر الأعتراف بها خطوة أولى لا بدّ منها على طريق البحث عن حلول.
على العكس من ذلك، رفض النظام السوري الأقرار بأنه يمرّ بأزمة عميقة وتابع عملية الهروب الى أمام التي أوصلته الى الأرتماء في أحضان النظام الأيراني وتحوّله الى مجرد تابع له غير مدرك أن أي عملية هروب الى أمام لا يمكن ألاّ أن تكون لها نهاية. والدليل على ذلك ما حلّ بالنظام العائلي- البعثي لصدّام حسين الذي أتقن فنّ الهروب المستمر الى أمام منذ اليوم الأوّل لوصول صدّام الى موقع الرئاسة. وقتذاك، تمثّلت أوّل عملية هروب من الواقع بأعدام الرفاق البعثيين بحجة التآمر على رئيس النظام! وتوالت الأخطاء التي بلغت ذروتها بأحتلال الكويت بعد سنتين من أنتهاء الحرب الظالمة التي شنّها صدّام على أيران.
بعد سنة على الأنسحاب السوري من لبنان، لم يعد مجال لأخفاء الواقع وذلك على الرغم من حال العجز التي يعاني منها العرب عموماً والتي كان أفضل تعبير عنها رفضهم الوقوف مع لبنان في قمة الخرطوم الأخيرة. في تلك القمة بدت الأنظمة العربية غير قادرة على قول كلمة حق تواجه بها الباطل، غير مدركة أن التهاون مع ممارسات المحور الأيراني- السوري في لبنان سيعود بالكوارث على العرب، كلّ العرب وليس على لبنان وحده على غرار ما حصل ويحصل في العراق.
من حسن الحظ أن قوى عربية معينة كانت تعتقد أن في الأمكان أستعادة النظام السوري من أيران، باتت تدرك حالياً أن هذا الأمر مستحيل. بدأت هذه القوى تستوعب أن المسألة ليست مقتصرة على السيطرة على لبنان وتغيير أتفاق الطائف بعد التخلص من رفيق الحريري أهمّ شخصية عربية ودولية في البلد، بل تتجاوز ذلك بكثير. أن المسألة صارت مرتبطة بتغيير شامل على الصعيد الأقليمي يأخذ في الأعتبار وجود قوة أقليمية وحيدة الى جانب أسرائيل هي أيران، مع فارق أن أيران على العكس من اسرائيل موجودة بأشكال مختلفة في الخليج الغني بمصادر الطاقة. أنها أيران ما بعد الأحتلال الأميركي للعراق، وهو أحتلال أدى الى نجاح منقطع النظير للمشروع الأيراني. هل صدفة أن أيران استطاعت خلال فترة وجيزة ملء الفراغ الذي خلّفه الأنسحاب العسكري السوري من لبنان؟ هل صدفة أيضاً أن تكون أيران أستطاعت ملء جانب من الفراغ السياسي الذي نجم عن الأنهيار الذي أصاب أشباه السياسيين وأشباه الأحزاب من حلفاء سوريا في لبنان؟ كذلك هل صدفة أن تتمكّن أيران، عبر "حزب الله"، من أستغلال الساذج الذي أسمه ميشال عون الذي يتزعّم الكتلة المسيحية الأكبر في مجلس النوّاب اللبناني وتوظيفه في لعبتها الأقليمية؟
بعد سنة من الأنسحاب العسكري السوري من لبنان، لا تزال لعبة الهروب الى أمام التي يمارسها النظام السوري مستمرة، مع فارق أنها صارت مرتبطة أرتباطاً عضوياً بما تقرره طهران. فهم بعض العرب ذلك باكراً وفهمه بعض آخر متأخراً، وهذا يدعو الى التساؤل بكلّ صراحة هل يفلت النظام السوري من العقاب الذي يفترض أن يناله جراء المسؤولية التي يتحمّلها عن أغتيال رفيق الحريري؟ الجواب هل مسموح لدولة مثل أيران أن تتحكم بالخليج ومصادر الطاقة فيه؟ ماذا حلّ بصدّام حسين عندما اعتقد أن احتلال الكويت مجرّد نزهة وأنه سيفاوض الأميركيين من موقع قوة بعد سيطرته على نحو عشرين في المئة من مخزون النفط العالمي؟ قد تطول لعبة الهروب الى أمام، لكنّ لا بدّ لها من نهاية. من كان يتجرّأ قبل أغتيال رفيق الحريري على أن يراوده مجرد حلم بأن الجيش السوري سينسحب في يوم من الأيام من لبنان؟
أن الأنسحاب السوري من لبنان كان في مصلحة البلدين والشعبين، شرط تخلي النظام في دمشق عن حلم العودة الى لبنان وعن الكذبة الكبرى التي تقول أن رافضي الوجود العسكري السوري في لبنان "أكثرية وهمية".هذه أكثرية حقيقية في كل الطوائف اللبنانية بما في ذلك الطائفة الشيعية التي أستطاع النظام الأيراني خطف قرارها في هذه المرحلة من تاريخ البلد. عاجلاً أم آجلاً، سيتبين أن الظلم الذي تعرض له لبنان والذي لا يزال يتعرض له لايمكن أن يستمر الى ما لانهاية وأن أنتصار برلين الشرقية على برلين الغربية من رابع المستحيلات. من كان يصدق أن القوات السورية ستخرج يوماً من لبنان. من كان يصدق أن أهل السنّة في لبنان سيرفعون يوماً شعار "لبنان أوّلاً"؟ من قال أن خريطة الشرق الأوسط لم تتغيّر؟