جريمة الدّفاع عن الإرهاب: جرائم المثقّفين العرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في صائفة سنة 2004، رأيت مثقّفين يتبادلون أشرطة أقراص مدمجة تصوّر عمليّات ذبح رهائن من الغربيّين قام بها في العراق من أطلق عليهم لقب "المقاومين". والعجيب أنّ المتفرّجين على هذه الأقراص لم يستفظعوا مشهد السّكّين وهو يحزّ في الرّقاب البشريّة ومشهد الدّماء النّازفة والوجوه الفاغرة فاها ألما وذعرا ودهشة، بل كانوا يهلّلون ويكبّرون لما فعله الملثّمون الأبطال بالقوى الغربيّة المتسلّطة المحتلّة. والمهمّ هو أنّ هؤلاء المتفرّجين لم يكونوا من الإسلاميّين المتطرّفين، بل إنّ منهم من هو حاصل على شهائد عليا من جامعات غربيّة راقية. هل يمكن أن يبلغ كره الغرب واعتباره كتلة واحدة معادية إلى هذا الحدّ؟ بل هل يمكن أن يتحوّل الكره إلى حبّ للكره، يعمي ويصمّ ويحوّل النّاس إلى شبه أكلة للحوم البشر؟ لنسلّم بأنّ الذّابحين والمسجّلين للشّريط قبضة من المرضى النفسانيّين الذين انفصلت لديهم دوافع الموت عن دوافع الحياة، فما قولنا في المتفرّجين المستمتعين الشّامتين، وهم أناس أسوياء لم يستبدلوا الواقع المعيش بمملكة هذيانيّة؟
ومؤخّرا ساقني الإبحار في شبكة العنكبوت إلى مقال يعتبر فيه صاحبه الإسلام مرادفا للإرهاب، ويسوق للاستدلال على رأيه الآية القرآنيّة تلو الآية إلى أن يقول: "فكلّ مسلم مرعب وإرهابيّ لكن بالمفهوم الشّرعيّ وليس بالمفهوم الإعلاميّ الدّنيء، فنحن نرعب أعداء اللّه ونرهب أعداء الدّين." كاتب هذا الكلام ليس من "النّاشطين" في الحركات الإرهابيّة، بل هو إمام وخطيب في إحدى المدن العربيّة، ولم ينشر مقاله في موقع غير مناهض للإرهاب فحسب، بل نشره في صحيفة عربيّة معروفة ومرموقة (1).
وفي مقال سابق عن الإرهاب، ذكرت أمثلة عن مثقّفين عرب بارزين اعتبرتهم مورّطين في التّشجيع على الإرهاب وفي الإشادة برموزه. ذكرت منهم رئيس تحرير لصحيفة يوميّة معروفة يطلق على ابن لادن لقب الشّيخ ويبرّر تفجيرات تنظيم القاعدة، ومديرا لمركز أبحاث بلندن يعلّق على تفجيرات قطارات الأنفاق بلندن قائلا إنّه لو ثبت أن تنظيم القاعدة قد دبر هذه التفجيرات فعليه أن يفخر لأنه مرغ أنوف كبار الدول!(2)، ووزيرا عربيّا سابقا ومستشارا للّجنة العربيّة للدّفاع عن الصّحفيّين صرّح بأنّه يمثّل الوجه السّياسيّ لتنظيم القاعدة، وأنّ ابن لادن "مخلّص" للأمّة، وأنّ هذا الشّخص "باع حلاله وجلس على رؤوس الجبال..."وأنّه يؤيّد ما يسعى إليه من أهداف لخدمة الأمّة الإسلاميّة" (3).
توهّمت أنّ حرص هؤلاء المثقّفين على سمعتهم الأخلاقيّة الفكريّة سيجعلهم يردّون التّهمة عن أنفسهم أو يدقّقون، أو يصحّحون حتّى لا تدينهم الأجيال القادمة، كما أدين المثقّفون المتورّطون في دعم النّازيّة والفاشيّة مثلا، وكما سيدان هؤلاء المثقّفين والمحامين العرب الذين يلهجون بذكر صدّام حسين ويحلمون بعودة مملكته. ولكن كان هذا محض وهم، لأنّ المثقّفين الذين ذكرتهم يدافعون عن الإرهاب بتصميم وعقيدة راسخة.
وأنا من الذين يتساءلون منذ سنوات، ولا من مجيب: أيّ انقلاب للمعايير أو أيّ ضمور للحسّ الأخلاقيّ، أو أيّ تفكير سياسيّ يمكن أن يجعل مثقّفين، لا أناسا بسطاء غير متعلّمين، يمجّدون أعمال المجرمين المستهينين بالأرواح وبالحرمات الجسديّة؟
إدانة الإرهاب أمر مفروغ منه لدى النّخب المثقّفة في العالم أجمع، وانطلاقا من هذه الإدانة الأخلاقيّة يشرع المفكّرون في طرح الأسئلة على أنفسهم وفي محاولة فهم أسباب الإرهاب، وفي تحميل الدّول الغربيّة جزءا من مسؤوليّة ظهور الإرهاب الانتحاريّ المعولم واحتدامه. إنّهم يطرحون القضايا الإيطيقيّة بعد أن يكون أمر القضيّة الأخلاقيّة محسوما. أمّا في العالم العربيّ، فإنّنا نخبنا ما زالت بصفة عامّة تتخبّط في القضيّة ما قبل الإيطيقيّة، أي ما زلنا نتخبّط في إدانة الإرهاب أو عدم إدانته من النّاحية الأخلاقيّة.
والشّكل المتعالم والمقنّع للدّفاع عن الإرهاب هو ترديد أنشودة الحقّ في المقاومة المشروعة. وينسى المطالبون بهذا الحقّ أنّ المقاومة المشروعة لا تستهدف المدنيّين وغير المحاربين، فهم يقفون عند "ويل للمصلّين" في قراءة المواثيق الدّوليّة. وبقطع النّظر عن المواثيق والقوانين، هل توجد قضيّة في العالم يمكن أن تبرّر قتل النّاس الآمنين في مطعم أو مرقص أو سوق أو محطّة قطار؟ هل توجد قضيّة في العالم يمكن أن تبرّر تحويل البشر الأبرياء إلى أكداس من اللّحم المتناثر؟
أمام ضحيّة الظّلم طريقان: إمّا أن ترفض منطق الضّحيّة والجلاّد ومنطق الانتقام وأن تنتقل إلى الفعل الإيجابيّ البّنّاء خارج هذين المنطقين، وإمّا أن تتحوّل بدورها إلى جلاّد ينشر الظّلم الأعمى من حوله، ويحوّل من حوله إلى ضحايا. وهذا هو الطّريق الثّأريّ البدائيّ الذي اختاره الإرهابيّون، واختاره إيديولوجيّو الإرهاب والعنف القوميّ. هذه هي الحكمة المشبوهة التي يروّجها نجوم ثقافة المشهد عندنا.
إنّ التّماهي ليس دائما عمليّة نفسيّة محبّذة، ولكنّه حدّ أدنى مطلوب في الشّعور الأخلاقيّ. فهؤلاء المتعالمون المبرّرون للإرهاب، ليتخيّلوا أبناءهم، أو ليتخيّلوا أنفسهم ضحايا تفجيرات غير متوقّعة تطولهم في بيوتهم أو في أماكن عملهم أو في أماكن التّرفيه التي يرتادونها. قساة القلوب المشيدون بالإرهاب باسم المقاومة، علّهم يشعرون بالقسوة ولو خياليّا عندما تطول أجسادهم وأجساد فلذات أكبادهم، لكي يخرجوا من الصّروح النّرجسيّة التي يشعرون فيها بالسّلامة والأمن، ويطلقون منها فلسفاتهم الإضحويّة المريضة.
أرجو أن لا يعجّلني الموت قبل أن أرى جيلا جديدا من الشّباب، له الحدّ الأدنى من الحسّ الأخلاقيّ والمدنيّ، يأتي ليحاكم أمام التّاريخ هؤلاء المثقّفين المتورّطين في جريمة الدّفاع عن الإرهاب والإرهابيّين. ليس لمن لا حول له ولا قوّة إلاّ إطلاق الأمنيات، والتّمسّك بخيط من الأمل.
هوامش
1-صاحب المقال هو الشّيخ ناصر الأحمد، إمام وخطيب جامع النّور بالخبر، والصّحيفة التي نشرته هي "الوطن العربيّ"، وقد نشر على الموقع المذكور بتاريخ 28/ 7/ 1422.
2 -هو الشيخ هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية، وهذا التّصريح أدلى به على شاشة قناة الجزيرة الفضائية.
3 -هو الدكتور نجيب النعيمي، وزير العدل القطريّ السّابق، وهذا التّصريح أدلى به لبرنامج "إضاءات"، الذي تبثه قناة "العربية".
كاتبة المقال باحثة تونسيّة