شريعة المماليك (1/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
صفحات من تطبيق الشريعة
فى عصرالسلطان المملوكى الأشرف قايتباى: 872 ـ902
مقدمة
1 ـ شريعة الاسلام الحقيقية هى الشريعة القرآنية التى طبقها خاتم النبيين عليه وعليهم السلام. هذه الشريعة الاسلامية الحقيقية تخالف ما ساد فى العصر الأموى وما تلاه من عصور ساد فيها الظلم والاستبداد باسم الاسلام. هذه الشريعة الاسلامية القرآنية يمكن فهمها اذا توجهنا للقرآن الكريم وحده طالبين من الله تعالى الهداية وتدبرنا آياته وقرأناه وفق مصطلحاته قراءة موضوعية، وهذا ما فعلناه ونفعله فى مؤلفاتنا.
هذه الشريعة القرآنية يمكن تطبيقها الآن ـ خصوصا ـ لأن العصر الراهن هو عصر الديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق المواطنة، وهى نفس القواعد الأساسية للشريعة الاسلامية الحقيقية. حقيقة الأمر أن النظم العلمانية الديمقراطية فى الغرب ـ خصوصا فى الشمال الأوربى: سويسرا واسكندنافيا ـ هى أقرب النظم الى الشريعة الاسلامية الحقة، بينما تقع النظم الاستبدادية الشرقية ـ القائمة على الظلم والقهر ـ فى تناقض هائل مع الشريعة الاسلامية. وهى فى حاجة ماسة لاصلاحها ـ سلميا وتدريجيا ـ من داخل الاسلام..
وهذا أيضا ما تثبته كتاباتنا.
2 ـ الاخوان المسلمون ضد هذا الاصلاح،وهم مع التطبيق الفورى للشريعة المتوارثة بالقفز الى السلطة بكل الوسائل. انهم يتحدثون عن تطبيق الشريعة دون تحديد ماهية الشريعة المراد تطبيقها؛ يرفضون اجتهادنا فى توضيح الشريعة القرآنية، وهم فى نفس الوقت عاجزون عن الاجتهاد فى تقديم اجتهاد فكرى يلائم العصر ويثبت صلاحية الاسلام وشرعه لكل زمان ومكان. وحتى لو اجتهدوا فى تقديم فكرة جديدة ـ كما فعل الترابى مؤخرا ـ لانهالت عليهم اتهامات السلفيين الماضويين بانكار السّنة وانكار ما هو معلوم لديهم بالضرورة، أو ما يسمونه بالثوابت أو ما وجدوا عليه آباءهم.
يقولون بتطبيق الشريعة على اطلاقها بالتعميم، وقد جعلوها شعارا سياسيا مبهما مطلقا بدون تحديد مثل شعار ( الاسلام هو الحل) فاذا طالبتهم بالتحديد والتوصيف وترجمة الشعار الى خطة سياسية وبرنامج عمل ودراسات جدوى بالأرقام والبيانات والمشاريع العملية القابلة للمناقشة والأخذ والرد والاعتراض والتغيير والتبديل والاحلال والتجديد ـ بادروك بالتكفير واهدار الدم كما فعلوا مع صديقى الراحل الدكتور فرج فودة.
بعضهم يخرج من المأزق قائلين ان الشريعة كانت مطبقة طيلة العصور السابقة، وهم يريدون بتطبيق الشريعة العودة بنا للتطبيق القديم.
3 ـ حسنا فلنقدم لهم هذه الصفحات من تطبيق الشريعة فى حياة السلطان قايتباى الذى اشتهر بالورع والتدين وأنه كان أتقى وأفضل سلطان مملوكى حكم مصر. وما ننقله يأتى من مؤرخ عاصر السلطان قايتباى وكتب تاريخ عصره باليوم والشهر، وكان يعمل قاضيا، أى كان متفاعلا مع الحياة اليومية والناس مع قربه من السلطة المملوكية وعمله فى خدمتها. انه المؤرخ القاضى ابن الصيرفى فى كتابه ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) والكتاب حققه الدكتور حسن حبشى، وهو منشور ومتداول.
ولنفهم الموضوع دعنا نبدا بلمحة تاريخية سريعة للتوضيح..
لمحة تاريخية:
فتح عمرو بن العاص مصر فصارت ولاية اسلامية خاضعة للولاية الراشدة ثم للخلافة الاموية ثم للخلافة العباسية في عصرها الاول.
واتيح لمصر ان تكون ولاية تتمتع بالاستقلال الذاتي في اطار الخلافة العباسية وذلك في عصر الدولتين الطولونية (254-292هـ) و الاخشيدية (323-358ه).
ثم اصبحت مصر مقرا للخلافة الشيعية تناوئ بغداد مركز الخلافة السنية بل وتحاول نشر الفكر الشيعي و النفوذ الفاطمي (358-567هـ).
ثم استولي صلاح الدين علي مصر وارجعها للخلافة العباسية و أسس الدولة الأيوبية التي اضطلعت في عصره بالجهاد ضد الصليبيين،الا ان خلفاءه تقاعسوا في الجهاد وتنافسوا فيما بينهم مما اضعف شأنهم وجعل لمماليكهم سطوة علي حسابهم.وبازدياد ضعف السلاطين الأيوبيين في مصر والشام تمكن مماليكهم في مصر من إقصائهم عن الحكم وتأسيس الدولة المملوكية التي ورثت عرش الأيوبيين والعباسيين وغيرهم من (648-921هـ).
وكان السلطان قايتباي (872 -902)هـ من ابرز السلاطين المماليك خصوصا في عصرهم الأخير.
المصريون وظلم الحكام:
والثابت تاريخيا ان المسلمين رحبوا بالفتح الإسلامي علي امل ان يخلصهم من ظلم الروم البيزنطيين خصوصا وقد كان هناك نزاع ديني بين الأقباط المصريين والمذهب الرسمي للمسيحية البيزنطية.
وظل الأقباط بعيدين عن المنازعات السياسية العربية التي أسفرت في النهاية عن قيام الدولة الأموية.
وقد اشتهر الأمويون بالتعصب والقهر والظلم ضد غير العرب فأصابوا الأقباط بالنكال.
وقد عدد المقريزى الشدائد التي أنزلها الامويون بالاقباط،ففي ولاية عبد العزيز ابن مروان صادر البطريرك مرتين وفرض الجزية علي الرهبان،ثم تولي بعده عبد الملك بن مروان ولاية مصر فاشتد علي النصارى واقتدى به فيما بعد الوالي قرة بن شريك الذي انزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا بها من قبل وزاد عليهم الخراج فثار الأقباط بالحوض الشرقي ( شرق الدلتا )فهزمهم الأمويون وقتلوا منهم الكثيرين.
ثم اشتد عليهم الوالي أسامة بن زيد التنوخي و أوقع بهم واخذ اموالهم و وشم ايدي الرهبان --أي رسم عليها علامة -ومن وجده منهم بغير وشم امر بقطع يده وضرب أعناق بعض الرهبان وعذب آخرين حتى ماتوا.
وتبعه في طريقة الوشم الوالي حنظلة بن صفوان الذي عمم الوشم علي كل الاقباط ومن وجده بغير وشم قطع يده.
وثار الاقباط فيما بين 121:132هـ في الصعيد وسمنود ورشيد واخمد الامويين ثوراتهم بقسوة. وحين قدم مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية هاربا الي مصر من العباسيين بعد هزيمته فى موقعة الزاب لم يحاول استمالة الأقباط بل اشتد في الإيقاع بهم الي ان قتله العباسيون في ابو صير سنة 132.
ونتابع المقريزي وهو يروى ثورات الأقباط في العصر العباسي وإخمادها بالعنف،وكانت آخر ثوراتهم في عهد الخليفة المأمون وقد أوقع بهم قائده الافشين،وانتهت بذلك ثوراتهم المسلحة.
يقول المقريزي (فرجعوا عن المحاربة الي المكيدة واستعمال المكر والحيلة..)
اذن كان الظلم احد الرموز الاساسية في سياسة الحكم في العصور الوسطى يسري ذلك علي الاستبداد الرومانى او العربي ـ عدا لمحات سريعة من العدل ـ فان الشعب المظلوم اذا عجز عن المقاومة الايجابية ركن الي المقاومة السلبية والي استعمال المكر والحيلة على حد قول المقريزى.
وكان اعتناق الأقباط الإسلام من اساليب النجاة من الظلم ودفع الجزية الباهظة.وقد فطن الأمويين لذلك فالزموهم بدفع الجزية حتي لو اسلموا، وقد انكر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ذلك علي والي مصر وكتب اليه ( ان الله بعث محمد هاديا ولم يبعثه جابيا )وتم رفع الجزية عمن اسلم من الأقباط.الا ان الحال عاد الي اسوأ مما كان عليه بعد موت عمر بن عبد العزيز.
لقد كانت المجتمعات في العصور الوسطى تخضع لمنطق الدين الذي يفسره الحاكم علي هواه ومن خلاله يمارس الظلم ويجد من يبرر له افعاله. وعدا فترات قليلة تمتع فيها المصريون بالعدل فان السمة العامة هي استمرار الظلم مع التمسك الشكلي بالدين.
كان اعتناق المصريين للاسلام ظاهرة فردية يقوم بها الفقراء للتخلص من دفع الجزية أو يقوم بها الكتبة الاقباط في الدواوين كي تنفتح لأحدهم أبواب الترقي في المناصب. وبعد اعلان اسلامه يتمتع بالمناصب والنفوذ وحينئذ يتم له تصفية حساباته القديمة من المسلمين الذين يقعون فى دائرة نفوذه، أو علي حد قول المقريزي (..فصار الذليل منهم باظهار الاسلام عزيزا يبدي من اذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصارنيته من إظهاره.)
دخول المصريين التدين الاسلامى افواجا منذ العصر الفاطمي:
ثم بدأ المصريين في التدين بالاسلام افواجا في العصر الفاطمي. لم يدخلوه فى عصر النبى محمد حيث كان التدين العملى وقتها أروع ما يكون. ولكن تعلموا الاسلام وفق التطبيق الشيعى أو التدين الشيعى المخالف للتدين السنى أو التطبيق السنى للاسلام.حدث هذا منذ منتصف القرن الرابع الهجرى، حيث كان الآزهر الشيعى بوابة الدخول فى التدين الشيعى.
كان الفاطميين الشيعة اصحاب مذهب يحظى بإنكار العرب المسلمين في مصر في ذلك الوقت ولم يكن العرب المسلمون في مصر الا أقلية، وكانت الأغلبية من المصريين الأقباط . وقد فطن الفاطميون الي العداء المستحكم بين العرب المسلمبن والاقباط. وكان من المنتظر ان يستميل الفاطميين اليهم هذه الأغلبية الصامتة المظلومة فهم الأكثرية وهم اهل البلاد وهم اكثر الناس تشوقا لرفع الظلم عنهم.
وعمل الفاطميون علي نشر الاسلام بين المصريين بالطريقة الشيعية بطبيعة الحال.ولم يجد المصريون وقتها فارقا اساسيا بين العقيدة الشيعية وبين ما توارثوه من عقائهم القديمة حيث يضاف التقديس الي البشر من الائمة أو الاولياء او رجال الدين . وفتحت الدولة الفاطمية ابواب المناصب امام المصريين خصوصا اذا اعتنق أحدهم الاسلام والدعوة الشيعية، فأصبح اليهودي المصري يعقوب بن كلّسِ الرجل الثاني في الدولة الفاطمية بعد الخليفة الفاطمى نفسه، وكان حكيم الدعوة الشيعية والذي قام بعبء نشرها في داخل مصر وخارجها.
وجذب الفاطميون المصريين لهم عن طريق الاحتفال بالأعياد الشيعية الإسلامية بل واحتفلوا بالاعياد القبطية والفرعونية، وتحت عنوان (ذكر الايام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها اعيادا ومواسم تتسع بها احوال الرعية وتكثر معهم )تحدث المقريزي بالتفصيل عن احتفال الفاطميين ومعهم عوام الشعب المصري وخاصته بمواسم واعياد رأس السنة ويوم عاشوراء وعيد النصر وليالي الوقود وشهر رمضان وعيد الفطر وعيد النحر وعيد الغدير وفتح الخليج والنوروز وميلاد (المسيح)والغطاس وخميس العهد وطقوس صلاة الجمعة.
ولازلنا ـ نحن المصريين المسلمين ـ نحتفظ ببعض الطقوس الدينية في تلك الاعياد مثل شم النسيم والسحور والاطعمة ذات المناسبات الدينية مثل الكنافة والقطايف وعروس المولد. ونشر الفاطميون لعن عمر بن الخطاب وكراهيته حتى أصبح اسمه يذكر فى صيغة السب أو " الردح " فى الأحياء الشعبية، وهو ما زال ساريا فى وصلات الردح الشعبية النسائية الى وقت قريب حين تصرخ احداهن تسب الأخرى قائلة بلهجة خاصة تجمع بين التحقير والتحدى: "نعم نعم يا عمر.."..
الا ان اهم ما توارثناه من العصر الفاطمي خصوصا هو تقديس الأضرحة خصوصا ما انتسب منها الي آل البيت مثل السيدة نفيسة الذي اقامة الخليفة المستنصر سنة 482هـ.وكانت السيدة نفيسة كانت قد توفيت سنة 208هـ.وتم دفنها في قبر عادي فلما جاءت الخلافة الفاطمية اقامت علي قبرها قبة وضريحا واحاطته بالدعاية والاساطير حتى صار احد المواضع المعرفة عند المصريين باستجابة الدعاء علي حد قول المقريزي.
وقد دخلت الدولة الفاطمية في دور الضعف ووقع علي وزيرها ( الافضل ) عبء تقويتها امام الخطر الصليبي فى الشام والخطر السني السلجوقي فى العراق.وكان من وسائله اقامة ضريح الحسين فى القاهرة ليستميل اليه المصريين بعد ان انفضوا عن الدعوة الشيعية.وخطط لذلك بمهارة، وعليه اثناء عودته من عسقلان أعلن الأفضل انه عثر علي رأس الحسين وتبع ذلك اساطير وتجهيزات لنقل الرأس ـ المقدس ـ الى القاهرة، وترتيبات أخرى لبناء المشهد الحسينى ومواكب لافتتاحه، وبذلك انشأ ضريح الحسين بعد بناء القاهرة بنحو مائتين وخمسين سنة.وكان الافضل يخطط لتقوية الدعوة الشيعية من خلال اقامته لضريح الحسين،ولكن سرعان ما انتهت الدعوة الشيعية والدولة الفاطمية بعد انشاء ضريح الحسين. ولكن استمر تقديس ضريح الحسين حتى الآن بعد ان دخلت الدولة الفاطمية متحف التاريخ. استمر تقديس مشهد الحسين فى قلوب أغلب المصريين ـ بدون خلفيات سياسية فاطمية لأنه يعبر عن عقيدة فرعونية اصيلة عادت تحت اسماء عربية ورموز جعلوها اسلامية. وبذلك لم يعد الفارق كبيرا بين الدين الفرعونى المتوارث داخل قلوب المصريين طيلة الآف السنين ـ والاسلام، بعد أن اصبح التدين بالأسلام يعنى تقديس الأضرحة وعبادة الألهة الموتى.
وانهى صلاح الدين الايوبي الخلافة الفاطمية وحاربت الدولة الأيوبية الدعوة الشيعية بتنمية التصوف السني واقامة الخوانق وبيوت الصوفية والأضرحة لهم. وورثت الدولة المملوكية الاهتمام بالتصوف وأوليائه،وحل التصوف بأوليائه وأضرحته محل التشيع كطريقة تدين عرفها اجدادنا المصريين حين اعتنقوا الاسلام ظاهريا منذ العصر الفاطمي فالأيوبي والمملوكي..ومع زحف هذا التدين المنسوب رسميا وظاهريا الى الإسلام زحفت اللغة العربية وتوارت أمامها اللغة المصرية القديمة الي اقصى جنوب الوادي.
استمرار ظلم الحكام بعد انتشار الاسلام:
اصبح المسلمون المصريون اغلبية تدين بدين الحاكم، وكان ذلك هو الاسلام من حيث الشكل والرسميات، ولكنه فى حقيقة الأمر عودة للعقائد القديمة الأصيلة تحت اسماء وشعارات اسلامية ـ هذا من ناحية المحكومين ـ أما من ناحية الحاكم فهو استغلال للاسلام فى اخضاع الناس وظلمهم. ولذا لم ينقطع ظلم الحكام،لأن ظلم الحكام في العصور الوسطى كان شريعة سيئة لا تتوقف علي نوعية التدين الذي يدعي الحاكم التمسك به.
وكان الظلم ابرز مظهر للحياة الدينية في العصر المملوكي بالذات.والمماليك كانوا خدماوعبيدا للايوبيين ولكن تمكنوا من الوصول الي الحكم .وكي يعززوا موقعهم الجديد فقد استطالوا علي الشعب المسكين قتلا واضطهدا..يقول المقريزي في حوادث 648التي شهدت قيام الدولة المملوكية البحرية (وفيها كثر ضرر المماليك البحرية بمصر،ومالوا علي الناس وقتلوا ونهبوا الاموال و سبوا الحريم وبالغوا في الفساد حتي لو ملك الفرنج ما فعلوا م فعلهم..).أي انه لوحكم الصليبيين مصر فانهم -في رأي المقريزي -لن يظلموا المصريين بالقدر الذي فعله بهم المماليك المسلمون.!!
ويقول المقريزي في ترجمة السلطان ايبك اول سلطان مملوكي (وكان ملكا حازما شجاعا سفاكا للدماء،قتل خلقا كثيرا وشنق عالما من الناس بغير ذنب ليوقع في القلوب مهابته،واحدث مظالم ومصادرات عمل بها من بعده ).أي ان السلطان ايبك استن سنة سيئة عمل بها من بعده من المماليك حتى من اشتهر منهم بالعبادة والتدين مثل السلطان قايتباي صاحبنا في هذا المقال.
مقاومة الشعب للمصري لظلم المماليك:
على ان الشعب المصرى لم بعرف الخنوع المطلق والاستسلام المستمر للعسف المملوكى.كان المماليك هم القوة الحربية الوحيدة التي يؤيدها جمهور من رجال الدين وعلماء السلطة الذين يطبقون الشريعة وفق ما يرتضيه السلطان" صاحب النعمة "..
ولذلك ثار الشعب المصري في العصر المملوكي ثورات صاخبة وأقام مظاهرات غاضبة كانت تؤرق الحكم العسكرى المملوكى وخدمهم من الفقهاء والقضاة والمشايخ والعلماء الذين كانوا جزءا من السلطة المملوكية الجائرة.
والامثلة كثيرة نكتفي منها بتلك اللوحة الناطقة للمؤرخ المملوكي الاصل المصرى النشأة ابو المحاسن {ابن تغرد بردي ) يقول فى كتابه {النجوم الزاهرة }: " اضطرب الناس وابطل السلطان موكب ربيع الاول من القصر وجلس بالحوش ودعا القضاة الاربعة والامراء والاعيان .ووقف العامة اجمعون في الشارع الاعظم من باب زويلة الي داخل القلعة،واجتاز بهم قاضي القضاة علم الدين البلقيني وهو طالع الي القلعة، وقد انفض المجلس في الحال ونودي بعدم معاملة الزغل (أي بعدم التعامل بالعملة المغشوشة التي اصدرها السلطان )فلم يسكت ما بالناس من الرهج ولهجوا بقولهم (السلطان من عكسه - أي من سوء حظه - ابطل نصفه ) ((أي ابطل العملة الذهبية التى اصدرها )) (واذا كان نصفك اينالي فلا تقف علي دكاني ))(أي اذا كانت العملة التي تتعامل بها قد اصدرها السلطان المملوكي اينال لا تقف علي دكاني )وبعدها في العصر العثماني كان احفادهم يقولون فى مظاهراتهم ( ايش تاخد من تفليسي يا برديسي..)ويستمر المؤرخ ابو المحاسن معلقا علي هذه المظاهرة الشعبية وتلك الامثال الشعبية التي اخترعها جموع الشعب فيقول (واشياء كثيرة من هذا بدون مراعاة وزن ولا قافية، وانطلقت الالسنة بالوقيعة في السلطان وارباب الدولة، وخاف السلطان من قيام المماليك الجلبان بالفتنة وان تساعدهم العامة وجموع الناس فرجع عما كان قصده،وقد افحش العامة الي ناظر العامة ورجموه وكادوا يقتلونه..)
حدثت هذه المظاهرة في سلطنة الاشرف اينال الذي توفى سنة865هـ. بسبب انه أصدر عملة ذهبية مغشوشة وساعده على ذلك الظلم الفقهاء الابرار فى عصره، بل وجعلوه ضمن الشريعة المطبقة. الا أن الشعب ـ او الحرافيش أو الزعر كما كان الفقهاء يطلقون عليهم للتحقير والآستعلاء ـ اقام مظاهرات ردد فيها شعارات وهتافات يعبر فيها عن رأيه. وقد تولى صاحبنا قايتباي السلطنة سنة 872هـ وقبلها كان من شهود هذا الحادث اذ كان من كبار الأمراء المماليك وقتها..
وهؤلاء هم أجدادنا الذين لم يسكتوا علي ظلم السلطان اينال. فكيف كان حالهم مع السلطان قايتباي الذي كان مشهورا بالتدين عمل الخير ؟
لم تحدث مثل هذه المظاهرة لأسباب كثيرة ليس منها أنه كان أقل من السابقين ظلما، ولكن لأنه كان أكثرهم دهاءا ومكرا فعمر فى السلطة اكثر من غيره. وكان أهم ملمح من ملامح دهائه أنه اشاع انه متدين يقوم الليل متعبدا بالأوراد. وصدقه الناس فسكتوا على ظلمه وصبوا لعناتهم على اتباع الظالم ناسين رأس الأفعى. والسؤال الآن كيف كان ذلك السلطان الورع يطبق الشريعة فى عهده ؟
بعيدا عن اشعارات النبيلة التى تتمسح بالاسلام زورا وبهتانا وضحكا على الذقون ـ ذقوننا نحن بالطبع ـ دعونا نرجع للواقع الحى والمعاش والمسجل فىالتاريخ. وهنا نختار اتقىسلطان مملوكى ـ قايتباى ـ من خلال ما كتبه عنه أحد القضاة المؤرخين ـ ابن الصيرفى ـ الذى كان يسجل تاريخ عصره باليوم والشهر والحول، أى بما يعرف بالكتابة الحولية للتاريخ والتى تعطى تقريرا حوليا سنويا لأحوال المجتمع فى ذلك الوقت.
(يتبع)