شريعة المماليك (2/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
صفحات من تطبيق الشريعة
فى عصرالسلطان المملوكى الأشرف قايتباى: 872 ـ902
ملامح من تطبيق الشريعة المملوكية فى عصر السلطان قايتباى
1-نحن الان في عصر السلطان قايتباي الذي حكم مصر والشام و الحجاز في الربع الاخير من القرن التاسع الهجري،وننقل ما كتبه عن عصره القاضي المؤرخ ابن الصيرفي في كتابه " انباء الهصر بابناء العصر." الذى كان يؤرخ لعصره باليوم و الشهر وفق منهج التاريخ الحولى.
وكان المؤرخ ابن الصيرفي يعمل قاضيا حنفيا في دولة السلطان قايتباي،وملأ كتابه نفاقا للسلطان يقول عنه (وفي الواقع فسلطان مصر الملك الاشرف ابو النصر قايتباي نصره الله سلطان عظيم شجاع فارس معدود من الفرسان،ديّن (أي متدين ) عفيف الفرج لا يلوط ولا يزني ولا يسكر،وله ورد في الليل من صلاة وقيام )
أي ان السلطان المملوكي قايتباي امتاز عن غيره من المماليك السلاطين والامراء بالعفة بحيث لا يقع في الزنى او الشذوذ الجنسي،بل انه متدين يقوم الليل يقرأ الاوراد الصوفية ويصلي.وبالتالي كانت الشريعة المطبقة في العصر المملوكي علي افضل حال لها في زمن السلطان المتدين قايتباي،خصوصا وان السلطان قايتباي المتدين كان يختار اعوانه من الامراء المماليك المتدينين..ومن المنتظر ان يراعي السلطان وامراؤه احوال الشعب. فهل كان يحدث ذلك ؟
تعالو بنا نلجأ الي نفس المؤرخ ابن الصيرفي في كتابه "انباء الهصر بأبناء العصر " لنتعرف بعض احوال تطبيق الشريعة في عصر ذلك السلطان الورع مع ملاحظة اساسية , هى أن بعض الضحايا كانوا مظاليم , والظالمون منهم كان اكثرهم اتباعا للسلطان وهو الظالم الأكبر ولكن غضب عليهم لسبب ما ,أو لم يغضب عليهم وأراد فقط استخلاص اموالهم بالتعذيب , وبعضهم كان مذنبا ولكن عقوبته كانت لا تتناسب مع جرمه ولا تتفق مع التشريع الاسلامى الحق.
2-كان الضرب هو الوسيلة المثلي للتفاهم مع المتهم في أي جناية حتي لو كان بريئا مظلوما..ففي يوم السبت 21/صفر /886 ضربوا الشريف الاكفاني المتهم بقتل زوجته ضربا مبرحا نحو خمسمائة مقرعة وعصيا، ثم امر قايتباي فحبسه بسجن المقشرة. وبالضرب والتعذيب المملوكى كان المتهم سرعان ما يعترف بالجريمة حتى لو كان بريئا.
وكان الضرب احيانا يفيد،ففي يوم الاثنين 20/صفر 877 شكوا تاجرا الي الدوادار الكبير يشبك من مهدي انه اخذ من التجار بضائع الي اجل، وحين جاء الاجل رفض ان يدفع ما عليه بسبب ما عليه من ديون فأمر الدوادار بضربه،ولما ذاق التاجر المرفه الضرب المملوكي صار يصرخ ويقول:ادفع الحق..فأمر الدوادار ان يعمل في الحفير ويدفعوا اجرته لمن له في ذمته شئ.وهناك نماذج للضرب -كإحدي العقوبات - في ما كان يفعله المحتسب مع التجار وفيما يفعله السلطان مع بقية الامراء ومع الناس وارباب الوظائف،ولكن لم يكن الضرب هو العقوبة الوحيدة.. فالتكنولوجيا المملوكية في التعذيب كانت رهيبة..!!
3-ونبدأ باهون العقوبات وهي كشف الرأس،وقد كان كشف الرأس في العصر المملوكي عيبا كبيرا واهانة فظيعة هائلة،اذ يكشف احدهم رأسه عند المصيبة الكبري التي لا يستطيع تحملها.
ونرجع للوراء مئتي عام حين مات ابن السلطان المملوكي المنصور قلاوون ليلة الجمعة 4/شعبان/679 هـ.وكان المتوفي وهو علي بن قلاوون اثيرا لدي ابيه فحزن عليه حزنا كبيرا -وكان من مظاهر ذلك الحزن الهائل ان رمي السلطان كلوتته -أي عمامته - من علي رأسه. ونذكر النص التاريخي الذي ذكره المقريزي في هذا الشأن (اظهر السلطان لموته جزعا مفرطا وصرخ بأعلي صوته: وا ولداه، ورمي كلوتته من رأسه للأرض. وبقي مكشوف الرأس، الي ان دخل الامراء اليه وهو مكشوف الرأس يصرخ وا ولداه !! فعندما عاينوه كذلك القوا كلواتتهم عن رؤوسهم،وبكوا ساعة ثم اخذ الامير طرنطاي النائب شاش- أي عمامة- السلطان من الارض وناوله للامير سنقر الاشقر فأخذه ومشي وهو مكشوف الرأس وباس الارض وناول الشاش للسلطان وقال:أيش اعمل بالملك بعد ولدي وامتنع من لبسه، فقبل الامراء الارض يسألون السلطان في لبس شاشه، و يخضعون له في السؤال ساعة حتي اجابهم وغطي رأسه )!! أي كانت عمامة السلطان الملقاة ورأسه المكشوفة هي الدليل الساطع علي الحزن الشديد , كما كان السجود للسلطان هو تحية الاسلام عندهم فى ذلك الوقت. اذ كان صفوة الدولة من كبار الأمراء و القضاة الاربعة وشيوخ الاسلام هم الذين يحظون بالدخول على السلطان فيسجدون بين يديه بل ويقبلون التراب الذى تمشى عليه قدماه غير الكريمتين. وكل ذلك برضى قضاة الشرع وشيوخ الاسلام وقتها ـ لا رضى الله تعالى عنهم.
ونرجع الي خمسين عاما تقريبا قبل عصر قايتباي..في سلطنة الاشرف برسباي،وفي يوم السبت 25/شعبان 830هـ يقول المقريزي (وفيه اتفق حادث فظيع ) ونتأهب عند هذه المقدمة الي الاستماع الي كارثة مما كان يحدث في العصر من اوبئة ومجاعات وحروب مهلكة..ولكن نفاجأ بشئ طريف..يقول المقريزي (وفيه اتفق حادث فظيع وهو ان بعض المماليك السلطانيه الجراكسة انكشف رأسه بين يدي السلطان فإذا هو اقرع، فسخر منه من هنالك من الجراكسه، فسأل السلطان ان يجعله كبير القرعان ويوليه عليهم، فأجابه الي ذلك ورسم ان يكتب له به مرسوم سلطاني،وخلع عليه، فنزل وشق القاهرة بالخلعة في يوم الاثنين سابع عشرينه (27 شعبان )وصار يأمر كل واحد ان يكشف رأسه حتي ينظر ان كان اقرع الرأس ام لا، وجعل علي ذلك فرائض من المال،فعلي اليهودي مبلغ..وعلي النصراني مبلغ..بحسب حاله ورتبته،ولم يتحاش من فعل ذلك مع احد، حتي لقد فرض علي الامير الاقرع عشرة دنانير،وتجاوز حتي جعل الاصلع والاجلح في حكم الاقرع ليجيبه مالا، فكان هذا من شنائع الفضائح وقبائح الشنائع، فلما فحش امره نودي بالقاهرة:معاشر القرعان لكم الامان ). المهم ان المقريزي اعتبر كشف رؤوس الناس من شنائع القبائح وقبائح الشنائع ..وليس الامر بهذه الشناعة،ولكنه ذوق العصر المملوكي..
و المحتسب يشبك الجمالي جعل كشف الرأس من بنود العقوبات والاهانات التي كان ينزلها بالتجار المساكين الذين لا يستطيعون دفع المعلوم لأعوانه المرتشين..يقول ابن الصيرفي (ثم تحضر اعوانه له بمن لم يعطونهم المعلوم المعهود عندهم فيضربهم ثلاث علقات واحدة علي مقعدته واخري علي رجليه واخري علي اكتافه , ويشهرونه بلا طرطور، بل يكشفون رأسه. وهو الذي احدث كشف الرأس،مع ان جماعة كثيرة مما فعل بهم ذلك عميوا وطرشوا , فان الواحد يكون ضعيف البصر او به نزلة فيكشفون رأسه ويدورون به القاهرة , فلا يرجع الا ببرد،و امثال ذلك كثر.)وابن الصيرفي يعتقد ان كشف الرؤوس جعل اولئك الضحايا المساكين يصابون بالعمي والطرش لأنه لا يتخيل ان يسير واحد مكشوف الرأس ويرجع الي بيته معافي وفي صحة جيدة..!!
وصارت عادة سيئة ان يكون التشهير مرتبطا بكشف رأس الضحية اهانة له ليزداد ايلامه..فالمحتسب يشبك الجمالى سالف الذكر ضرب جماعة من التجار واشهرهم بالقاهرة بنفس الطريقة في المحرم 874 . وامر الدوادار الكبيرواسمه ـ ايضا ـ يشبك بتشهير شاهدي زور (ومروا بهما في شوارع القاهرة مكشوفي الرؤوس )وحدث ذلك يوم الاربعاء 7/ربيع الاول /877 هـ.
وابن الصيرفي الذي عهدناه في كتابه رفيقا في نقده للماليك كان اكثر كراهية للمحتسب يشبك،وربما يرجع ذلك الي عقوبة كشف الرؤوس.فقد كان كشف الرأس عيبا كبيرا واهانة عظمى..ونفترض ان المؤرخ ابن الصيرفي رجع حيا وسار في شوارع القاهرة وشاهد رؤوسنا الجرداء تعكس اشعة الشمس امام الحيارى..ترى ماذا كان سيفعل ؟اغلب الظن انه سيعتقد ان المحتسب يشبك صار سلطانا علي القاهرة المحروسة. ونقفز من كشف الرأس الي ما هو افظع..
4-فالدوادار الكبير يشبك من مهدي ظفر باحد مشايخ الاعراب من بني عدى فضربه بالمقارع وامر بأن يشوى بين يديه بالنار وهو حي. فصار يستغيث ولا يغاث.واخر الامر اطلقه بعد ان قيل للامير الدوادار:لا يعذب بالنار الا خالقها !!وحدث ذلك يوم الخميس 14 ربيع الاول 874 هـ
ومن الشي بالنار الي السلخ للاحياء !! ففي يوم الاربعاء ذي الحجة 873 هـ امر السلطان قايتباي بسلخ ابن سعدان احد مشايخ الاعراب من مدينة فوة .وفي يوم الخميس 5/جمادى الاخر 875 قبض الدوادار الكبير علي عيسي بن بقر احد مشايخ الاعراب وامر بسلخه،ثم امر السلطان بالتشفع فيه اذا دفع عشرة الاف دينار وجاء البشير الي الضحية وهو يسلخونه فوجدهم قد قطعوا قطعة من رأسه، فقال:انا اوزن ـ أي ادفع الدنانير ـ وانقذ نفسه.
واحيانا كان السلخ مرتبطا بالتشهير أي يطاف بالمسلوخين المساكين في شوارع القاهرة ليتفرج عليهم الناس وينادي عليهم المشاعلي هذا جزاء من يفعل كذا،وفي النهاية يتم صلبهم حتي يموتوا امام اعين الناس !!. وفي يوم السبت 29 ذي الحجة 876 هـ طافوا في شوارع القاهرة بثلاثة مسلوخين من اكابر اعراب بني حرام كان قد قبض عليهم الامير منصور من جوار غيط الشيخ ابراهيم المدبولي فسلخهم وجهزهم - علي حد قول مؤرخنا -وبعد ان طيف بهم في القاهرة ارسلوا الي خارجها ليصلبوا اياما.
وتفنن المماليك في جريمة السلخ،فأحيانا كانوا يسلخون الضحية المسكين ثم يحشون جلده تبنا او قطنا ويطوفون به مع جلده المحشو في الشوارع. ففي اواخر جمادى الاول 875 هـ وصل ابن زوين كاشف الغربية ت أى حاكم وسط الدلتا ـ وصحبته شخص من العربان يسمى عبد القادر حمزة مسلوخا وقد حشي جلده قطنا ومعه عدة رؤوس آدميين مقطوعة، وسار يشهرهم الي ان وصل بهم الي بيت الدودار الكبير، وتصادف ان الامير تمراز الشمسي رأى الضحية المسلوخ عبد القادر حمزة فعرفه وكان تمراز كاشفا للغربية قبل ابن زوين وكان يحمي عبد القادر حمزة وصاحبا له , فلما رآه في ذلك الحال ـ مسلوخا يطاف به فى القاهرة مع جلده المحشو قطنا والرؤوس المقطوعة لأصحابه ـ هجم علي ابن زوين وضربه.
5-والجبروت المملوكي لم يكتف في القتل بقطع الرقبة وانما ابتدع التوسيط، وهو قطع الضحية نصفين !!
وطريقة التوسيط ان يعري المحكوم عليه بالاعدام من الثياب ثم يربط الي خشبتين علي شكل صليب ويطرح علي ظهر جمل، وربما يطاف به في شوارع القاهرة علي هذا الحال،وهذا هو التشهير، ثم يأتي السياف فيضرب المحكوم عليه بقوة تحت السرة، فيقسم الجسم نصفين من وسطه فتنهار امعاؤه الي الارض.
في يوم السبت 13/ذو القعدة /875 امر السلطان قايتباى بتوسيط ستة اشخاص من قطاع الطرق وان يتم توسيطهم بقليوب،فأشهروهم علي الجمال تحت قيادة الامير يشبك بن حيدر صاحب الشرطة، وذكر صاحب الشرطة عنهم (انهم قتلوا رجلا بقليوب لأخذ ماله وحرقوه بمستوقد،وامثال ذلك من التهجم والقتل وقطع الطريق )ويستطرد مؤرخنا قائلا (وذاك ذنب عقابه فيه، ووسطوا بقليوب او قربها، وعلقت جثتهم ليرتدع امثالهم عن هذه الافعال المنكرة.رب سلم )
وفي يوم السبت او الثالث من ذي القعدة 876 هـ امر السلطان بتسمير اربعة من العربان والمفسدين علي الجمال،اثنان بالجيزة واثنان من غيرها،واشهروهم بالبلد،وسطوا منهم اثنين بباب النصر بالقاهرة لقربهم من اعراب بني حرام، ووسطوا اثنين بمصر لقربهم من الجيزة.
وحيكت اساطير عن موضوع التوسيط،يقول مؤرخنا ابن الصيرفى:"بلغني ان شخصا من العربان يسمي ابن زعازع غضب عليه الدوادار الكبير لما بلغه من الجرائم والمفاسد فأمر بتوسيطه،فضربه المشاعلي بين يديه نحو سبعة عشرة مرة فلم يقطع فيه السيف بل ينقلب،وزعموا انه معه حرزا يحميه من التوسيط "".
وحمل التاريخ المملوكي بعض المآسي الدرامية للمحكوم عليهم بالاعدام.قبل عصرقايتباى بنحو قرنين أي في شهر جمادى الاول 680 هجريا يروي المقريزي انهم قبضوا علي قاطع طريق مشهور اسمه الكريبي فسمروه علي جمل ـ اى دقوا اطرافه بالمسامير وعلقوه على جمل ـ وقاموا عليه اياما يطوفون به في اسواق مصر والقاهرة، وتعاطف معه الجندي الموكل به، فقطع عنه الطعام والشراب، فلما جاع طلب كسرة خبز فقال له الجندي الموكل به:انما اردت ان اهون عليك لتموت سريعا حتي تستريح مما انت فيه،فقال له لا تقل هذا فان شر الحياة خيرمن الموت !!،فناوله الطعام والشراب، فاتفق انه وقعت فيه شفاعة فأطلقوه وسجنوه،وعاش اياما في السجن ثم مات،واغلب الظن انه مات بعد ان تسممت جراحاته من التسمير !!
6-وتفنن المماليك في التعذيب وايقاع العقوبة وصل الي مناطق لا تخطر علي البال..في سنة 879 امر قايتباي بقطع خصيتي مملوك يقال له شاهين،وقد كان خازندار الامير اينال الاشقر لارتكابه جريمة خلقية،وصادفت هذه العقوبة وجود شخص يهودي خبير بالاخصاء بمصر العتيقة فقام بقطع خصيتى المتهم.
والاتراك -ومنهم كان اكثرية المماليك -كانت لهم معرفة بهذه النوعية العجيبة من القتل والتعذيب، وبدأ ذلك قبل عصر قايتباي بستة قرون أى فى العصر العباسى الثانى..ويذكر الطبري ان الاتراك المتغلبين علي الخلافة العباسية وقتها ثاروا علي الخليفة المهتدي وقتلوه، ويحكي الطبري كيفية قتله فيقول (امروا من عصر خصيته حتي مات )وذلك في سنة256 هـ،
واحيت الدولة المملوكية ذلك التقليد العجيب في القتل فمات بهذه الطريقة اول سلطان مملوكي وهو عز الدين ايبك. فقد بدأ العداء بين ايبك وزوجته السلطانة السابقة شجرة الدر،وعزم ايبك علي ان يتزوج عليها احدي الاميرات، واعاد المياه الي مجاريها بينه وبين زوجته الاولي ام علي،مما جعل زوجته شجرة الدر تخطط لاغتياله. فبدأت تراسله وتبعث له من يصلح بينه وبينها ويحلف عليه ليعيد الحب المفقود بينه وبينها، مما ألان قلبه وجاء للقاء زوجته شجرة الدر في القلعة.وكانت قد خططت لقتله بالطريقة التركية !!
وفي يوم الثلاثاء 24 ربيع الاول 654 ترك السلطان المعز ايبك باب اللوق ودخل القلعة اخر النهار. و بعد ان قضي ليلة من ليالي العمر مع زوجته الجميلة وجد مفاجأة سيئه،كانت شجرة الدر قد اعدت لقتله في الحمام خمسة من القتلة منهم محسن الجوجري ونصر العزيزي والمملوك سنجر. ويصف المقريزي ما حدث،فيقول (ودخل الي الحمام ليلا فأغلق عليه الباب محسن الجوجري وغلام كان عنده شديد القوة، ومعهما جماعة وقتلوه،بأن اخذ بعضهم بأنثييه وبعضهم بخناقه،واستغاث المعز بشجرة الدر فقالت: اتركوه !!فأغلظ لها محسن الجوجري في القول وقال لها: متي تركناه لا يبقي علينا ولا عليكي.ثم قتلوه..!!)
استغاث المسكين من شياطين الظلام الذين اخذوا بخناقه من هنا وهناك،فأضاعوا عليه الحلم الجميل الذي كان يعيش في خياله.. واستيقظت السلطانة من ذكريات اللحظات الجميلة علي صوت حبيبها يستغيث بها..وكانت في هذه اللحظة تعيش مشاعرها كأمرأة عاشقة لا تزال تجتر ذكرياتها الممتعة..وحين استغاث بها كان قلبها خاليا من الحقد والكراهية وفنون المؤامرات،فأمرت بأن يكفوا عنه..لكن القتلة لا شأن لهم بكل هذه المشاعر الجميلة، وهم يعلمون ان هذه المشاعر مهما بلغ جمالها فهي الي نهاية،نهايتها الموت بعد ان يعود الزوج الولهان سلطانا متحكما،لذا امر قائد القتلة بأن يجهزوا علي السلطان قبل ان يقتلهم،وشخط في شجرة الدر فكتموا انفاسه من هنا وهناك..وبهذه الطريقة قتلت العاشقة الفاتنة زوجها اول سلطان مملوكي، وذاق السلطان ايبك قبل موته امتع اللحظات واشدها عذابا..لا رأيتم مكروها في عزيز لديكم..
7- و المحتسب في الاصل وظيفة مدنية كان يقوم بها الفقهاء،وتشمل الاشراف علي الاسواق والموازين والمكاييل والتسعيرة. وكان المحتسب هو الذي يقرر العقوبة وهو الذي ينفذها،أي كان الخصم والقاضي والجلاد معا. وكان الامير المملوكي يشبك الجمالي مشهورا بالتدين فعينه السلطان قايتباي اميرا للحج يوم الخميس 25 ربيع الاول سنة 873،ثم اضيفت له وظيفة الحسبة يوم الاثنين 24 ربيع ثاني سنة 873،ولأنه امير متدين - بمقياس العصر -فقد استنكف ان ينزل الي الاسواق بنفسه و اوكل المهمة الي اعوانه الذين حازوا علي ثقته،فانفردوا بالاسواق يفرضون الاتاوات علي التجار،ومن يرفض دفع الاتاوة يحملونه الي يشبك الجمالي فيعاقبه اشد العقوبة.وكان القاضي المؤرخ ابن الصيرفي شاهدا علي ما يحدث،فكتب عنه الآتي (وباشر يشبك المذكور الوظيفة المذكورة، ولم يكشف البلد بنفسه ولا مرة واحدة،ولا يعرف احوال الرعايا والمسلمين الا من اعوانه الذين في خدمته، فصاروا ارباب اموال واقمشه ودور وخيول وبغال وحمير وهو ماسك البقرة وغيره يحلبها،فانه لا يتعاطي شيئا،ولكن ما احسن قول الشاعر:
ورابط الكلب العقور ببابه فأسصل ما بالناس من رابط الكلب
وهذا (أي يشبك )في غاية الشماخة والترفع ان يقف علي سوقي او وازن اوبياع ويعتبر -أي يختبر -اوزانهم وسنجهم وامثال ذلك hellip;بل يحضر اعوانه له بمن لا يعطونه من معلوم المعهود عندهم فيضربهم ثلاث علقات:واحدة علي مقاعده واخري علي رجليه واخري علي اكتافه ويشهرونه.واما احكامه فبالبخت وبالنصيب، واما اخلاقه ففي غاية الشراسة.. هذا مع دينه المتين ومحافظته علي الصلاة والصيام،ولكنه عنده تعصب..والله يعامله بعدله سريعا)
وهذا المحتسب المأفون ظن ان الصلاة والعبادات هدف في حد ذاتها واذا قام بالعبادة فهذه نقرة ولا عليه بعدها ان ظلم وافسد في الارض.وهذا يناقض تشريع الاسلام حيث تكون العبادات وسيلة لهدف اعظم هو التقوى وحسن الخلق" البقرة 21،177،183،197،267 العنكبوت 45،.
ولكن لا يزال التدين السطحي السلفى يعتبر العبادات اهدافا فاذا صليت فلا عليك مهما ارتكبت من المخازى واذا أديت الحج رجعت كيوم ولدتك أمك ـ ليس عريانا مكشوف العورة ـ ولكن مغفورا لك مهما ارتكبت من آثام.وبذلك تتحول العبادات من وسائل للتقوى الي وسائل للعصيان والارهاب. و انظر حولك الى بعض الملتحيين وقارن بين صلواتهم و سوء سلوكهم.
8- وهذا المحتسب المملوكي المأفون قاسي منه شعب القاهرة عذابا وغلاءا في الاسعار كما يذكر ابن الصيرفي، ففي يوم الثلاثاء 16 صفر سنة 875 رفض بائع تين غلبان ان يدفع الرشوة لزبانية المحتسب فحملوه الي ذلك الطاغية،فضربه الثلاث علقات المعهودة ثم صلبه علي باب دكانه في هيئة فظيعة، يقول ابن الصيرفي (ضرب المحتسب شخصا من السوق يبيع التين ثلاث علقات علي مقاعده واخري علي رجلية وواحدة علي اكتافه،واشهره في المدينة علي عادته التي يفعلها عريانا مكشوف الرأس، ثم رسم بصلبه بذراعه علي حانوته،وقررت يده الاخري الي ظهره،ولطخه عسلا واوقفه في الشمس فتسلط عليه النحل والذنبور والذباب،وقاسي من العقوبة ما لا يوصف وسبب ذلك ان رسله الذين هم من جهته واقامهم كانوا اذا طلبوا البلص (أي الرشوة )من فقير وامتنع،ذكروا لأستاذهم عنه ما ارادوا،وهو سريع الحدة سريع الغضب لا يتثبت في الاحكام فيطلبه ويفعل به ما ذكر )!!
هذا ماكان يفعله بالفقراء العاجزين عن دفع الرشوة،اما الاغنياء من التجار فكانوا يبيعون بأزيد من التسعيرة ويدفعون المعلوم لزبانية المحتسب،يقول عنهم ابن الصيرفي (حتي اذا نودي علي الجبن بسبعة دراهم للرطل يبيعونه بثمانية،بزيادة درهم،وكذلك في باقي البضائع حتي اللحم )ثم تحدث بعدها ابن الصيرفى عن الثراء الفاحش لأعوان المحتسب..
9 ـ وكان السلطان الورع قايتباي يصادر اموال الاحياء , ويأكل اموال اليتامي والارامل..
في يوم الاربعاء 17/رجب /876 هـ امر السلطان بمصادرة ممتلكات ابن زوين الكاشف والي الغربية، ويقول في ذلك مؤرخنا(وارسل السلطان الي الغربية بالحوطة علي موجود ( أي ممتلكات)ابن زوين الكاشف بها، من صامت وناطق(أي جواهر واموال ومواشي وخيول) احضروه فأخذ احسنه ورد عليه اخسه).
وبعضهم كان يحتال لاخفاء امواله او النفيس منها حتي لا تضيع كلها في المصادرة اذا حصلت، وكان السلطان يلعب معهم في نفس اللعبة فيحتال بالاعتقال والضرب للحصول على كل الأمول الظاهرة والخفية ؛فقد امر السلطان باعتقال عبد كان للاستادار زين الدين، كما امر باعتقال سكرتيره عبد الوهاب وباعتقال جاريته قمر، وكان السبب في اعتقال الثلاثة هو ارغامهم ليدلّوا علي الاموال المخبأة عند زين الدين الاستادار، وظل الجميع في السجن عدة اشهر حتي تم اطلاقهم في عيد الفطر 876 هـ.
وقد ترتبط المصادرة للمال بالمصادرة للحرية أي السجن للشخص المصادر ـ بفتح الدال.في يوم الثلاثاء 21/جمادى الاول /876 امر السلطان بالقبض علي صيرفي جدة واسمه ابن عبد الرحمن وامر بأن يؤخذ منه عشرون الف دينار، والسبب في سجن الصيرفي المسكين ان السلطان اراد اقتراض عشرة الاف دينار من احدي السيدات كانت اما لاستاذ المحتسب وشاهين والي جدة،وقد طلب السلطان من المحتسب وشاهين والي جدة التوسط لدي السيدة ليقترض منها العشرة الاف، ولكن السيدة اعتذرت واظهرت العجز والفقر، فغضب السلطان وامر باعتقال صيرفي جدة،وطلبه في خلوة ليعرف منه اسرار ومدخرات والي جدة، ولما لم يحصل منه علي طائل صادر منه عشرين الف دينار. وابن الصيرفي بعد ان ذكر الحكاية قال يدافع عن السلطان (وفي الواقع فهذا السلطان اخر الملوك العادلة،فإنه خول ـ بتشديد الواو ـ المحتسب وشاهين في البلاد المصرية و الحجازية..( !!
ولم يقنع السلطان باعتقال صيرفي جدة،فقد جاءته معلومات بأن المحتسب وزوجته وشاهين نائب جدة وام استاذهم الصاحب جمال الدين قد وضعوا ايديهم علي جواهر واموال وتقاسموها، فهدد السلطان الموظفين الاخرين الذين لهم اتصال بالموضوع،وهدد السيدة فأرسلت الي السلطان خمسة الاف دينار فردها اليها، وحدث الجفاء بين السلطان والمحتسب يشبك الجمالي بسبب ذلك.
وقد ترتبط المصادرة للاموال بتعذيب الضحية حتي يعترف بما لديه من كنوز مخبأة، وربما كان الامير يحيى بن عبد الرزاق الاستادار ت 874 افظع مثل للضحايا من كبار الموظفين، فقد صودرت امواله اكثر من مرة،وتولي الاستادارية مرات، وحين يعزلونه ويولون غيره يعجز فيطلبونه للوظيفة، وعندما يعزلونه يصادرون امواله ويعذبونه،يقول عنه مؤرخنا ابن الصيرفي (اذكر من لفظه-أي من حديثه لابن الصيرفي- انه صودر تسع عشر مرة، واحتاج حتي باع حوائج بيته وقماش خيوله بعد بيع املاكه، واستمر علي ذلك الي ان صادره الملك الاشرف ابو النصر قايتباي عز نصره، اول مره وثانية،وهو معذور فيه، فانه يدعي فقرا..)
ان قايتباي صادر ذلك الشيخ الفقير بعد ان بلغ الثمانين من عمره وبعد ان استهلكته المصادرات السابقة، ولم يترفق به قايتباي في هذه السن ولافي هذا الفقر بل اوقع عليه العذاب الشديد حتي مات.ويقول ابن الصيرفي عن حبسه وتعذيبه حين صادر السلطان قايتباي امواله للمرة الثانية (وفي الثانية حبسه بالبرج من القلعة وطلب المال فلم يوزن -أي يدفع - شيئا،فأجرى عليه العقوبة الي ان اشرف علي التلف -أي الموت - وحمل الي البرج المذكور، فدام عليلا يتداوي الي ان مات في يوم الخميس ثامن من شهر ربيع الاول وقد جاوز الثمانين من العمر )ويقول ابن الصيرفي عن نهايته تحت التعذيب (وضرب ضربا فظيعا حتي طار لحم جسده عن بدنه، ونزلوا به من القلعة في تابوت وعلي رأسه طاقية كشف، وتوجهوا به الي منزله وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ) وابن الصيرفي يجد العذر للسلطان قايتباي في مصادرته لهذا الشيخ وتعذيبه يقول (..الي ان صادره الملك الاشرف ابو النصر قايتباي عز نصره اول مرة وثانيه وهو معذور فيه فانه يدعي فقرا )
وواضح ان العزل كان يرتبط بالمصادرة لأموال المعزول مثل ارتباط المصادرة احيانا بتعذيب الضحية، ورأينا ذلك في قصة او مأساة يحيى ابن عبد الرزاق الاستادار الذي بلغ اوج الرفعة ثم نزل الي حضيض السجن والاعتقال مرات متتالية ولم يكن هو المثل الوحيد..
وفي يوم السبت 13/ربيع الاول 873 غضب السلطان قايتباي علي قاضي قضاة دمشق ابن الصابوني، وضربه بين يديه بقاعة الدهيشة بالقلعة لأنه لم يدفع للسلطان المال الذي طلبه منه وهو مائة الف دينار، ولم يزل يضربه حتي اذعن فحملوه الي الحبس ليدبر امره في الدفع،وفي يوم الثلاثاء 14 ربيع الثاني 873 سافر القاضي ابن الصابوني الي دمشق بعد عزله ومصادرته وحبسه بعد ان التزم للسلطان بدفع المائة الف دينار، وسافر معه السيفي جانبك الخاصكي ليحرسه ويرافقه حتي يسدد ما التزم به.
وفي يوم السبت 15 جمادى الثاني 873 امر السلطان باعتقال ابن العيني بالبرج في القلعة بسبب ما تأخر عليه من المال، وظل محبوسا بذلك البرج الي يوم الاربعاء 19 جمادى الثانية، ثم اطلقة السلطان بعد ان حمل المال،فأكرمه السلطان والبسه التشريفة ورجع لداره مكرما معظما.
وفي شوال 876 تولي الحافظ القطب الخضيري قضاء القضاة بدمشق وكتابة السر بها بعد ان قاسي اهوالا من التعذيب،وقرر عليه السلطان ثلاثين الف دينار فدفع بعضها والتزم بدفع الباقي واعاده السلطان للولاية بعد ما فرضه عليه،واكرمه السلطان فأنزله ضيفا في داره التي كان بها حين كان اميرا، وزاره السلطان في تلك الدار فوجده نائما فما اراد ايقاظه، وحين استيقظ وعلم بزيارة السلطان اليه وهو نائم ارسل هدية للسلطان فلم يقبلها السلطان، واخبره انه ما حضر الا ليزوره،وهكذا تغير حال السلطان من التعذيب الي الاكرام بعد ان دفع له المال !!
وقد سبق للسلطان في شهر رجب من نفس العام ان اصدر مرسوما للشام باعادة القاضي الحنفي اليها عوضا عن القاضي الحلاوي المعزول عن القضاء،وامر بأن يدفع عشرة الاف دينار فأن امتنع فلابد من ارساله مسجونا للقلعة فأذعن،وارسل السلطان بالكشف عن اموال القطب الخضيري قاضي القضاة بدمشق وكاتب السر بها ومصادرة ما لديه، فلم يوجدلديه شئ، وعزم علي القبض عليه وارساله الي القلعة لكنه اختفى وحضر للقاهرة سرا،وكان من امره ان قبض عليه السلطان ولاقي اهوالا،عاد بعدها لمنصبه مكرما..
لذا كان خوف موظفي السلطان عظيما حين يستدعيهم للحساب. وكان خوفهم اعظم حين يعزلهم عن الوظيفة،وقد هرب القاضي تاج الدين ابن المقسي ناظر الاملاك السلطانية (ناطر الخاص )والسبب ان السلطان عزله فبادر بالهرب خوفا من المصادره والتعذيب، وقد عين السلطان بدلا منه ابن الكويز في يوم الخميس 12 /شعبان 874.
وفي يوم الاثنين 9/ربيع الاخر في نفس العام 874 مات القاضي عبد الرحيم ابن البرزي،مات خوفا من السلطان!!،فقد جاء من الشام وارسل هدية للسلطان، فردها السلطان عليه غاضبا وبلغه ان السلطان توعده قائلا (عند من يهرب مني ؟هذا هو وقع في القفص )!! واشتد مرضه بالصرع، فمات..!!
مات خوفا..
مات خوفا من السلطان المتدين الذي كان يطبق الشريعة.
ولا يزال مسجد السلطان قايتباي مرسوما علي الجنية المصري , ولا يزال المتخلفون عقليا يدعون الي استئناف تطبيق هذه الشريعة التى تناقض التشريع الحق القرآن والاسلام, واذا اوضحنا لهم التشريع الحق فى القرآن والذى كان عليه النبى محمد عليه السلام ثاروا علينا واتهمونا بانكار السنة, اى سنة البخارى وابن حجر والذين عاشوا فى عصور الاستبداد والظلم وطبقوا شريعتهم المناقضة للاسلام تحت اسم الاسلام. والآن يريدون ارجاعها الى عصرنا أو ارجاعنا الى عصرها.