كتَّاب إيلاف

جنرالات أنقرة وشرق واشنطن الكبير...

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس وفي زيارة لأنقرة ترقبها الأتراك طويلاً، بدت غير متحمسة لمشروع حرب جديدة يٌحضر لها الجيش التركي في العراق ضد المقاتلين الكرد أعضاء قوات حماية الشعب (الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني). وقالت رايس للأتراك بأن "الوقت مازال مبكراً للقيام بعمل عسكري مشترك ضد المقاتلين الكرد" وأكتفت بما ردده قبلها بعض المسؤلين العسكريين الأميركان، من إنهم "يتابعون تحركات العمال الكردستاني، ويعملون على تطويق نشاطاته في العراق ومراقبة تحركات أعضائه"، ليس إلاّ..!.

أحدثت هذه التصريحات خيبة أمل كبيرة لدى الجانب التركي، وبشكل خاص لدى العسكر، والذين أوعزوا لكتبة الصحف القريبين منهم، بتكثيف إنتقاد واشنطن وإتهامها علناً بدعم حزب العمال الكردستاني، حيث تصدّت جوقة الكتبة الموالين للعسكر لزيارة رايس بالتحليل والشرح، وسودّوا مئات الصفحات في "خطط واشنطن الجديدة الرامية لإشعال خاصرة تركيا للإنتقام منها"، بل وذهب بعضهم في أن واشنطن "تعد لمشروع دولة كردية كبيرة في المنطقة، تكون كردستان العراق نواة لها"، حيث" تتوسع تلك الدولة بعد ذلك لتشمل كرد المنطقة برمتهم، بغية تجميعهم في كردستان الكبرى، التي لايتوانى البارزاني عن ذكرها في كل مناسبة مردداً حق الكرد في إقامتها" كما ذهب أحد الصحفيين الأتراك في تحليل له...

وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد شارك بدوره الوزيرة رايس فيما ذهبت إليه، حيث نقل عنه إنه "أبلغ القيادات الكردية العراقية رفض بلاده لأي تدخل عسكري تركي في إقليم كردستان"، وقال للرئيس العراقي جلال الطالباني بالحرف" لاتخافوا من أي هجوم عسكري تركي". هذا من جانب واشنطن، فما حقيقة الأمر على الجانب التركي إذن؟.

الجيش التركي حشد أكثر من مائتي وخمسين ألف جندي على الحدود مع إقليم كردستان. ونقلت الأنباء إن وحدات خاصة من قواته، وبإسناد جوي من الحوامات العسكرية "توغلت في عمق الأراضي العراقية، منفذة مهام إستخباراتية وعسكرية ضد مواقع المقاتلين الكرد". وهناك أيضاً: أن القوات العسكرية التركية فرضت طوقاً أمنياً على طول الحدود مع إقليم كردستان، ووضعت نقاط حراسة وتفتيش للتدقيق في هوية كل شخص يجتاز الحدود العراقية ـ التركية. بينما نقل الجنرال يشار بويوكانيت قائد القوات البرية في الجيش التركي مقر الحرب إلى مدينة شرناخ الحدودية في إشارة إلى جدية الجيش التركي في القيام بحملة عسكرية كبيرة ضد قواعد المقاتلين الكرد في كردستان الجنوبية( كردستان العراق) ووضع نهاية لما تقول أنقرة إنه "تسلل دائم لعناصر إرهابية من المناطق الحدودية لعمق تركيا".

خطوة بويوكانيت هذه جاءت بعد نجاحه في لجم طموحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في إنهاء سطوة العسكر، وتحوله للهجوم الذي أعاد أردوغان إلى المربع الأول، حيث الإرتهان التام لمشيئة المؤسسة العسكرية:

ـ أفرغّ مجلس الأمن القومي التركي تصريحات أردوغان الشهيرة في مدينة دياربكر الكردية حول وجود قضية كردية في البلاد(8/8/2005) من مضمونها، ورده على أعقابه بالبيان القوي الذي أصدره المجلس في 23/8/2005 حول" قداسة وحدة البلاد والعلم والشعب في تركيا" مما أضطرأردوغان "للحس" تصريحه ذاك وعدم الإشارة إليه أبداً، وكأنه ذنب كبير تاب عنه.

ـ نجحت المؤسسة العسكرية في معاقبة المدعي العام في مدينة وان فرهاد ساراكايا وإستصدار قرار بطرده من وظيفته عقاباً له على إصداره مذكرة إستدعاء يتهم فيها الجنرال يشار بويوكانيت بالوقوقف وراء محاولة إغتيال أحد المتعاطفين مع حزب العمال الكردستاني في مدينة شمزينان الكردية، والتي أسفرت عن مقتل مدنيين كرديين وجرح خمسة عشر آخرين، حيث تمكن المواطنون من إلقاء القبض على المهاجميّن، وتبيّن إنهما ضابطان تركييان تحركا بأمر شخصي من بويوكانيت نفسه.

ـ دفع الحكومة لتحضير قانون جديد لمكافحة ما يسمى بالإرهاب، والتصويت عليه في البرلمان، وهو القانون الذي يفرض قيوداً جديدة على الحريات العامة، ويمنح صلاحيات واسعة لرجال الأمن والشرطة في الولايات الكردية، ويحصنهم إزاء كل مٌسائلة قانونية قد يتعرضون لها لإنتهاكهم حقوق الإنسان.

ـ تصعيد أعمال العنف ضد المدنيين، وإحياء فرق الإغتيالات الخاصة والمطاردة في كردستان، وإستخدام الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين، حيث قتلت قوات الأمن التركية أحد عشرّ مدنياً أثناء قمعها للمدنيين المتظاهرين في مدينة دياربكر الذين خرجوا لتشييع جنازة ستة من المقاتلين الكرد قتلتهم قوات الجيش التركي، وهنا زايدّ أردوغان على العسكر حينما طالب رجال الأمن بقتل الأطفال والنساء دون تفريق. كما وأزدادت أعمال الأعتقالات والمداهمات والتضييق بحق أعضاء وعناصر ومقرات (حزب المجتمع الديمقراطي)، أكبر الأحزاب الكردية المرخصة في البلاد: والذي يسيطر على 56 بلدية كردية.

ـ تشديد العزلة على الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، وإصدار قانون خاص لشرعنة هذه العزلة، في أعقاب صدور قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بإنتفاء شرط العدالة في محاكمة أوجلان الأولى في جزيرة (إيمرالي) ووجوب إعادة محاكمته. الأمر الذي دفع الجيش لفرض مزيد من العزلة على أوجلان وقطع الزيارات عنه ومنعه من التحدث باللغة الكردية مع شقيقه، بالإضافة إلى التضييق عليه داخل السجن.

ـ العمل على إجهاض جميع محاولات المثقفين والكتاب الكرد والترك في دعوة الدولة وحزب العمال الكردستاني للتفاوض وحل القضية الكردية بالحوار والتفاوض، وتخوينهم وإتهاماهم بالوقوع تحت تأثير أفكار أوجلان وتسليط المليشيات الثقافية المتجذرة في مؤسسات الدولة، من تلك التي تتغذى على الصراع والحرب، وتأتمر بأمر مؤسسة الجيش عليهم لمحاربتهم.

ـ شحن المواطنين الأتراك ضد أبناء الشعب الكردي، عبر التغاضي عن أنشطة حزب (الحركة الوطنية) المتطرف، وهجمات أنصاره على المدنيين الكرد، حيث لايمر يوم دون تعرض مواطنين كرد أو مصالح كردية داخل المناطق التركية الداخلية لهجمات تخريبية تقيد كل مرة ضد مجهول، وينجو مرتكبوها بفعلتهم..


رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سلمّ نفسه للعسكر، وإرتهن لقراراتهم ومشاريع حربهم في كردستان، حيث مئات الآلاف من القوات المسلحة تساق إلى ولايات كردستان، ومجلس الأمن القومي التركي يٌدرج العمليات العسكرية ضد مٌسلحي قوات حماية الشعب على أولى قائمة إهتماماته، مع تراجع الإهتمام بمناقشة الإصلاحات المطلوبة من الأتحاد الأوروبي، في إطار مفاوضات العضوية معه. وهناك حديث عن قرار إستراتيجي تركي يقضي بإستعداد الجيش للتدخل في أراضي كردستان الشرقية( كردستان إيران) حين حدوث هجوم أميركي مباغت على المنشآت النووية الإيرانية، حيث الخوف من إندلاع إنتفاضات شعبية بين الشعوب الإيرانية ضد النظام الديني في طهران، على غرار ماحدث في العراق عام 1991 ، قد تؤدي إلى إنهيارالنظام وتفكك البلاد، وإستقلال كردستان الشرقية(7 مليون نسمة) أو إنتزاعها لحكم ذاتي موسع، على أقل تقدير. وحسب بعض المراقبين فإن هناك خوفاً تركياً حقيقياً من تكرار السيناريو الكردي في العراق في إيران، وتصدر كرد إيران المشهد السياسي في البلاد، مع الفارق أن (حزب الحياة الحرة الكردستاني) هو أقوى وأنشط الأحزاب السياسية الكردية في كردستان الشرقية، وهو الحزب الذي تقول أنقرة إنه "جناح حزب العمال الكردستاني في إيران".

وثمّة معلومات في أن قيادة الجيش التركي تحشد نحو ثلاثمائة ألف جندي بالقرب من الحدود العراقية ـ الإيرانية للتدخل السريع في حال حدوث طارئ أو بروز سيناريو إنهيار نظام طهران، إذ "ليس من المعقول حشد مائتي وخمسين ألف جندي على الحدود لمحاربة خمسة آلاف مسلح يتحصنون في الجبال" كما قال جوست لاجنديك الرئيس المناوب للجنة البرلمانية الأوروبية ـ التركية والمكلف بمراقبة مدى تطبيق وإلتزام أنقرة بمعايير كوبنهاغن وتقدمّها في الإصلاحات المطلوبة...

كان يمكن لأردوغان وهو المنتخب من الشعب التركي، و يحتل حزبه 363 مقعداً في البرلمان، الأمرالذي أتاح له تشكيل الحكومة بمفرده، كان بإمكانه أن يلجم العسكر ويقلص من نفوذهم وتدخلاتهم المستمرة في الحياة السياسية التركية. ورغم إنه أحدث بعض الإصلاحات هنا وهناك، هدفت جلها للحد من سيطرة العسكر، كتعيين مدني رئيساً لمجلس الأمن القومي التركي( أعلى هيئة إتخاذ قرار في البلاد) وإبداء بعض المرونة في التعامل مع الأحتفالات الشعبية الكردية في أعياد نوروز أعوام 2003ـ2004ـ2005 والسماح بالبث الكردي المحدود، إلاّ أن ذلك لم يكن كافياً أمام قوة وتجذرالمؤسسة العسكرية، وعناد الجنرالات الترك وإصرارهم على التمسك بالسلطة وقياد البلاد.
والحال أن الجيش نجح في إفشال مشروع أردوغان الإصلاحي( إذا كان ثمة مشروع قائم بذاته في الأساس) وإجباره على تنفيذ كل أوامره، وليس هذا فحسب، بل أن الجيش والرئاسة ماتنفكان تتحدثان كل يوم عن "خطر الرجعيين وتغلغلهم داخل مؤسسات الدولة" الأمر الذي "يٌشكل الخطرالأكبرعلى مبدأ علمانية الدولة" في إشارة لحزب العدالة والتنمية والقوانين الهشة التي يمررها من البرلمان، وتصطدم مع إرادة العسكر المقاومة للتغيير...

بدا أردوغان وهو يتفادى مصير معلمه القديم نجم الدين أربكان، الذي أزاحه الجيش في إنقلاب أبيض عام 1997 وألزمه داره، بعد منعه من مزاولة العمل السياسي، كمن يحفر قبره بيده، إذ أن تحاشي الصدام مع العسكر، لايعني الإفلات من قبضتهم والسير في المشروع الإصلاحي لتطويق( ولاحقاً،ربما، تقويض) سلطتهم الحديدية. كان الأحرى بأردوغان وهو المنتخب ديمقراطياً من الشعب التركي، ونواب حزبه يسيطرون على البرلمان، أن يعلن وهو في غمرة إنهماكه في إحداث الإصلاحات الدستورية وتغيير قوانين إنقلاب 1980 العسكري، صدامه مع العسكر على مبدأ" تغدى بهم قبل أن يتعشو بك" لكان، آنذاك، قد نال تأييد معظم دول العالم وتعاطفهم معه ضد تدخلات العسكر في السياسة. ماالذي كان سيحدث آنئذ؟. أنقلاب عسكري ؟.

الحقيقة حتى ولو قامت المؤسسة العسكرية بإنقلاب عسكري لكان الأمر أفضل مماهو حادث الآن، فأردوغان أصبح دمية سياسية طيعة في يد العسكر، يشرعنون بها قراراتهم ويكسبونها طابعاً قانونياً ودستورياً عن طريق تمرير نواب أردوغان لها في البرلمان...المنختب!!.

ويبقى هنا، والحال كما وصفناها، موقف واشنطن الأزدواجي في الحالة التركية هذه. فهناك ورغم إستهتارالعسكر بالديمقراطية وتسييرهم سياسة عسكرتارية شمولية تنتهك كل ماهو مدني وديمقراطي، إلاّ أن واشنطن تصر على سياسة "التطنيش" واللامبالاة. ويزور مسؤولوها أنقرة بشكل دوري، ويشيدون بديمقراطيتها العتيدة، حتى وهي أسيرة على أسنة رماح العسكر!.

ورغم أن الرئيس الأميركي الأميركي جورج بوش قال بعيد الحوادث الإرهابية في 11 سبتمبر 2001 في أن بلاده إرتكبت أخطائاً كبيرة في الماضي عند تأييدها للطغاة على حساب شعوبهم، الأمرالذي دفع الشعوب لإعتبار واشنطن هي المسؤولة الأولى عن بؤسها، وولدّ كل هذا الكره تجاهها، إلاّ أن الإدارة الأميركية مازالت تكيل بمكيال ماقبل 11 سبتمبر إذما تعلق الأمر بحالة أنقرة وعسكرها. ويبدو أن الأمر أبعد من سياسة آنية تحتمل التغيير، قدر ماهو يتعلق بنظرية ثالوث السيد برنارد لويس، معلم المحافظين الجدد، والتي تتمحور حول فضائل عسكر تركيا الثلاثة ( العلمانية ـ قمع الإسلام السياسي ـ الشراكة الإستراتيجية مع كل من واشنطن وتل ابيب) حيث تغتفر كل ذنوب أنقرة وعسكرها مادامت ملتزمة ووفية على عهد الحفاظ على هذا الثالوث المقدس.
لكن الغريب في الأمر، إن عسكر أنقرة الأثيرين على قلب واشنطن لايريدون فقط لجم التغيير الديمقراطي في تركيا وإدخال العصي في دولاب الإصلاح، بل وإفشال مشروع "العراق الجديد" بأكثر من ألف طريقة وطريقة، و"تمتين أواصر التعاون مع الجارة طهران" وأخيراً وليس آخراً، إطالة عمر النظام السوري المتكلس، وذلك "بتقديم كافة أشكال الدعم له"، فما قول واشنطن، وتالياً، قول العم برنارد لويس والحال هذه؟!.

tariqhemo@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف