كتَّاب إيلاف

حديث مع قسِّيس: كلمة طيِّبة من الإنجيل والقرآن

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"ألو أستاذ أحمد، أشكرك على مقالك الرائع، وسأصوُّره وأوزِّع نسخًا منه في الكيسة يوم الأحد." لم أدع محدِّثي على الهاتف، الأب شنودة بطرس يكمل حديثه المشوب بمرارة، وبنبرة حزنٍ تخالها تنبعث من قلب يتألَّم، لأقاطعه بدون استئذان: "أرجوك أبانا الجليل، لا داعٍ للشكر على واجب قمت به. فقد رأيت منكرًا، فمن واجبي أن أغيَّره إن استطعت، وهذا أضعف الإيمان، وما يحثُّ عليه الدين." استمَّر الحديث لمدَّة طويلة نسبيًّا تطابقت فيه نظراتنا على كثير من الأمور ولا سيَّما المشاكل التي تعصف بمجتمعاتنا في الدول العربيَّة من جرَّاء التزمَّت الجاهل والعصبيَّة الدينيَّة والمذهبيَّة والقوميَّة المقيتة، وضرورة قيام الدولة لواجبها، وحماية المواطن من أكثريَّة أو أقليَّة إذا ما تعرَّض لأذى من جاهلٍ أو معتوه، أو محرِّض حتَّى ولو كان رجل دين. لم نكتف باستعراض أحداث الماضي الدينيَّة في مصر والعراق وأفغانستان، وغيرها من البلدان التي يأخذ فيها التناحر الديني أو المذهبي صفة الإرهاب، ويتحوَّل من اختلاف "لا يُفسد للودِّ بين أبناء البلد الواحد قضيَّة" إلى أعمال إجراميَّة لا علاقة لها بأيِّ دين، بل توافقت الآراء في كيفيَّة مواجهتها، وإيجاد الحلول لها بما يكفل عدم حدوثها مرَّة أخرى. وأنَّ لقاء رجال الدين المسيحيِّين والمسلمين ليس كافيًا. المهم أن يؤدِّي رجل الدين المسيحي أو المسلم واجبه في بثِّ روح المحبَّة وقبول الآخر المختلف في المجتمع، ويكون أوَّل مَن يدين أعمال العنف والإرهاب التي قد تصدر عن أبناء دينه. وقبل كلِّ هذا أن يغرس في أبناء الجيل الجديد مفاهيم مجتمعيَّة بعيدة عن التزمُّت والعصبيَّة.

حبَّذا لو تمكنَّا من الحوار بيننا بالوسائل المتاحة لنا. علمًا بأنَّ المجال مفتوح أمام كلِّ ذي ضمير من أن يُدلي بدلوه ويوصله من خلال مواقع ألـ "إنترنت" إلى شرائح كثيرة في البدان العربيَّة أصبح الحاسوب اللإكتروني نافذتهم على العالم، ورئتهم التي يتنفَّسون بها أسوة بمواقع المتعصَّبين الذين يشيعون الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، ويؤجِّجون نار الفتنة عالمين أو جاهلين بأنَّهم يقودون الجميع إلى مجهولٍ لا يُبقي ولا يذر.

لست أدري كيف، ولِمَ انسقت إلى البحث في أمورٍ دينيَّة كنت عاهدت النفس ألاَّ أخوض فيها إمَّا لعدم جدواها، أو لصرفي ولو آنيًّا عن الكتابة في مواضيع أخرى أكثر قربًا إلى نفسي وأعمُّ فائدة، حسب اعتقادي فيمن أودُّ مخاطبتهم ونقل آرائي لهم؟ ولكن يجد الكاتب نفسه أحيانًا أمام أمور لا مفرَّ من مواجهتها، ومن واجبه أن يتصدَّى لها ويشارك الآخرين فيها علَّها تُحدث صحوة نوعيَّة تنبَّه إلى خطرٍ محدق يتسلَّل شيئًا فشيئًا في المجتمع، وتتراكم فيه أحداث فرديَّة إذا أخذت منفصلة تبدو تافهة وغير ذي أثر، وإذا ما تُركت تتفاقم بلا علاجٍ أو مواجهة حاسمة تقطع دابرها وتُنزل العقاب الرادع بمرتكبها والمحرِّض عليها، يدفع المجتمع ثمنها باهظًَا. هنا تلعب الرقابة الذاتيَّة والمراجعة الضميريَّة دورًا هامًّا في تأدية الواجب، وتصبح المواجهة والتصدِّي لها فرض عينٍ علينا، ومسؤوليَّة شخصيَّة للبحث فيها والكتابة عنها راغبين أو مكرهين.

لا شكَّ أنَّ ردود القرَّاء على ما يُكتب في "إيلاف" مثلاً وليس حصرًا كان الحافز لأن أكتب مرَّة أخرى في موضوعٍ أوثر تجنَّبه، أو أتردَّد قبل الخوض فيه. وبين النفي والإثبات، كان "حديث مع قسِّيس"
المسلمون والمسيحيُون في البلدان العربيَّة متِّفقون على حبِّ الوطن والذود عنه، ولكن بطرق مختلفة ومفاهيم ليست بالضرورةٍ واحدة. ولأنَّ من الحبِّ ما قتل، أخذنا نتقاتل، ونقتِّل بعضنا لنثبت الحبَّ والولاء لوطنٍ أصبحت أرضه "أغلى" من ساكنيها. وهبه جنَّة بلا ناس، كيف يطيب إذًا المقام فيه!
أيُّهما أجدى ردع الجاني ومعاقبة محرِّضه قبل وقوع الضحيَّة، أم إدانة الجريمة وفاعليها بعد حدوثها؟ وأين يقف المثقَّف العربي والكاتب والصحافي وغيرهم من الذين يمتلكون وسائل الإعلام؟ لعلَّ الكارثة الكبرى التي حلَّت بالعراق من جرَّاء السكوت الشيطاني على أعمال صدَّام حسين كان يمكن تلافيها أو الإقلال من أخطارها لو أنَّ الكتَّاب العرب ووسائل الإعلام ورجال الدين أدَّوا واجبهم تجاه مجتعاتهم وواجهوا بشجاعةٍ أدبيَّة وضميريَّة دعوات الضلال القوميَّة والدينيَّة سواء صدرت عن حاكم مطلقٍ أو فئة متشدِّدة تعيث بالمجتمع خرابًا من حيث تدَّعي قوامه وفلاحه. أليس الأجدر أن نجد الحلول لمشاكلنا السياسيَّة والمجتمعيَّة بأنفسنا من أن تُفرض علينا من الخارج ظلمًا وعدوانًا أو رأفة وإحسانًا!
وها نحن في مجتمعاتنا نواجه نتاج ما حصلنا عليه من جرَّاء سكوت شيطانيٍّ عن عصبيَّة قوميَّة عربيَّة تجاهلت وجود الآخرين أو نفته. وما قضيَّة الأكراد ومطالبهم العادلة في وطنهم إلاَّ الدليل القاطع على ما أقول. أمَّا مسألة الأقليًّات الدينيَّة أو المذهبيَّة، فذاك شأن آخر لا بُدَّ من مواجهته بصدقٍ مع النفس وشجاعة مجتمعيَّة لئلاَّ تكون عواقبه أشدَّ وأدهى من مثيلاتها القوميَّة. فعلينا أن نقرَّ ونعترف بأنَّ مجتمعاتنا العربيَّة على اتِّساع رقعتها وامتداد حدودها تجمع شعوبًا مختلفة الأعراق والأجناس والأديان والمذاهب، وليست أمَّة عربيَّة واحدة كما توهَّمنا أو فُرض علينا أن نعتقد. فالأمازيغي في المغرب العربي ليس عربيًّا وإن تكلَّم اللغة العربيَّة ودان بالإسلام دينًا، وفي السودان مزيج من الأعراق والأجناس لا يمكن صهرها في بوتقة "العروبة". ولماذا نصهر البشر في قوميَّة بغيضة ونتخلَّى عن إنسانيَّة أو وطنيَّة تتَّسع للجميع! ففي مصر الكنانة يُفاخر الأقباط بمصريَّتهم، ويؤكِّدون أنَّهم ليسوا عربًا مع انَّهم يتكلَّمون اللغة العربيَّة. وفي الأردن شركسٌ كذلك، وفي العراق أكراد تركمان وآشوريُّون وآخرون من أصول فارسيَّة، وفي سورية أقليَّات عرقيَّة متعدِّدة، وفي لبنان، تراجع الدين وتقدَّمت المذاهب، فمن سكَّانه "فينيقيُّون" و "هلاليُّون" وعرب وأكراد وأرمن، وفي الخليج العربي مواطنون من أصول شتَّى من تركمان وفرس وهنود وآسيويِّين. فهل في سبيل الحفاظ على الاسم والإصرار على الثشبُّث بتاريخٍ لا نتِّفق على صحَّته نجازف بحاضرٍ لا نضمن معه البقاء في مستقبلٍ مجهول المعالم مع أنَّه بدأ يتكشَّف في العراق ولو ببُطءٍ، ولكن بوضوحٍ وإصرار! ألا يكفي الجهل والفقر والمرض والأميَّة والأمن والمخابرات عوامل قاهرة لتأخير مجتمعاتنا لندخلها في دوَّامة الصراعات "القوميَّة" والمذهبيَّة؟
يقول الأب غطَّاس حجل في ردِّه على مقال لي في "إيلاف":
ما أروعك أنت أيضًا يا أخي أحمد. قرأت مقالك بمزيج من الحزن والفرح. حزن على ما يجري في بلادنا من تناحر باسم الدين. وفرح لما يكنُّ قلب أخ مسلم من احترام وتقدير ومحبَّة لنا نحن المسيحيِّن. يا ليت الجميع يفهمون ما جاء بالإنجيل والقرآن: "وَلَتِجِدَنَّ أَقْرَبَهُمُ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى" سورة المائدة 82. "طُوبَى لِصَانِعي السَّلامِ فَإِنَّهُم أوْلادَ اللهِ يُدْعَونَ" متى 9:5. ألا طيَّبَ اللهُ قلبَك وقلوبَ المُحبِّين.
ويقول الأب نديم بطيِّخ من كنيسة القدِّيسين بطرس وبولس الكاثوليكيَّة في أوتاوا معلِّقًا على عظة كان سماحة الإمام الصدر رحمه الله حيًّا أم ميتًا قد ألقاها في كنسية في بيروت عام 1975 تلخَّصت في أنَّ اختلافنا (مسلمين ومسيحيِّين) هو لرفع شأن الإنسان وبنائه. فأكَّد الأب نديم أنَّ الذي يبني الإنسان هو الذي يبني الأوطان. وإذا لم يكن إيماننا بالله هو لبناء الإنسان، فإيماننا باطل. أليست كلمة سواءٍ هي "لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ"!
إذا اتَّسعت كندا، وغيرها من المجتمعات الغربيَّة لشتَّى الإجناس من البشر والمعتقدات والمذاهب واللغات، كيف لا يتَّسع الوطن العربي لأهله وناسه وبينهم كثير من وشائج القربى وحسن الجوار ولين الحوار!
في نهاية الحديث مع رجال الدين المسيحيِّين، أجمعنا على أنَّ علينا ألاَّ نحاكم التاريخ كي لا نظلم الحاضر، ونخسر المستقبل.
كلمة طيِّبة في "إيلاف" لها فعل السحر في القلوب. فما بالك في عملٍ طيِّب في الوطن يآلف النفوس، ويمحي الضغينة والأحقاد في مجتمع لن يسود إلاَّ بتضافر الجهود وإخلاص النوايا والأعمال. "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ." سورة فاطر 14.

كاتب المقال رئيس المركز العربي الكندي للثقافة والإعلام - أوتاوا/ عضو مجلس إدارة نادي الصحافة الوطني الكندي/ ورئيس لجنة الارتباط بالهيئات الدبلوماسيَّة - أوتاوا
editormurad@rogers.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف