كتَّاب إيلاف

العراق في خطايا كتاب جديد

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الأوصال البشعة: هل تقبلون تقطيع العراق؟

"لولا هذا الانقلاب لسار العراق في طريق التقدم وقّدر له ان يكون كالسويد عند نهاية القرن العشرين" (بيتر مانسفيلد في كتابه "العرب")

مقدمة
من اصعب ما يؤلم ان يتدخّل الاخرون لتحديد مصيرك وترتيب مستقبلك وان يخططوا بالنيابة عنك.. ولكن من البشاعة ان يأتي ابناء جلدتك ليشاركوا في هذا الماراثون العجيب ويصفقوا للانقسام وكأن لم يشترك الجميع في الفعل ورد الفعل! تحدّثوا في العام 2003 عن العراق الجديد والتعددية، وتحدثوا في العام 2004 عن الديمقراطية والانتخابات، وتحدثوا في العام 2005 عن الدستور والفيدرالية واليوم في العام 2006 يتحدثون عن التقسيم بكل علانية وعن تفسيخ العراق الى عدة اوصال.. وكأن مسألة التفكيك قد آن أوانها اليوم بعد كل ما حدث من خراب سواء على العهد السابق او ما جرى في العهد الجديد. ان ما وصل اليه العراق اليوم هو نتاج عهود سياسية رعناء ونتاج رهانات الاخرين الخرقاء ونتاج خطايا الذين اعتمدوا هويات وايديولوجيات وشعارات بعيدة كل البعد عن روح العراق الحقيقية.

العراق في خطايا كتاب جديد
لقد أثارني كتاب جديد صدر مؤخرا كان قد ألفه صاحباه في العام 2004، وقد تضمن الكتاب ليس افكارا او وجهات نظر محددة حسب، بل يقدّم مشروعا واضحا فاضحا لتقسيم العراق والكتاب يعلن عن مضمونه في عنوانه الموسوم: مستقبل العراق: هل هو الدكتاتورية، أم الديمقراطية أم التقسيم؟، بل ويرسم خارطة لمستقبل العراق ـ كما تتوّضح على غلافه ـ وقد اصبح العراق خمسة اوصال بشعة الشكل كريهة المحتوى. لقد قرأت الكتاب قبل ان اقرأ كتاب بول بريمر الذي صدر مع بداية العام 2006. ان كتاب مستقبل العراق: الدكتاتورية، الديمقراطية او التقسيم؟ الذي كان من تأليف ليام اندرسون وغارث ستانفيلد من اخطر ما كتب عن العراق واتمنى ان يتصّدى له كل الباحثين الوطنيين العراقيين من شتى الاطياف حتى اولئك العراقيين الذين تعاطف معهم كل من المؤلفين الاثنين، فالمسألة ليست مجرد مصالح قومية او طائفية او جهوية.. ذلك ان المسألة تتعلق بمستقبلهم هم بالذات، فلا يمكن السماح حتى بتقرير المصير، لأن الخوف ليس على الكل المهدد، بل على الجزء المفكك بعد ان يعلن او يقوم! لنقف قليلا على ما كتبه كل من البريطانيين ليام اندرسون وغاريث ستانسفيلد في كتابهما:
Liam Anderson and Gareth Stansfield, The Future of Iraq: Dictatorship. Democracy, Or Division (London: Palgrave Macmillan, 2004). 260 pages?
وهما باحثان انجليزيان اختصاصيان بشئون العراق ولكنهما في كتابهما هذا من ابعد الناس عن فهم العراق وطبيعته ومجتمعه واطيافه. والاول هو استاذ مادة العلوم السياسية في جامعة ولاية "رايت". واما الثاني اي غاريث ستانسفيلد فهو عضو في معهد الشئون الخارجية بجامعة ايكستر وأحد المساهمين في بلورة برنامج الشرق الاوسط. كما انه كان مستشاراً لدى الحكومة البريطانية فيما يخص الشئون العراقية والكردية.

مشروع الانقسام: دعوة مؤجلة
ان أي انقسام للعراق كالذي يطرحه هذان المؤلفان انه علاج للعراق والمنطقة فهو طرح يريد ان يرضي عواطف البعض من العراقيين، ولكنه يقّدمهم على طبق من ذهب الى الاخرين! ان المؤلفان لا يعتمدان اساسا على مصادر العراق الحقيقية، بل اعتمدا في كتابهما على كتابات اجنبية ولا اعتقد بأنهما قد عاشا في العراق حتى يدركان مجتمعه وتفاصيل مكوناته وتعقيدات نسيجه.. انهما يجازفان في الكتابة عن مستقبل العراق في مثل هذا الظرف لا لشيئ الا خدمة لمن يخطط اليوم لتقسيم العراق. انهما يطرحان التقسيم حلا مثاليا للعراقيين بعد ان عانوا من الدكتاتورية وان الديمقراطية ـ حسب رأيهما ـ لا تنفع العراق ولا يمكن ان يمارسها العراقيون. ان تأكيدهما على التقسيم بشكل غير مبرر يمنحنا الثقة كي نقول ان هذه " الدعوة " معدّة سلفا، فضلا عن ان كلا منهما لم يشهدا فشل التجربة، بل سعيا كغيرهما الى افشالها مهما كان الثمن..
فاذا عرفنا ان كتابهما قد نشر في العام 2004، فمتى تمّ تأليف الكتاب؟ وكيف يمكن لأي ديمقراطية ان تعيش في أي مكان اذا كانت الاوضاع مزرية تلك التي يعيشها العراق؟ وكيف يمكن للديمقراطية ان تبدأ في العراق وقد خرج من زمن طويل للدكتاتورية؟ وكيف تريدون هذه " الديمقراطية " ان تنجح اذا كان اسيادها لا يدركون فحواها، وهم يعتبرونها وسيلة لتحقيق اهداف ومصالح غير وطنية اصلا؟ وكيف تريدون للديمقراطية ان تنجح في ظل حراب المحتل وتحت سطوة الميليشيات الحزبية؟ وكيف تريدونها ان تنجح في العراق والعراق تمزقه الطوائف وتكثر فيه التدخلات وتتنازعه الاهواء وتمارس فيه كل الموبقات.. بل ويجتاحه الارهابيون؟

التزوير التاريخي للعراق
ان هذا " الكتاب " واحدا من اكثر الكتب التي تزوّر تاريخ العراق وتسوقّه للعالم وللعراقيين بالذات.. ولا يمكن معالجة كل التزويرات التي يتضمنها الكتاب لكثرتها، بل وان المؤلفين قد اعتمدا على مراجع سيئة او عادية من دون ان يكلفا نفسيهما بالاعتماد على مصادر اصيلة ومعلومات مؤكدة.. انهما يأخذان الاراء التي تخدم اغراضهما ليجعلاها حقائق مسلما بها.. لقد كان العراق خاضعاً للانتداب الانجليزي الذي نصب فيصل الاول ملكاً عليه برغبة من العراقيين انفسهم بذهاب وفود منهم الى ابيه في الحجاز كما هو معلوم. ثم تتابعت ذرية فيصل الاول على العرش من بعده حتى سقوط النظام الملكي على يد الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1958. ومهما انتقدت الدولة سياسيا طوال القرن العشرين، الا ان احدا لم يقل بأن مجتمع العراق كان مثاليا او انه لم يتناصف بين السنة والشيعة، وهناك العرب في العراق، ولكن تشاركهما قوميات واعراق اخرى كالاكراد والتركمان .. فضلا عن اقليات عريقة جدا تعيش في العراق منذ الاف السنين وهم اليعاقبة والسريان والاثوريين والكلدان والصابئة واليزيدية والمعدان.. ان التشديد على انقسامات المجتمع وكأنه كان يعيش صراعا دمويا انما هو تزوير فاضح لتاريخ العراق..
ان الفصل السابع الذي كرسه المؤلفان عن حيرة الديمقراطية ومعضلة الديمقراطية وصعوبة ترسيخها في العراق.. ليس من خلال انتفاء تطبيق ذلك في العراق بقدر ما كمن الخطأ الاكبر في تسويقها كهدف معلن للامريكان والانكليز وجلبها او استيرادها لتطبيقها في واقع مضطرب ومتنوع ومتخلف كالعراق، ولم يكتف بذلك، بل جعلها متاحة لصعود التيارات الدينية والطائفية التي لا تؤمن بالمبادئ الديمقراطية والحريات اساسا! ان التسليم بانعدام نفع الديمقراطية في العراق وعدم الاعتراف بالظروف التي يحيا عليها العراق وكل العراقيين هو اجحاف بحق الاثنين معا.. ان اخفاق تسويق الديمقراطية بالاسلوب الذي سارت عليه العملية السياسية في العراق لا يمكن ان يكون التقسيم بديلا له مهما كانت الاثمان..

هل الديمقراطية مستحيلة في العراق؟
يقول المؤلفان: ولكن بعد ان نجح التدخل العسكري بسرعة في قلب النظام السابق تبين ان تشكيل عراق جديد ديمقراطي شبه مستحيل لاسباب عديدة. واهمها ان العراق مكون من فسيفساء عجيبة وغريبة من الطوائف والاعراق المتناحرة. فهو منقسم على نفسه إلى سنة وشيعة على المستوى المذهبي. كما انه منقسم على نفسه إلى عرب واكراد على المستوى العرقي او القومي. ولهذا السبب فإن التدخل الغربي لن ينجح في مهمته: اي لن ينجح في تشكيل عراق موحد وديمقراطي. فالتناحرات المذهبية والعرقية والطائفية سوف تمنع نجاح مثل هذا المشروع. وقد اثبتت التجربة ذلك.
هكذا يحسم المؤلفان مصير العراق بتوزيع هكذا احكام بليدة وخبيثة من دون ان يدركا بأن العراق لم يكن وحده في هذا الكون يتألف من نسيج فسيفساء عجيبة وغريبة! ولكن من جعل مثل هذه الطوائف والاعراق العراقية متناحرة؟ هل كان البغداديون يقتلون الاكراد في شوارع بغداد؟ هل كان اهل السنة يقتلون الشيعة؟ هل كان على السنة لا يزورون العتبات المقدسة؟ هل كان هناك انفصال اجتماعي وحضاري وعائلي بين الطوائف؟ هل حرم على الاكراد ان يحرمهم المجتمع من التجارة والسياحة والدراسة؟ لماذا لم يفّرق الاغبياء بين اجهزة الدولة وسياسة نظام سياسي وبين عادات مجتمع وتقاليده؟ وهل احتكرت الدولة من قبل طائفة دون أخرى وعرق دون آخر؟ لماذا تزوّر الحقائق لخدمة تقطيع العراق؟ متى حدثت التناحرات المذهبية والعرقية والطائفية؟
من الشناعة بمكان ان اتهم طائفة معينة كونها مسؤولة ليس عن نظام او دولة وحسب، بل اجعلها مسؤولة عن كل ما حدث في التاريخ؟ ان حرب العصابات قد تبلورت في العراق بعد النجاح السريع لقلب النظام السابق، فابتدأت تلك الحرب ضد الاميركان وضد النظام العراقي الجديد من دون ان تتخذ اية اجراءات أمنية وتأمين البلاد من المخاطر الداخلية والاقليمية.. ومن دون ان يستمع الامريكيون لما يقدمه العراقيون المستقلون من نصائح وافكار ومشروعات! وهذه الحرب لا تزال مستمرة حتى الآن. وقد تؤدي إلى تدمير العراق، بل وانها قد دمرّته سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. انها تحصد العشرات كل يوم سواء من شرطة النظام او من السكان المدنيين او من تدمير البنى والهياكل والمؤسسات، ناهيكم عن عمليات العصابات واعمال الخطف والقتل والتفجيرات والتفخيخات الذي يذهب ضحيتها الابرياء من كل العراقيين. ان بقاء الاوضاع العراقية على ما هي عليه، بل وتطور بشاعاتها من دون أي حلول جذرية تؤكد ان اجندة محلية واقليمية ودولية كلها وجدت لها ميادين عمل ليس لتفكيك العراق وحده، بل للذهاب بمنطقة الشرق الاوسط برمتها الى عصر الظلمات!

لماذا يكون التقسيم حّلا وحيدا؟
يردف المؤلفان قائلين: وبالتالي فربما وصل الاميركيون اخيراً إلى النتيجة التالية: " وهي ان الحل الوحيد الممكن في العراق هو التقسيم وليس الديمقراطية ". وأتساءل: هل كانت الديمقراطية وسيلة ساحرة للوصول الى الهدف الذي يطمح له الاقليم، أي تجزئة العراق الى ثلاث كيانات هزيلة او اكثر من دون ان يعي كل من يسعى الى التقسيم، بأن ذلك ليس هو الحل، فسواء انقسم العراق او ابتلعت اجزاؤه، فان العراقيين سيدخلون بتاريخ طويل من الصراعات الداخلية والاقليمية كونهم ابناء مجتمع انقسامي وفي كيان مرّكب، ولكنهم ابناء ارض مترابطة جغرافيا برباط وثيق يمثله كل من النهرين الازليين دجلة والفرات.. وستمر ثلاثين سنة على الاقل حتى يسترجع العراق انفاسه ان حدث له أي تقسيم اليوم في المرحلة المنظورة لاربع سنوات قادمة (أي حتى نهاية 2009). اما ان استطاع العراقيون ان يلمّوا شعثهم خلال هذه المرحلة الصعبة جدا ويقفوا ضده وقفة رجل واحد، وهذا ما استبعد حصوله، بسبب الافتراقات السياسية التي تستند على نزوعات طائفية وعرقية، فان العراق يلزمه ما لا يقل عن ثلاثين سنة لاستعادة عافيته.

المعلومات البليدة وراء الانقسامات
عندما اقارن بين المعلومات التي كان ينشرها الغربيون وخصوصا البريطانيين والفرنسيين عن العراق في بدايات القرن العشرين مع ما ينشر اليوم من قبل الغربيين وخصوصا الامريكيين فانني اجد فوارق كبيرة جدا من النواحي العلمية والسياسية اذ كان القدماء اكثر تحريا ميدانيا وتشخيصا بارعا ودقة في الارقام وقلة في اطلاق الاحكام.. اليوم وخصوصا منذ خمس سنوات وحتى الان اجد تكريسا متعمدا لمعلومات خاطئة وحقائق لا واقع لها واجد ارقاما تفبرك واحكاما جزافا تطلق.. وكلها يتلقفها العالم والعرب والعراقيين في مقدمتهم باعتبارها من المسلمات، وهذا ما يفني الواقع العراقي الذي يقام على اسس ومعلومات خاطئة..
يقولان عن العراق: " فالبلد مقسم بشكل طبيعي وجغرافي تقريباً. فالجنوب عربي شيعي اساساً، والوسط عربي سني اساساً، والشمال كردي سني اساساً.. وبالتالي فإذا ما تعذرت الديمقراطية، ويبدو انها متعذرة في الافق المنظور على الاقل، فلا حل الا بتقسيم العراق! وعندئذ تنتهي المشكلة من اساسها، فآخر الدواء الكي كما تقول العرب.." (ص 65) وهنا لابد ان يتساءل المرء: كيف يمكن ان يتجرأ باحثان انكليزيان لاطلاق هكذا احكام من دون معرفة حقيقة التوزيع السكاني ومصاهرات النسيج الاجتماعي وما الذي ستنتجه عملية الانقسام من نتائج غاية في الرعب لا يمكن للبلهاء ان تتخيلها كونهم من عديمي التفكير، فلا يمكن ان تنظف مدينة الزبير من سكانها السنة، ولا يمكن ان تستأصل قبائل السعدون والمنتفج من الناصرية ولا يمكن بنفس الوقت تنظيف تلعفر في الشمال من او اطراف كركوك والتون كوبري وطوزخورماتو من التركمان الشيعة والشبك!
اما المركز بغداد فهو حاضنة العراق وعقدته بطوله وعرضه لا يمكن ان نتخيل ما سيحل من فجائع ببغداد ان استسلمنا لهوى مثل هذين الكاتبين البريطانيين البليدين وامثالهما من الامريكيين والعراقيين معا! ان هذه الاطروحة المتطرفة لا تأخذ بعين الاعتبار ان السنة العرب موجودون في البصرة والجنوب ايضاً، وان الشيعة العرب موجودون في بغداد بكثرة وكذلك في كربلاء والنجف اللتين تنتميان إلى منطقة الوسط. وحتى الشمال الكردي لا يخلو من العرب ومن العناصر غير الكردية كالتركمان والمسيحيين الخ. ان هذه " الاطروحة " ما كانت لتكون لولا المعلومات الخاطئة التي اعتمد عليها الاعلاميون والتي روجّها الامريكيون متعمدّين - كما يبدو لي - بحيث خرجت من قراءة كتاب " عامي في العراق " لبول بريمر وانا مشمئز النفس من المعلومات التي اعتمد عليها في ادارته للعراق.. وقارنت بينه وبين السير برسي كوكس بعيد الحرب العالمية الاولى، والذي كم كانت له ولكل طاقمه من معلومات صحيحة ومعرفة باللغة العربية واندماجا بالمجتمع ونسيجه من اجل صنع القرار في العراق وبناء أي اطروحة في تكوينه السياسي والمستقبلي.

الطريق الى الخراب
لم يفقه كل من ونستون تشرشل ولا برسي كوكس ولا ارنولد ولسن ولا المس بيل ولا الكولونيل لجمن ولا غيرهم عندما وجدوا ان مصلحة العراق الازلية تقضي بتركيب الولايات العراقية (العثمانية) الكبرى الثلاث في كيان واحد يمكنه ان يقف طويلا امام كل من تركيا وايران وكل من هذين الكيانين من اخطر جيران الامة العربية.. وان من مصلحة العراقيين والعرب ماضيا وحاضرا ومستقبلا ان يبقى العراق موحّدا في ارضه وشعبه مهما بلغ غلواء الانقساميين والشوفينيين والطائفيين. هل أدرك كل من هذين المؤلفين ومن يشاطرهما من العراقيين ان هناك الالاف المؤلفة من العراقيين الذين ذهبوا ضحايا من اجل العراق لا من اجل أي اهداف اخرى؟ هل يدرك هؤلاء ان هناك من ناضل لسنوات طوال ضد مشروع مطالبة مصطفى كمال اتاتورك بولاية الموصل؟ وما ادراك ما ولاية الموصل؟ انها الممتدة من حدود العراق مع ايران الى حدوده مع سوريا وهي تضم الوية الموصل واربيل وكركوك والسليمانية؟ هل يدري اولئك الغرباء بان رجالا حقيقيين من ابناء مدينة الموصل وبالاخص الحزب الوطني العراقي وحزب الاستقلال وجمعية الدفاع الوطني في الموصل دافعوا دفاعا مستميتا من اجل ان تكون الولاية عراقية وبذلوا الغالي والنفيس من اجل الحصول على قرار دولي بعراقيتها؟
وبالتالي فكيف يمكن تقسيم العراق؟ الا يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب اهلية شعواء تتسع نحو كل المدن والارياف.. وتجري حملات تطهير طائفي وعرقي في مختلف المناطق؟ هذا السؤال لا يجيب عنه المؤلفان بشكل واضح وانما يكتفيان بالقول بانه لا توجد هوية عراقية راسخة، وانما توجد هوية شيعية، وهوية سنية وهوية قبلية وهوية كردية.. " هذا الكلام ومن مثله لم يكن أي عراقي يمكن ان يتلفظه او يفكرّ فيه، ولكنه اصبح شائعا على الالسن بعد ان لاكته الفضائيات والتصريحات من قبل المسؤولين الجدد الذين ساهموا مساهمة حقيقية في تفجير الوضع العراقي لما هو سيئ والانتقال من ذلك السيئ الى الاسوأ.
ثم يضيف المؤلفان قائلين: " ان العراق هو عبارة عن تركيبة اصطناعية شكلها الانجليز عام 1921 وليس دولة حقيقية ذات نسيج اجتماعي وسياسي موحد. وبالتالي فالعراقيون يدفعون الآن ثمن الاخطاء التي ارتكبها الانجليز، وتشرشل على وجه التحديد، عندما وحد بين ولاية البصرة، وولاية بغداد وولاية الموصل دون استشارة رغبة سكانها " (ص 76). صحيح ان العراق بلدا مركّبا من ثلاثة اقاليم تاريخية كبرى عرضا اذ لا يمكن ان نطلق صفة " الدولة الحقيقية " لأن الدولة في تعريفها: مجموعة مؤسسات فهي لا تعني الارض.. ولقد عرفت الارض التاريخية للعراق ببلاد وادي الرافدين (= بلاد ما بين النهرين) Mesopotamia وهنا لا يميز كل من هذين الباحثين بين مصطلح الدولة ومفهوم المجتمع وطبيعة البلاد.. ومتى وجدت أي بلاد في كل هذا العالم ذات نسيج اجتماعي وسياسي موّحد؟؟ ان العراقيين لم يدفعوا ثمن أي اخطاء ارتكبها الانكليز لوحدهم، بل اخطاء من سبقهم ومن تلاهم حتى اليوم.. وانني اعتقد ان الانكليز قد نجحوا في توحيد العراق ولم يسهموا في تفكيكه كما حلّ ببلاد الشام.. ان الجهلاء لا يقرأون التاريخ ولا الجغرافية ولا الاستراتيجية، فهم لا يعرفون العراق معرفة حقيقية، ولا يعرفون ان لا مستقبل لمثل هذه المجموعة البشرية المتناحرة اليوم من دون العراق.. وانا اقصد كل العراقيين ولا استثني منهم احدا.

صدمة التغيير التاريخي
ربما لا يحب الكثيرون ممن يعرفون عن الشأن العراقي الاعتراف بأن استقرار العراق أصبح يعتمد اعتمادا كبيرا ورئيسيا على الولايات المتحدة، وأن فرص الحرب الأهلية والفوضى بيدها أيضا، فبعد حل الجيش والأمن ومؤسسات الدولة وملاحقة قادتها وكوادرها الرئيسيين بحجة استئصال البعث، جرد العراق من كل مقومات وحدته والعناصر التي كانت تجمع فئات الشعب ومن الخبرة الإدارية والدفاعية والتعليمية. ويجري على نحو مقصود رد العراق إلى المكونات البدائية التي أمضت الدولة العراقية ثمانين سنة في تطويرها ونقلها إلى حالة مما تقوم عليه الدول المتقدمة، فالعراق يقسم برعاية أميركية إلى عرب وأكراد وتركمان وشيعة وسنة، ويجري التعامل مع كل فئة من السكان مستقلة عن العراق وعن الفئات الأخرى، فالإدارة الأميركية لا ترى بلدا اسمه العراق، ولكنها ترى مناطق وفئات وشيعا ومصالح تعزلها عن بعضها مكاسب تتنافسها النخب والمجموعات.
لقد شكل مجلس للحكم على أساس طائفي غلبت فيه فئة من العراقيين على جميع الفئات الأخرى، وأطلقت المليشيات في المناطق والمكاتب والإدارات لتحل محل الجيش والشرطة والدوائر والمؤسسات المركزية.

المستقبل العراقي إلى أين؟
إنه سؤال متكرر يتبادر إلى أذهان كل العرب في هذا العالم كلما جد جديد على الساحة العراقية، بل وأيضا على الساحة الدولية التي باتت تأثيراتها وثيقة الصلة وتنعكس مباشرة على الساحة المحلية. وللإجابة على هذا التساؤل، يمكن التوقف أمام دراستين أمريكيتين تقتربان -بطريقة أو بأخرى- من محاولة إجابة هذا السؤال. الدراسة الأولى للأمريكي "مايكل نايتس"، المحلل العسكري والباحث المتخصص في شئون الشرق الأوسط بمركز "واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، وتدور دراسته حول الفرضية القائلة بأن المستقبل السياسي العراقي سيتحدد من قبل شيعة الجنوب لا من قبل المثلث السُني ولا من قبل الاكراد الذين ستأكلهم كل من تركيا وايران.. ويضيفان بأن الشيعة هم الحلقة الاضعف في بقائهم لوحدهم في الميدان، اذ لا خيار امامهم الا ايران، ولكن ايران لا تبحث عنهم بل تبحث عن مصالحها فقط!
أما الدراسة الثانية فهي عبارة عن كتاب أصدره خبيران أمريكيان في مجال "إعادة بناء الدول" ولهما باع كبير في المشاركة في إعادة بناء الدولة العراقية بعد 9 إبريل 2003؛ هما "لاري دايموند" و"ديفيد فيليبس". ويدور محور الكتاب الذي نشر مؤخرا تحت عنوان "الانتصار الضائع: الاحتلال الأمريكي والجهود الفاشلة في إقامة الديمقراطية بالعراق" حول الفرضية القائلة بأن مستقبل العراق لن ينفع معه أي حلول أمريكية، اللهم إلا حل "بناء الدولة" الذي -وإن طبق- سيكون أكثر صعوبة من تطبيقه في أي دولة أخرى نتيجة للأخطاء الفادحة التي اقترفتها الإدارة الأمريكية بالعراق على مر العامين الماضيين.
إن هاتين الفرضيتين -ورغم وجود عوامل أخرى مؤثرة- تستحقان التناول لإمكان استشراف المستقبل العراقي بعد ثلاث سنوات من الاحتلال الأمريكي للعراق؛ إذ لا يمكن إغفال أهمية دور الشيعة وما بين الأحزاب الشيعية من خلافات وعلاقتهم بالسنة على مستقبل العراق، فضلا عن توضيح الخوف على كل العراق عندما يتم توجيه انظار الاكراد الى ما يخفيه الاخرون ليس ضدهم فحسب، بل ضد العراق.. كما لا يمكن تجاهل حقيقة اكتشاف الولايات المتحدة لأخطائها التي تعددت في العراق والتي ينادي الكثير من الأكاديميين الأمريكيين إلى التغلب عليها وبناء نظرة جديدة أكثر واقعية لتشكيل الدولة العراقية.

خلاصة هذا النقد
في خضم هذا المخاض الصعب الذي يمر به العراق نتيجة الاحتقانات التي بات يعيشها المجتمع العراقي وغيبوية كل الاصوات العراقية في مناشدتها الجميع لا في تكريسها لمشروع طائفة او هوية جماعة او ترسيخ مذهب او انفصال اقليم.. في ظل واقع مليئ بالنكد والاحزان.. وفي وجود قوة محتل لا يعرف اين الحقيقة وفي صراع قوى سياسية متناحرة على السلطة والبترول وفي تفاقم تكتلات قصمت ظهر الحياة الوطنية.. وفي ظل ترويج ما تضمنه دستور يكّرس كل هذه وتلك.. تبدأ رحلة العراق نحو المجهول خصوصا وان هناك من يروّج لتقسيمه ونحره امام كل العالم وبمباركة عراقيين فقدوا مشاعرهم الوطنية وبات المسؤولون الذين يعتقدون بصحة عمليتهم السياسية لا يعرفون الا الصراع على المناصب ولم اجد واحدا منهم يعمل لوقف نزيف الدم والقتل والخطف والتفجير.. لقد بقوا هم انفسهم طوال ثلاث سنوات يطلقون الوعود بالاصلاح والامن والاستقرار، ولكن تبيّن انهم على اضعف ما يكون في قيادة العراق!
ان المأساة العراقية لابد ان تجد لها حّلا ايها العراقيون.. اذ لا يمكن البقاء ضمن رهانات غير مجدية ونحن نرى شعب العراق ينتحر وان نرى العراق الذي تربينا على محبته وعشقه والاعتزاز به ينحر امام عيوننا.. هل ماتت ضمائر العراقيين وهم يشهدون رحيل وطنهم الى الفناء والصمت يسكنهم؟ لقد ترّسخت قناعة لدى بعض العراقيين ومنهم بعض من اصدقائي بأن لا علاج للعراق الا التقسيم، وهم يخدعون انفسهم خدعة عمياء، اذ لا يدركون ما الذي سيحل باوصال العراق من تشظيات اثر انقسامه! هل يمكننا ان نشهد تقسيم العراق بايدي العراقيين.. ليصبح اوصالا تتقاذفها دول الاقليم.. ونحن نسمع عن تحركات وخروقات لكل من جيشي تركيا وايران في داخل الاراضي العراقية؟؟ هل تجدي كلماتي نفعا ايها العراقيين.. فاحلامنا التي كنا قد بنيناها في تكوين عراق حضاري جميل طوال سنوات مضت قد تبددت.. ولم يبق امامنا الا النضال من اجل بقاء العراق.. ولم يبق امامنا الا المطالبة بانظف العراقيين كي يحكموا العراق، ويلموا شعثه، ويستعيدوا حياته وامنه واستقراره.. هل سنشهد ذلك ام نقول وداعا لوطن لا نريده خائرا ضعيفا ايلا للسقوط ولا نريد ان تشيده الشراذم والجماجم والدم.. فلقد تحطم بايديها وبقيت الدنيا لم تتحطم!!
www.sayyaraljamil.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف