نعم: سوريا أولاً..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
و.. أخيراً أثارت انتقادات الرئيس بشار الأسد
لشعار (الأردن أولاً)، في مؤتمر الأحزاب العربية الذي انعقد في دمشق بداية شهر آذار الماضي، ردود أفعال سلبية في بعض الأوساط الأردنية التي رأت في كلام الأسد اساءة لبلدهم (الأردن)، بينما تشهد العلاقات السورية الأردنية فتوراً ملحوظاً على خلفية التباين في المواقف والرؤى من القضايا والملفات الإقليمية، خاصة بعد تحذير الملك الأردني (عبدالله الثاني) قبل أشهر من مشروع (الهلال الشيعي) الذي تقوده ايران في المنطقة. من دون الدخول في سجال حول أهداف وخلفيات صدور وثيقة(الأردن أولاً)، التي يرى فيها الأردنيون (مشروع نهضة واستنهاض) لبلدهم، أعتقد بأن هذا الشعار، وغيره من الشعارات المماثلة التي بدأنا نسمعها مؤخراً في العديد من دول المجموعة العربية(لبنان أولاً... عراق أولاً.. مصر أولاً ..)والتي يفهم منها تقديم (الوطني) على (القومي)، قد جاءت في سياق جملة تحولات فكرية وتطورات سياسية مهمة وكبيرة، عصفت بالعالم منذ نهاية القرن التاسع عشر وامتدت تأثيراتها الى منطقة الشرق الأوسط. هذه التحولات أحدثت انقلابا في الأفكار والمفاهيم، دفعت الكثيرين، دول وأحزاب وأفراد، الى اعادة النظر في شعاراتهم و مراجعة أطروحاتهم ومواقفهم السياسية القديمة التي ارتبطت بمرحلة تاريخية معينة وبأحزاب ذات ايديولوجيات شمولية، قومية كانت أم يسارية أم دينية، أساءت كثيراً للمفاهيم الديمقراطية ولحقوق الإنسان والمواطنة. و(سوريا) لم تسلم من هيمنة (الايديولوجيات الشمولية)، فهي عانت، وما زالت، من حكم واستبداد (نظام شمولي) لأقدم أحزاب القومية العربية (البعث العربي الاشتراكي)، الذي يسعى لإبقاء سوريا (قطراً عربياً)، دولة منقوصة السيادة والمكانة، ربط نهوضها وتقدمها بأوهامه القومية، وببقائه حزباً قائداً للدولة والمجتمع(المادة الثامنة) من الدستور الذي وضعه لنفسه.جاء في مقدمة الدستور:((في القطر العربي السوري واصلت جماهير شعبنا نضالها بعد الاستقلال واستطاعت عبر مسيرة متصاعدة أن تحقق انتصارها الكبير بتفجير ثورة الثامن من آذار عام 1963 بقيادة البعث العربي الاشتراكي، الذي جعل السلطة أداة في خدمة النضال لتحقيق بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد)).على أرضية هذه الايديولوجيا القومية وتحت شعاراتها الطوباوية، انغمست السياسة السورية طيلة المرحلة الماضية وبشكل كبير في القضايا الإقليمية، خاصة عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد(1970-2000)، الذي كان حريصاً على استمرار دوره الإقليمي والمزيد من النفوذ السوري في ادارة أزمات المنطقة، على حساب العديد من القضايا الداخلية الأساسية في مقدمتها قضية الديمقراطية والتنمية، وبحسب (باتريك سيل): ((كان(الأسد) يخشى من أن تتحول الديمقراطية الفعلية في الداخل السوري الى مصدر قلق وارباك لحكمه وتحد من طموحاته الإقليمية)).
لا شك، ظروف(الحرب الباردة) ساعدت في تحقيق بعض الطموحات الإقليمية لـ(الأسد الأب)، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفجيرات ايلول 2001، حصل تبدل مهم في توجهات وأهداف السياسة الدولية، خاصة تجاه(الشرق الأوسط) الذي منه انطلق منفذوا العمليات الإرهابية في كل من نيويورك وواشنطن، في سياق هذا التحول الكبير في السياسة الدولية جاءت الحملة الأمريكية البريطانية على المنطقة واحتلال العراق تحت عناوين مختلفة، وعزل سوريا وتجريد نظامها من أوراقه الإقليمية بدون مقابل. بدءاً من(الورقة الكردية) مع تركيا(حزب العمال الكردستاني pkk) الذي قاتل النظام التركي في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وقد سبب احتضان سوريا لزعيمه(عبدالله أوج آلان) في توتير العلاقة مع الدولة التركية وكادت أن تندلع حرب معها عام 1994، لولا تراجع سوريا عن موقفها وابعادها لـ(أوج آلان) عن أراضيها، وتوقيعها اتفاقية أمنية (اتفاقية أضنة) بشروط تركية، تخلت بموجبها سوريا عن المطالبة بـ(لواء اسكندرون)، كما نقلت بعض المصادر الصحفية.في حين كان يمكن أن تكون هذه الاتفاقية لصالح سوريا، خاصة في موضوع الخلاف على مياه نهر الفرات والعلاقات التجارية بين البلدين، حين كانت تركيا تسعى لنزع ورقة pkk من يد سوريا عبر التفاوض. كذلك الحال بالنسبة للورقة اللبنانية، حيث خرجت القوات السورية من لبنان في نيسان2005، قسراً تحت الضغط الدولي بموجب القرار 1559 الذي صدر عن (مجلس الأمن الدولي) بعد جريمة اغتيال الحريري، في مرحلة شهدت أسوأ العلاقات اللبنانية السورية، في حين لو خرجت القوات السورية من لبنان طوعاً وبموجب تفاهم لبناني سوري كانت ستحتفظ سوريا بأفضل العلاقات مع لبنان و كانت ستشعر كل اللبنانيين بأنهم مديونين لسوريا بوقفها الحرب الأهلية في لبنان.
بعد أن تلاشى (الحلم القومي العربي)، وتعاظمت أخطاء سياسات النظام التي جلبت لسوريا العزلة الدولية والعربية، في وسط العواصف السياسية والعسكرية الأمريكية والغربية التي تحيط بالمنطقة، يفترض أن تقوم (الطبقة الحاكمة) في سوريا بمراجعة مشروعاته السياسية وأطروحاتها القومية واعادة بناء علاقات سوريا مع العالم الخارجي على ضوء المصالح الوطنية العليا للبلاد، بعيداً عن الشعارات والعقائد المعلبة و المقولات والأفكار الايديولوجية والقومية الجامدة التي انهزمت أمام تحديات الواقع.والعمل على عقلنة (الفكر الوطني) وبما يؤسس لمرحلة سياسية وثقافية جديدة في سوريا، عنوانها: من أجل (سوريا أولاً وأخيراً)، عمادها (الوطنية) بدل القومية و(الديمقراطية) بدل الاستبداد. و من أجل مجتمع سوري تعددي ديمقراطي ليبرالي علماني، آمن ومستقر، يقوم على العدل والمساواة والقانون وفصل السلطات وتوزيع عادل للثروة، مجتمع تقوم فيه مؤسسات المجتمع المدني بمراقبة السلطة وأداء الحكومة ومحاسبة المسيئين والمفسدين عبر إحالتهم الى قضاء مستقل ونزيه. مجتمع تتحرر فيه (حقوق الإنسان) و(حقوق المواطنة)ومفهوم (الوطنية) من ثقافة السلطة وقوانينها.أن سوريا أحوج ما تكون اليه في هذه المرحلة هو: دستور وطني جديد ينهي احتكار الحكم من قبل البعث ويفسح المجال أمام التداول الديمقراطي للسلطة، دستور يعيد للمجتمع السوري، الذي يتصف بالتنوع القومي والديني والمذهبي، توازنه السياسي والثقافي والاجتماعي، وبما يعزز(الانتماء الوطني) الذي تراجع أمام الانتماءات الإثنية والدينية والمذهبية والقومية التي برزت وبقوة في السنوات الأخيرة وهي تحمل معها مخاطر تفكك (الهوية الوطنية) لسوريا وتشرذم المجتمع السوري، في أجواء و مناخات إقليمية يخيم عليها شبح الصراعات العرقية والمذهبية.
على ضوء ما تشهده الساحة السورية مجدداً هذه الأيام من تشديد الخناق على الحراك الديمقراطي واعتقال نشطاء المعارضة والمدافعين عن حقوق الإنسان و ناشطي المجتمع المدني، لا يبدو أن النظام هو في وارد التراجع عن سياساته القديمة وعن العقلية الأمنية التي يحكم بها سوريا والنظر في قضية الحريات والديمقراطية والمعتقلين السياسيين وحقوق القوميات الغير عربية (آشوريين وأكراد) وغيرهم. إذ من الواضح أن النظام أدار ظهره لقضايا الداخل ولحاجات المجتمع السوري، فهو منشغل بالدرجة الأولى بإعادة ترتيب أوراقه الإقليمية من جديد والبحث عن أوراق بديلة، ذات طابع اسلامي (حماس، حزب الله، ايران) بعد أن فقد الأمل والثقة بالنظام القومي العربي.
كاتب المقال سوري آشوري مهتم بحقوق الأقليات
shosin@scs-net.org