اندثرت دولة طالبان... فهل اندثرت أصوليتها؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ربما تكون دولة طالبان قد اندثرت مؤسساتها ونصوصها الرسمية، لكن إيديولوجيته وثقافتها الأصولية الظلامية لا تزال تعتمل في نفوس الكثير من الأفغان.وهي تمتح من الأصولية السلفية التي تفجر نفسها عنفا إرهابيا في السعودية، فالكويت، وقد تسربت إلى العراق، حيث تؤسس قاعدة كبيرة لها تجذب إلى سلفيتها المتشددة الكثير من شباب السنة العراقية المعروف عنها الاعتدال والوسطية تاريخيا.
إن الدولة الأصولية المشتهاة في رؤية السلفيين والوهابيين المتزمتين ليست أقل من دولة طالبان تزمتاً.ودستورها لا يخرج عن أول تشريع قانوني أصدرته حركة طلبان، بُعيد استيلائها على السلطة. وهو عبارة عن حزمة أحكام تفتيشية، موقعة بخاتم الملا عمر، الحاكم بأمر خياله الخرافي، الذي هو من خيال طالبانه، الذين هم طلاب مصادرات على المطلوب، برسم ذهنية تحريم قطعية، هي نتاج ثقافة مستحاثة، لا علاقة لها بروح الإسلام الأصيل!!
جاءت أحكام التحريم في ست عشرة مادة، لتعبر، عمليا، عن طبيعة التفكير التكفيري لأصولية الطالبان. وهي، من جهة سيكولوجية الجماهير، محمولة على منولوج داخلي لحالة هذيان ذكوري جماعي يعكس حالة اغتراب عصابي تجاه العصر ومعطيات حداثته (نظرا وعملا). وفي معناها السوسيوثقافي، هي ست عشرة وصية من الحقد الذكوري العدواني على المرأة بحسبانها موضوعا "مثاليا" لإلصاق الخطايا بها، وتحميلها مسؤولية إنحلال الأخلاق الاجتماعية، و"ضياع" الإسلام. وبالتالي تصبح قضية المرأة هي المعادلة المركزية لـلأصولية الظلامية في حربها على الحداثة والديموقراطية والمستقبل.!
معادلة من طرفين متناقصين. من جهة صورة المرأة السافرة التي تعادل، في التصور التكفيري، صورة الحداثة الغربية (الشيطانة/السافرة). ومن الجهة الأخرى، صورة المرأة المحجبة، على الطريقة الطالبانية، التي تعادل، في التصور البيوريتاني الطالباني، مثال"الطهارة والعفة". فتكون الحداثة، في تصور ذهنية التحريم، شيطان في هيئة أنثى مُغوِّية تستحق الرجم حتى الموت كي لا تدنس صورة المرأة"الطاهرة" المطمورة في الظلامات. أي تلك التي لا وجه لها خارج مجال النظر الحلال (الأب/الأخ/الزوج/الأبن)!!
وبالطبع لا يفي الحجاب الإسلامي، كما بينه الشرع في حدوده البسيطة، بغرض ذكور طلبان "لصيانة النساء من الغواية" كما جاء في المادة الأولى من الأحكام التحريمية الطالبانية، حيث: "لا يسمح لسائق عربة أو سيارة بنقل امرأة ترتدي الحجاب الإيراني؛ لأنه لا يكفي للتغطية الشرعية، وفي حالة المخالفة فإن السائق سوف يحكم عليه بالسجن، كما أنه إذا صادف البوليس الشرعي امرأة تمشي في الطرقات بالبرقع الإيراني وحده، فسوف يقبض عليها، وإذا تواجدت امرأة في الطريق دون رجل من أهلها فسوف يتم القبض عليها"؛ فالحجاب/البرقع الإيراني، في نظرهم، شكل من اشكال السفور، أو حجاب دون الحجاب، أي دون الشادور الأفغاني الذي هو ظلمة مطبقة!!
وكذلك ينسحب أمر الغواية على الموسيقى، فهي (في الذهنية الطالبانية البارانوية) رجس من عمل الشيطان وتجريد صوتي للمرأة المغوية، ولأنه لا يمكن حجب الموسيقى تحت شادورأو نحوه، فيكون الحل الأمثل، عندهم، منعها بالكامل، بحيث يُحظر: "إذاعتها من أي وسيلة إعلامية عامة.كذلك يحظر على المحلات والفنادق والسيارات والعربات أن تستعمل أجهزة تسجيل الغناء وإعادتها لأن ذلك ممنوع، وهذا الأمر لابد أن يطبق خلال خمسة أيام، وإذا وُجدت أي أدوات موسيقية في محل، فان صاحب المحل سوف يُسجن والمحل سوف يُغلق.ويفتح المحل فقط في حالة تقدم خمسة أفراد لضمان أن صاحب المحل لن يعود إلى ارتكاب المخالفة مرة أخرى، وإذا وُجدت شرائط موسيقية في سيارة فإن السيارة سوف تُصادر والسائق سوف يُسجن ويمكن الإفراج عن الاثنين في حالة تقدم خمسة أفراد بضمانات بعدم تكرار المخالفة."
وكما للمرأة حجابها، للرجل أيضا حجابه، في الذهنية الظلامية. إنه لحيته "المقدسة"، رمز ذكورته، وهوية إنتمائه لدولة الطالبان، ولذلك:" يُمنع حلق اللحي أو قصها وفي ظرف شهر ونصف شهر من الآن، فإن أي رجل يُضبط حالقا ذقنه أو قاصاً شعره، سوف يُقبض عليه ويُسجن حتى تكبر لحيته إلى حدها الشرعي." وطبعا لا يحدد النص التحريمي القياس المعياري Standard لطول وعرض الحد الشرعي للحية الذكورية"المقدسة"..!!
ثم دع عنك التساؤل حول علاقة الشريعة الإسلامية بتحريم اللعب بالطائرات الورقية، وتحريم:" الاحتفاظ بأبراج الحمام واللعب بالطيور وخلال عشرة أيام، فإن هذه العادة أو الهواية لابد أن توقف وبعد عشرة أيام سوف يجري تفتيش يضمن تنفيذ هذا البند، وإذا ظهرت مخالفة له فإن المسئول يُقتل."...هكذا بكل بساطة يُسفّك دم النفس التي حرم الله قتلها بغير حق لمجرد ممارسة هواية جد بريئة، والحقيقة ان السبب الجوهري، وراء إدراج هذه المادة، هو الحاجة الأمنية لمنع المراسلة مع قوات المعارضة..!!
أما المادة السادسة القائلة: "لمنع الشرك بالله فإن كل صور أو رسومات في حجرات البيوت أو في المحلات أو في الفنادق أو في أي مكان آخر، لابد أن تُرفع، وسوف يُكلف المسئولون بالتفتيش للتأكد من تنفيذ ذلك الأمر في أي مكان." فهي تستند في تشريعها علي تفسير مشوه لموقف الإسلام في رفضه لفكرة تجسيد مفهوم الإله، وذلك لأن مفهوم الله فكرة مجردة في الدين الإسلامي، ورسوله محمد إنما هو بشر يذهب إلى السوق مثله مثل البشر. لكن هذا لا يعني مطلقا تحريم الرسم والنحت محاكاة للبشر والطبيعة، أو استخدام التصوير التلفزيوني والسينمائي. ودولة طلبان الظلامية نفسها عندما حكمتها الضرورة السياسية، في توصيل وجهة نظرها للعالم، سنت فتوى إستثنائية تسمح بتصوير المؤتمرات الصحافية لوزير خارجيتها!!!
وهكذا قد يفهم أو يتفهم المرء، المسلم وحتى غير المسلم، أن يُحرّم القمار والمخدرات والفوائد على القروض. ولكن ما دخل الشريعة الإسلامية في ان يصفف المرء شعره على الطريقة الإنجليزية أو الأمريكية (تحديدا دون غيرهما) بحيث:"من يُضبط متلبساً بتصفيف شعره على هذا النحو سوف يتولى البوليس الشرعي حلق شعره وتغريمه أجر الحلاق." طبعا لم يوضح المشرع، أو يرفق رسوم لموديلات توضح متى تكون التصفيفة إنجليزية أو أمريكية؟! ويبدو ان المشرع الطالباني كان حلاقا في الأصل، إذ أنه أعفى الحلاق من العقاب بل وأعطاه الحق في أجره، رغم أنه طرف في مخالفة التعاليم "المقدسة"!!
وهكذا تمضي ذهنية التحريم، الظلامية، في عصابها الذكوري متعقبة، بالدرجة الأولى، مخالفة حركة المرأة للنص الطلباني "المقدس"، كأن تضبط وهي تسير في الشارع وحدها دون محرم رغم شادورها الذي هو بمثابة زنزانة متنقلة، توجد بها نافذة من ثقوب صغيرة تحتمها ضرورة النظر، أو أن تضبط وهي تأخذ مقاييس جسدها بغرض تفصيل ملابس لها حتى ولو كان القائم بالعمل امرأة أخرى، أما إذا ضُبطت الشابات من النساء يغسلن الملابس في قنوات المياه العامة في المدينة فيتم القبض عليهن ويُعَدن إلى بيوتهن ويتعرض الأزواج للحبس.أما لماذا يعاقب الزوج على صنيع لم يفعله؟! فذلك لأن المرأة كائن مملوك في عرف ذكور طالبان، وبالتالي فمن يعاقب هو المالك كما يعاقب صاحب الكلب لانتهاك كلبه للقانون؟!
الخلاصة أن ثقافة الطالبان الظلامية، وان سقطت دولتها في افغانستان (ربما حتى إشعارآخر!!) لا تزال تهيمن على اذهان أصوليي الظلام والدم المعشعشين في جنبات العالم.صحيح انها افلست، في بعض المجتمعات الإسلامية، بعدما ارتكبت مسلسلا طويلا من المجازر المتواترة، إذ عجزت خرافاتها عن الانطلاء على الناس، لوجود اسس قوية لمجتمع مدني حديث، يستند إلى تاريخ نهضوي غني، وثقافة تنويرية متأصلة، كما في مصر والجزائر.لكن أفكار الأصولية الظلامية لا تزال حية، في مجتمعات إسلامية(عربية تحديدا) ذات بنية تقاليد تخلف صارمة، تنظر إلى المرأة بحسبانه كائنا غير راشد، ناقصة عقل ودين، وبالتالي فهي غير كاملة المواطنة. إذ ان مطالبتها بحقها في الانتخاب والترشيح، أو بحقوقها الانسانية الأخرى كأن تسافر لوحدها، أو قيادة سيارتها الخاصة بنفسها، يُعتبر في تفكير الأصوليين المتطرفين انتهاكا للإسلام!..