أنفلونزا الحوار وفرفرة الدجال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أنفلونزا الحوار من اختراعي، وإذا كان أحد قد سبقني إليها فسأتنازل له عن براءة الاختراع. أما فرفرة الدجال فهي من اختراع الدكتور جعفر شيخ إدريس، الذي قال في محاضرة ألقاها في طلبة جامعة الخرطوم إنه رجع لقواميس العربية ونقب فيها لكي (يَحبِك) عنوان محاضرته التي خصصها للرد على الظاهرة السودانية الكبرى الدكتور حسن الترابي، الذي خرج للعلن مصرحا بآراء تمس بعض مسلمات العقيدة والفقه، اهتزت لها جبال النصوص وأركان النصوصيين.
وما يعنينا هنا، متجاوزين معركة الجهبذين السودانيين، هو لغة الحوار التي دبت في أوصال عالمنا العربي والإسلامي في الآونة الأخيرة، والتي تنذر بعواصف كلامية لا تبقي للحكمة ولا للمنطق أرضا قابلة للنمو والاتساع. فالدكتور الترابي نفسه حين أطلق صواعقه الدينية لم يوفر أحدا في طريقه ولا حاول أن يزن أقواله بالحجة والمنطق، بل اتبع هوى الجماهير فأطلق للسانه ونكته وتهكماته العنان مما أفسد على مريديه حفلتهم الصاخبة، بينما لحس النهار كلامه بالليل فلم يترك هذا الكلام أثرا للنقاش بقدر ما ترك أثرا للجدال والخصام.
هذا سيجرنا إلى جوهر موضوعنا، وهو أن الإنسان العربي أصبح مصابا بأنفلونزا الحوار، ذلك الداء الذي يقطع لديه حبل التفكير المنطقي ويجعله يدلي بالكثير من ردود الأفعال المتسرعة التي لا توصل إلى كلمة سواء. فما نشهده من احتدام السخرية والتهكم بين المتحاورين على أساس الاختلاف في فهم أصول الدين والعقيدة، نشهده بنفس الوتيرة بين المتحاورين في شؤون حياتنا، سواء أكانت هذه الشؤون سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ذاتيه بحتة تختص بشخص بعينه وبتصرفاته. فالبعض الغالب، قبل أن يحضر إلى المنبر أو الأستوديو أو ساحات الإنترنت، يسن سكاكينه ويشحذ مطارقه وكأنه داخل إلى معركة حربية غبية وليس ساحة حوار.
لم نفهم بعد أن الحوار له إطار ثقافي يجب أن تؤخذ معاييره في الاعتبار وإلا لم يصبح حوارا، بل مجرد مشاجرات وأكاذيب وشتائم تهدف أول ما تهدف إلى إلغاء الطرف الآخر، الذي يحاول بدوره أن يلغيك كطرف آخر. وهكذا يتحول الحوار المرتجى إلى دوامة تُدوخ أصحابها ثم تقذف بهم في نهاية مطافها إلى المزيد من العصبية لآرائهم والتخلف في حياتهم.
وهذه هي بالضبط مصيبتنا العظمى كعرب ومسلمين، فنحن بالرغم من ثراء قاموسنا اللغوي وتنوع دلالاته، لم نعرف إلى الآن كيف نجعل هذا القاموس في صالحنا بدل أن يكون اتساعه وبالا علينا وعلى حياتنا. وإذا عدنا إلى مطلع هذا الموضوع فإن عنوان محاضرة الدكتور إدريس كان يمكن أن يكون المجادلة بالحسنى بدلا من أن يتعب الدكتور نفسه ويربك جمهوره بتفسير معنى فرفرة وحكاية ارتباطها بالدجال. لكن يبدو أننا استمرأنا تعبئة الجماهير بالألفاظ الغريبة أحيانا والجارحة أحيانا أخرى لكي نظفر بعواطفها بدلا من أن نكسب عقولها.
الأمر، بطبيعة الحال، ينسحب على العامة من الناس كما ينسحب على مشائختها وقادتها ومنظريها، فالمشرب النفسي والفكري واحد. ولذلك لم تفاجئني، كما لا أظن أنها فاجأت غيري من قبل، ردود الفعل الغاضبة التي انصبت على رأسي بعد نشر مقابلة لي في جريدة إيلاف الإلكترونية. ومع احتفاظي بالتقدير للقلة ممن كان نقاشهم منطقيا وموزونا، فإن الغالبية ذهبت مذهب الطبع العربي الشهير في الحوار، ذلك الطبع الذي يكون لدى صاحبه نيتة مبيتة أو أجندة خاصة مسبقة يقرؤك على أساسها فإن لم تكن مع هذه الأجندة فأنت ضدها. وبالتالي، إذا كنت ضدها، أطلق عليك من مسدس الشتائم عيارين أو ثلاثة ثم خلد إلى ثوابته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وربما يكون مسدس شتائمه معبأ قبل أن يفرغ من السطر الأول، فقد حدث أن تعرض أشخاص لقذائف من الشتائم وحين سئل شاتموهم عن ماذا قرأوا لهم أو سمعوا منهم قالوا إنهم لم يقرأوا لهم ولم يسمعوا منهم وإنما سمعوا من مشائخم ومعلميهم عن أفكارهم وأدرانهم.
وهذه مصيبة أخرى من مصائب ثقافة الحوار في عالمنا العربي، فالناس في مجملهم يبنون أفكارهم وقراراتهم على ما يسمعونه من آخرين دون أن يخطر ببالهم أن هؤلاء الآخرين معرضون للمبالغة والتهويل وتصوير الأمر على غير ما هو عليه في الحقيقة. وأهم من ذلك أنه أصبح لدينا من يسعون لمآرب خاصة من وراء المبالغة والتهويل وتصوير الآخر المغاير أو المضاد لأجندتهم على أنه نبت شيطاني يجب أن يقتلع ويلقى به بعيدا عن مواطن التفكير والتأثير.
بل إن هناك من صرح علانية على قناة المجد الفضائية بأنه لا يمكن التعايش مع الليبراليين، ومع ذلك وجد مشاهدا يتصل به ويطلب منه النصيحة لأنه ذاهب للمشاركة في جلسة الحوار الوطني القادمة في السعودية. وتصوروا ماذا سيحمل هذا الذاهب للحوار الوطني بناء على نصيحة أخذها من شخص يعلن أن الليبراليين شر مستطير وأنه يستحيل التعايش معهم، فضلا عن تشكيكه بوطنيتهم. ما سيحمله هذا المتحاور أجندة جاهزة ومشحونة لن تمكنه مبدئيا من الاستماع للآخر ليفهم وجهة نظره. فهو يأتي إلى الحوار معبئا ويتركه بالضرورة ساخطا، فكيف إذن ستبنى ثقافة حوار في ظل معيطات على هذه الصورة، لا توفر أرضا صالحة لسماع الرأي الآخر وإجراء نقاش هادئ يوصل الطرفان إلى فهم مشترك للقضايا التي يطرحها أي منهم.
وإذا عدنا إلى ما ألقي علي من حجارة في ذلك الحوار الذي أشرت إليه مع إيلاف فإنني على المستوى الشخصي أستوعب كل من قذفني بحجر، سواء من المملكة حين تحدثت عن تهميش وتصغير شأن المرأة السعودية أو من مصر حين تناولت الصحافة المصرية والفلم المصري ووصفتهما بالتراجع. ما يحزنني أكثر من القذف الشخصي هو أن أمتي تخلفت إلى درجة أن أصبح قاموسها المستخدم في الحوار هو قاموس الشتائم والسب والإلغاء، بينما تنام الحجة ويغط المنطق في سبات عميق. ويل لأمة لا تربي أبناءها على أصول الحوار.