كتَّاب إيلاف

العراق في القرن الثامن عشر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

دراسات في تاريخ بلاد الرافدين (الحلقة 5)

لقراءة الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة / الرابعة /

في منتصف شهر آب (أغسطس) سنة 1703م تمرد في اسطنبول عساكر الانكشارية مرة أخرى، وعزلوا السلطان مصطفى الثاني وأجلسوا مكانه أخاه أحمد بن السلطان محمد الرابع، ولتهدئة خواطرهم وزّع عليهم السلطان الجديد أحمد الثالث أموالاً طائلة، وسلم لهم بقتل المفتي الكبير فيض الله أفندي لأنه كان يعترض على أعمالهم وتصرفاتهم المخلّة بالأمن. قبض الانكشارية على المفتي وقطعوا رأسه بالرغم من مكانته الدينية السامية فهو رأس المؤسسة القضائية في الدولة. غير أن مطالب عساكر الانكشارية لم تقف عند ذلك الحد، بل فرضوا على السلطان تعيين أحد قادتهم لمنصب الصدارة.
بعد حين تمكن السلطان من الحد من تصرفات الانكشارية والسيطرة عليهم بعد أن قتل عدداً من أمرائهم، ولتعزيز سلطته عين السلطان زوج أخته داماد حسن باشا في منصب الصدارة. ولكن الأوضاع لم تسر كما شاء، إذ استمر عساكر الانكشارية في تحركاتهم المخلّة بالأمن.
بعد صراعات وشغب، تمكنوا في أواخر أيلول سنة 1704م من عزل الصدر الأعظم بالرغم من كونه نسيب السلطان. وهكذا فرض عساكر الانكشارية هيمنتهم مرة أخرى على مقدرات الدولة وأخذوا يتلاعبون بالمناصب العليا كما شاءوا. وبهذا الصدد قال محمد فريد:
... ومن بعده كثر تغير الصدور تبعاً للأهواء ... (1)

والي بغداد الجديد حسن باشا
في تلك الأيام وفي خضم الصراعات الفوضوية التي هيجها الانكشارية في اسطنبول، صدر في منتصف حزيران (يونيو) من سنة 1704م الفرمان بتعيين الوزير حسن باشا بن مصطفى بك، والياً على بغداد ليحل محل الوزير المعزول علي باشا.
ولد حسن بن مصطفى بك، في حدود سنة 1657م في "الروم إيلي" أي الجانب الأوربي من الدولة العثمانية في عهد السلطان محمد الرابع بن السلطان إبراهيم الأول. وكان والده أحد عساكر السباه "فرسان الإقطاع العسكري" في جيش السلطان مراد الرابع، ولكونه ابن عسكري مملوك من أصول أوروبية، التحق حسن بن مصطفى بك بإحدى مدارس البلاط العثماني "السراي" المخصصة لمماليك السلطان وأكمل هناك تعليمه وتدريبه، وبعد تخرجه التحق في سنة 1683م بسراي السلطان وتدرج هناك في عدد من الوظائف.
ينتمي حسن باشا إلى الجيل الذي نشأ في أعوام النصف الثاني من القرن السابع عشر، وعاش أهوال تلك الحقبة ونكباتها التي ألمّت بالدولة العثمانية. ومن المعروف أن الصدر الأعظم كوبريلي حسين، لاحظ ذكاء وهمة الشاب حسن بن مصطفى بك وقدراته الفائقة في الإدارة، فتعهده بالرعاية وساعده في التدرج والارتقاء بسرعة حتى نال منصب الوزارة في سنة 1697م وهو في سن الأربعين.
بعد أن نال حسن باشا منصب الوزارة، تولى إدارة ولاية قونية وحلب وأورفة على التوالي. وفي سنة 1702م تولى إدارة ديار بكر.(2) وبعد ذلك بسنتين نُقل حسن باشا إلى بغداد.
لاشك أن حسن باشا كان في تلك الفترة قريباً من أحداث العراق بحكم المناصب التي شغلها في إدارة قونية وحلب وأورفة وديار بكر. فالمصادر تذكر مساهمته في الحملات العسكرية العثمانية ضد عرب العراق. كتب العزاوي نقلاً عن كتاب كلشن خلفا حول مساهمة حسن باشا في الحملة العسكرية التي جهزتها حكومة اسطنبول في أواخر سنة 1702م ضد سلطة الخزاعل فقال:
وفي أواسط رجب ورد الفرمان إلى الوزير بتولي إمارة الجيش فنصب خيامه في الجانب الغربي (جانب الكرخ) وصار ينتظر ورود العساكر المأمورة ... وبوشر بقيد ما يلزم من الجنود، وإن الضباط الجدد وردوا بغداد في 5 شعبان ونزلوا حول فيلق الوزير. وجاء بغداد للغرض نفسه كل من محافظ ديار بكر الوزير حسن باشا، ووالي ... الخ . (3)
ومن المعروف أن تلك الحرب لم تحدث وأن مفاوضات جرت بين حكومة الوالي العثماني ورئيس سلطة الخزاعل الشيخ سلمان بن عباس الخزعلي بتوسط قاضي بغداد وتم الاتفاق على حل سلمي. وبعد الصلح عاد الأمراء بجيوشهم إلى ولاياتهم بما فيهم حسن باشا الذي عاد إلى ديار بكر.
ومهما كان الأمر فإن إجراءات الدولة للحد من تدهور أوضاع العراق لم تجد حكومة بغداد نفعا،ً إذ كانت الأيام تمر وسلطة الخزاعل في الفرات الأوسط تتعاظم ويمتد نفوذهم إلى القبائل المجاورة، خاصة بعد أن تمكن رئيس الخزاعل الشيخ سلمان من إقامة تحالفات عشائرية مع قبيلة شمر وقبيلة غزيّة مما زاده قوة ومنعة، فأخذ يهدد بغداد مرة أخرى.
بعد مرور سنتين على تلك التطورات وفي منتصف حزيران (يونيو) من سنة 1704م وجهت حكومة السلطان ولاية بغداد إلى الوزير حسن باشا، نظراً لقدراته الفائقة واطلاعه الواسع على مشاكل العراق بحكم اشتراكه الفعلي في قيادة الحملات العسكرية العثمانية ضد عرب العراق.

حسن باشا والسياسة المزدوجة
بعد أن استقر حسن باشا ببغداد تعامل مع المشاكل العراقية بدهاء وحزم لم تألفه الأوساط العثمانية آنذاك، واتبع سياسة خاصة ربما لم تدر بخلد الأوساط الحاكمة سواءً ببغداد أو اسطنبول. فبدلاً من أن يعيد العراق إلى أحضان حكومة اسطنبول وينتظر أمر نقله إلى ولاية أخرى، نراه يتبع سياسة التشبث بحكم العراق بصورة دائمة، في عصر كانت السلطات في اسطنبول تعمد إلى تغيير الولاة أحياناً أكثر من مرة في السنة الواحدة.
لتحقيق ذلك الهدف أقدم حسن باشا ومنذ الوهلة الأولى، على بناء حكومة محلية جديدة ببغداد، يدين رجالها له شخصياً بالولاء وليس لحكومة اسطنبول.
هكذا شق حسن باشا طريقه الشائك المليء بالمخاطر بحذر وحنكة، مستفيداً من تجاربه الواسعة في الإدارة والحكم ومعرفته العميقة بمجريات الأمور في اسطنبول وبأصحاب النفوذ في ديوان السلطان الذي عمل فيه وتدرج في سلم وظائفه حتى نال رتبة الوزارة.
من الجدير بالملاحظة أن حسن باشا الذي انصرف إلى تطبيق سياسته التي كانت ترمي إلى الاستقلال بحكومة العراق وعزلها عملياً عن حكومة اسطنبول، لم يقطع صلته بأصحاب النفوذ في ديوان السلطان، وتمكن طيلة السنين التي حكم فيها ببغداد، من كسب رضاهم وذلك بإغداق الأموال الطائلة والهدايا الثمينة التي كان يبعث بها إليهم من بغداد.

ولادة جيش المماليك الكرج
كان من أخطر أعمال السلطان العثماني أورخان بن عثمان الذي تولى الحكم في سنة 1326م، هو تأسيس جيش خاص به قوامه الصبيان المماليك المخطوفون من القرى المسيحية البيزنطية التي دخلت تحت سلطته، وهكذا ولد جيش أورخان الانكشاري الذي صنع تاريخ الإمبراطورية العثمانية.
في مطلع القرن الثامن عشر، أي بعد انصرام أربعة قرون تقريباً من ولادة جيش أورخان الانكشاري، تبنى والي بغداد الجديد حسن باشا مشروعاً مماثلاً، وأقدم على تأسيس جيش خاص به قوامه صبيان مماليك كان يشتريهم من منطقة القفقاس الفقيرة وينقلهم إلى بغداد.
لتنفيذ ذلك المشروع الخطير أسس حسن باشا دائرة خاصة في الديوان اسمها "ايج دائرة سي" أي دائرة الداخل، كانت مهمتها شراء المماليك وتدريبهم للانخراط في ذلك الجيش الجديد. (4) ومن الجدير بالملاحظة أن رجال حسن باشا ذهبوا إلى بلاد القفقاس لشراء أولئك المماليك من سوق الرقيق الأبيض في "تفليس" عاصمة جورجيا التي كان فيها أكبر أسواق النخاسة في أقاليم القفقاس، تلك البلاد الجبلية الفقيرة التي تمتد بين بحر قزوين والبحر الأسود.
بفضل ذلك الجيش، تمكن حسن باشا من قلب الموازين العسكرية في العراق لصالحه وتحجيم دور العسكر الانكشاري المرابط ببغداد منذ عهد السلطان مراد الرابع، وهذا ساعده ليس في البقاء حاكماً مستبداً بالعراق قرابة عشرين عاماً فحسب، بل خلق الظروف اللازمة لتوريث الحكم بعد وفاته لولده أحمد باشا، الذي تربع هو الآخر على كرسي الحكم في العراق حتى وفاته في سنة 1749م.
وبهذا الصدد لابد لنا أن نلقي بعض الضوء على الأسباب التي حَدتْ بحسن باشا اختيار بلاد القفقاس لتكون المصدر الوحيد لشراء مماليكه الذين عرفوا ببغداد بـ"الكولة مند" الذين كوّن منهم جيشاً قوياً قلب به ـ كما قلنا ـ الموازين العسكرية في العراق لصالحه.
فالمؤسسة العسكرية الانكشارية التي تسلطت على مقادير الأمور في الإمبراطورية العثمانية كان جل أفرادها من أصول أوربية جلبوا من أقاليم تابعة للإمبراطورية العثمانية، مثل صربيا والبوسنة وألبانيا واليونان وبلغاريا وغيرها مما كان يعرف بـ(الروم إيلي)، والمجتمع العثماني الحاكم الذي أقامه السلطان مراد الرابع ببغداد بشقيه العسكري والمدني، كان في تلك الحقبة التاريخية ينتمي إلى تلك الجماعات المرتبطة إدارياً ومالياً بحكومة اسطنبول.
ولذا فإن الحكمة السياسية فرضت على حسن باشا، الذي كان يخطط للاستبداد بحكومة بغداد والتحرر من هيمنة اسطنبول، أن يبتعد عن الأقاليم التي جاءت منها تلك الجماعات الإثنية، ويؤسس ببغداد مجتمعاً حاكماً جديداً، يتمتع بعصبية اثنيه تختلف كلياً عن عصبية المجتمع الانكشاري "البغدادي". وعلى هذا الأساس قرر حسن باشا استيراد مماليكه من أسواق الرقيق في أقاليم القفقاس وخاصة من جورجيا المسيحية ليكوّن منهم جيشاً قوياً موالياً له ومجتمعاً مناهضاً بل معادياً للمجتمع الانكشاري ببغداد.

منطقة القفقاس
تمتد منطقة القفقاس بين بحر قزوين و البحر الأسود وتشمل أقاليم جبلية تتخللها وديان تتفاوت في أحجامها تفصل بينها سلاسل جبلية شاهقة لا تسمح في أغلب الأحيان لسكانها من التواصل، وبسبب ذلك العزل الجغرافي قامت في تلك الوديان والجبال مجموعات بشرية متنافرة تعددت إثنياتها ولغاتها ولهجاتها ضمن المجموعة الواحدة، هذا إضافة إلى تفاوت حجم كل جماعة منها حسب مساحات تلك الوديان وما توفره من ماء و غذاء للسكان.
في سنة 1996م نشرت مجلة National Geographic الشهرية في عددها الثاني دراسة عن إقليم القفقاس جاء فيها إن الجماعات الإثنية التي تتوزع في مختلف وديان وسلاسل جبال القفقاس تتخاطب بأكثر من خمسين لغة ولهجة تنتظم في ثماني مجموعات لغوية رئيسية تتوزع كما يلي:
ـ مناطق شمال غرب القفقاس تنتشر فيها لغات عديدة منها لغة الأفخاز والأباضة والشركس.
ـ مناطق شمال شرق القفقاس تتوزع في وديانها المعزولة لغات عديدة تنتمي إلى عائلة اللغات الداغستانية التي تشمل أكثر من خمس وثلاثين لغة ولهجة منها الأفار (Avar) وداركوا (Dargwa) ولزكي (Lezgi) ولغات ناخ فإنياخ التي تتفرع منها لغة الشيشان والأنكوش.
ـ مناطق جنوب القفقاس وأهم لغاتها لغة الكرج (Georgian) واللاز واللغة الأرمنية والتركية الأذرية في أذربيجان.
عاشت تلك الجماعات البشرية حياة قاسية تعرضت أثناءها لصراعات دموية وحروب داخلية وخارجية لانهاية لها، فقد قدر لذلك الإقليم الجبلي أن يقع بين إمبراطوريات متنافسة لم تتوقف صراعاتها العسكرية للسيطرة عليه، إذ تحده من الشمال الإمبراطورية الروسية ومن الغرب الإمبراطورية العثمانية ومن الجنوب الإمبراطورية الإيرانية، وفي خضم صراعات تلك القوى الأجنبية عاش سكان تلك المناطق الجبلية، حياة فقر مدقع عمت فيها المجاعات وخيم عليها الجهل والتعصب والصراعات المحلية من أجل البقاء.
بالنظر لتلك الحياة القاسية، كان الفقراء من سكان تلك المناطق يضطرون لبيع أطفالهم لكسب ما يسد الرمق وإنقاذ أولئك الأطفال من موت محقق، وهكذا انتشرت في تلك المناطق أسواق النخاسة التي كثر فيها بيع الأطفال من الجنسين. إذ كان تجار الرقيق يشترون أولئك الأطفال وينقلونهم إلى مختلف البلدان التي تروج في أسواقها تجارة الرقيق الأبيض. ويبدو أن أسواق بغداد للرقيق الأبيض القادم من أقاليم القفقاس انتعشت في عصر حسن باشا، الذي دعم تلك التجارة وشجعها تنفيذاً لمشاريعه السياسية والعسكرية.
من أولئك المماليك الصبيان كوّن حسن باشا جيشه الذي عرف بجيش المماليك الكرج أو "الكولمند" التي تعني بالتركية الرقيق أو العبيد. وبسواعد رجال ذلك الجيش العتيد تمكن حسن باشا أن يحّجم دور العسكر الانكشاري ببغداد، ويُحكم سيطرته على البلاد حتى وفاته في سنة 1723م.
في تلك الأثناء باشر حسن باشا بإقامة مجتمع حاكم جديد ببغداد قوامه أولئك المماليك الكرج. ولكي يحافظ على عصبية ذلك المجتمع الناشئ ويمنع اختلاطه بالمجتمع الانكشاري الذي أقامه السلطان مراد الرابع، أو بسكان البلاد عن طريق الزواج، شجع حسن باشا تجار الرقيق الأبيض على شراء الجواري "الكرجيات" من نفس الأسواق وجلبهن إلى بغداد. ومنذ تلك الأيام راجت ببغداد سوق الجواري الكرجيات ذوات البشرة البيضاء والشعر الأشقر القادمات من جورجيا وما جاورها من أقاليم القفقاس الجبلية. وبازدياد أعداد أولئك المماليك الكرج ونمو مجتمعهم الخاص، ازداد نفوذهم وقوي أمرهم حتى أصبحوا قوة قاهرة تحكم سيطرتها على العراق بدلاً من انكشارية السلطان العثماني.

هوامش

(1) محمد فريد بك - تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص312
(2) عبد الرحمن السويدي - حديقة الزوراء في سيرة الوزراء، ص16
(3) عباس العزّاوي - تاريخ العراق بين احتلالين، ج5ص157
(4) علي الوردي ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ص150


kutub_alrufaiy@yahoo.com
http://www.geocities.com/kutub_alrufaiy/kutub-alrufaiy-main.html

يتبع

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف