مهما كانت التسوية سيّئة: تظل أفضل من المواجهة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لا يمكن لزيارة مثل تلك التي قام بها قبل أيام لأيران أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أن تمرّ مرور الكرام، خصوصاً في ضوء الظروف الدقيقة التي تمر فيها المنطقة. انها ظروف أستثنائية بكلّ معنى الكلمة، ظروف تدعو الى الحذر واليقظة في آن. وألأكيد أن معالجة هذه الظروف لا تكون بترك الأمور تتطور من دون تدخلّ من دول المنطقة التي تُعتبر الطرف المعني مباشرة بالتصعيد الذي تشهده العلاقات بين أيران من جهة والمجتمع الدولي على رأسه الولايات المتحدة والأتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
هناك بكلّ بساطة ملف متفجّر أسمه الملف النووي الأيراني، وهو ملفّ يحتاج الى معالجة تتسم بحدّ أدنى من الحكمة تفادياً للمواجهة. ولعلّ أخطر ما في الملف أن دول المنطقة كلها معنية به لكنها لم تستطع حتى الآن القيام بالمطلوب منها لأيجاد مخرج يحول دون كارثة حقيقية على الصعيد الأقليمي. ومن هذا المنطلق كان لا بد من تحرك فعلي وعملي في أتجاه أيجاد مخرج لأن التوصل الى تسوية تبعد شبح المواجهة عن المنطقة يظل الطريق الأسلم والأفضل للجميع. والمعني بالجميع أيران والمجتمع الدولي ودول المنطقة.
ما يوفّر جدّية كبيرة للتحرك القطري، أنه سبقت زيارة الأمير الشيخ حمد لأيران ومحادثاته مع كبار المسؤولين فيها، بمن فيهم "المرشد" آية الله علي خامنئي ورئيس الجمهورية محمود أحمدي نجاد، اتصالات على مختلف المستويات بين الدوحة والمعنيين بالملف النووي الأيراني. وكان ملفتاً أن غير مسؤول أميركي وروسي وأوروبي وأيراني زار قطر أخيراً للبحث في ما يمكن عمله تفادياً للتصعيد، أو أقلّه للحدّ منه. وكان ملفتاً ما قاله الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني النائب الأوّل لرئيس الوزراء وزير الخارجية القطري خلال الدورة السادسة لمؤتمر التجارة الحرة والديمقراطية التي أنعقدت في الدوحة أخيراً عن ضرورة معالجة الموضوع في أطار جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية. وبكلام أوضح، قال النائب الأوّل، الذي زار طهران قبل بضعة أسابيع، أنه لا يمكن التركيز على أيران وحدها في موضوع السلاح النووي، بحجة أنها تسعى الى أمتلاك هذا السلاح، في الوقت الذي لدى أسرائيل عشرات الرؤوس النووية. ثمة حاجة الى التخلي عن الأزدواجية في العايير لدى معالجة مثل هذا الموضوع الخطير.
وضعت قطر، التي هي عضو في مجلس الأمن في هذه الأيام، من خلال الأتصالات التي أجرتها ما يمكن أن يعتبر أسساً لنجاح نسبي لتحركها الهادف الى تجنيب المنطقة كارثة حقيقية في ظل وجود تفكير حقيقي لدى الأميركيين والأوروبيين في الذهاب بعيداً في التصدّي للطموحات النووية لأيران. ففي جلسات خاصة، يتحدّث مسؤولون كبار ينتمون الى دول أوروبية نافذة عن أستحالة القبول بقنبلة نووية أيرانية. ويعترف هؤلاء في الوقت نفسه بأن مهاجمة أيران عسكرياً قرار صعب وخطير في آن يمكن أن تكون له أنعكاسات في غاية السوء على الصعيدين الأقليمي والعالمي، لكن هؤلاء يقولون أيضاً أن لابدّ من اتخاذ مثل هذا القرار في نهاية المطاف. لماذا؟ لأن السلاح النووي لدى أيران، يجعل من "الجمهورية الأسلامية" القوة الأقليمية الوحيدة في المنطقة الغنية بالنفط والغاز ويوفّر لها السيطرة عليها والتحكم بمواردها التي يحتاج اليها العالم الصناعي كلّه. هل مسموح في القرن الواحد والعشرين بأن يكون العالم الصناعي تحت رحمة دولة مثل أيران فيها نظام يعتبر رئيسه أن أسرائيل "يجب أن تزول عن خريطة العالم" أو يجب نقلها الى مكان آخر على الكرة الأرضية؟ أنها أيضاً دولة حاضرة بقوة في العراق وفي سوريا ولبنان وفلسطين حتى لا نقول في البحرين أيضاً، بل أنها لاعب أساسي في كل هذه "الساحات".
في المقابل، هناك منطق أيراني متكامل ينطلق من أن "الجمهورية الأسلامية" تطور برنامجاً نووياً سلمياً يستجيب لحاجاتها المستقبلية. فضلاً عن ذلك، أن أيران ترى أنّها تمتلك الحقّ في تطوير هذا البرنامج مثلها مثل أي دولة أخرى في العالم... ما دامت أهدافها سلمية وما دامت من بين الدول الموقعة على معاهدة منع الأنتشار النووي. لماذا أذاً حرمان أيران من حقوقها، خصوصاً أنها باشرت برنامجها النووي في العام 1964 أي في أيام الشاه... ولم يعترض أحدٌ عليه وقتذاك؟
هناك في الواقع حوار طرشان بين الغرب والنظام الأيراني. ومردّ ذلك، الى ألغياب الكامل للثقة بين الجانبين، خصوصاً مع جنوح طهران الى التصعيد بعد نجاحها في جعل الأدارة الأميركية تغرق أكثر فأكثر في العراق الذي تحوّل جزء منه منطقة نفوذ أيرانية لا أكثر ولا أقلّ. أن النظام الأيراني يمتلك القدرة على التصعيد مع الأوروبيين والأميركيين لأنه قوّي في العراق أوّلاً ولأنه يعتبر الجنود الأميركيين والبريطانيين في ذلك البلد رهائن لديه، ذلك أنه قادر على أن يفعل بهم ما يشاء ساعة يشاء. من يقنع النظام الأيراني بأن هذا المنطق ليس سليما بنسبة مئة في المئة، وأن ألأميركيين والبريطانيين ليسوا بالضعف الذي يتصوّره الأيرانيون؟ تلك هي المعادلة المعقّدة التي أمتلكت قطر ما يكفي من الشجاعة للتصدي لها ونزع فتيل التفجير منها.
هل تنجح قطر في مهمة الحدّ من التصعيد أوّلاً تمهيداً لمرحلة لا حقة تسمح بالبحث عن مخرج؟ قبل كلّ شيء، يمكن القول أن هذه الدولة العربية الخليجية قامت خلافاً لغيرها بواجباتها، ليس بصفة كونها عضواً في مجلس الأمن وليس بسبب موقعها الجغرافي والعلاقات القوية المبنية على الصراحة التي أقامتها مع أيران فحسب، بل لأن السعي الى ترسيخ الأستقرار في الخليج واجب يفرضه الأيمان العميق بأن على كبار المسؤولين على رأسهم أمير الدولة الأهتمام بمصالح الشعب ورفاهه ومستقبله أيضاً. هناك قناعة بأن الموضوع الخطير الذي أسمه الملف النووي الأيراني يمكن أن يتسبب في كارثة على كلّ من له علاقة به وأن أي تسوية يمكن التوصل اليها، مهما كانت تسوية سيئة، تظل أفضل من أي مواجهة.
من حسنات السياسة القطرية، أن الدوحة لم تقطع يوماً مع طهران. على العكس من ذلك، بقي باب التواصل والحوار والتنسيق بين الجانبين مفتوحاً على مصراعيه بأستمرار. وهذا يسمح لأمير قطر بأن يكون في موقع أفضل القادرين على تفهّم المواقف الأيرانية والهواجس التي لدى المسؤولين في طهران. أكثر من ذلك، أن المسؤولين الأيرانيين لن يعتبروا أي نصيحة يقدمها لهم الشيخ حمد بن خليفة نصيحة من شخص يريد لهم السوء. أنها نصيحة من صديق حقيقي يبحث عن الأستقرار وحماية المصالح المشتركة في الخليج ومحيطه ويعتبر أن بلاده ودول الجوار، على رأسها دول مجلس التعاون، أكثر المتضررين من غياب الأستقرار في تلك المنطقة الحساسة من العالم. أنه يعتبر بكلّ بساطة أن أهل المنطقة جميعاً في مركب واحد.
ليس مطلوباً من أيران التراجع. المطلوب بعض العقلانية وتقديم الضمانات الكافية التي تُفشل مشروع النيل من الأستقرار في المنطقة. هل تفعل ذلك؟ الأمل كبير في تغلّب لغة العقل والتعقّل على كلّ ما عداها. كلّ ما في أستطاعة الدوحة قوله أنها حاولت مع الأميركيين ومع الأوروبيين ومع الأيرانيين ومع الروس والصينيين ومع كلّ من هو معني بألأزمة التي نجمت عن البرنامج النووي الأيراني... من المهم تفادي كارثة جديدة في المنطقة ستجعل كارثة العراق بمثابة نزهة مقارنة بها. ألا يستحق ذلك كلّ الجهود والتضحيات القطرية في وقت بدأ المسؤولون الأميركيون يرددون كلاماً للسناتور الجمهوري جون ماكين عن أن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أضطرار الولايات المتحدة الى توجيه ضربة الى أيران، لكنّ هناك شيئاً واحداً أسوأ من ذلك. أنه وجود قنبلة نووية أيرانية! من الواضح أن ألأصرار الأميركي-البريطاني- الفرنسي على صدور قرار عن مجلس الأمن يهدد أيران باللجوء الى القوّة، لكنّه لا يتحدّث بعد عن عقوبات، يندرج في سياق هذا الكلام المتداول أميركياً. أنه تحرك أميركي-بريطاني-فرنسي يأخذ في الأعتبار أن الرهانات الأيرانية على روسيا والصين قد لا تكون في محلّها بالضرورة.