كتَّاب إيلاف

وكانت الريبة يقينه الوحيد!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

لم يضربْ الوتدُ الوتر.
عازفُ الكمان؛
غدر تَه
الأنامل.
ـ
تلبسته الحير وداهمته الريب وهو بعد غض، كل الطرق تؤدي إلي ما لا يحب، كل الطرق تؤدي إلي يقين ما، وكان متيقنا أن ليس ثمة يقين. اتخذ من اللا طريق طريقا؛ من العلم نهجا ينهجه كي لا يتيقن، فليس ثمة جسورا مثله ينقض في صبحه ما نسج البارحة.
وكانت الريبة يقينه الوحيد، ومن اقترن بها بديلا عن كل نساء وكل أنيس.
انفرد في محبسه هذا عن أي مجموع، وامتطى حصانه الجموح؛ العلم الذي تعلمه في كلية العلوم بالقاهرة وعاد إلي بنغازي كي يعلمه، كان حسين مخلوف معلما للكثيرين في مدرسة بنغازي الثانوية، وكاتبا للنقد ومترجما ومعدا للبرامج الإذاعية هو في كل هذه وليس في أي منها، اتهم بالبعث تحزبا منذ كان طالبا - وقد سجن لأجل ذلك منتصف الثمانينات من القرن الماضي - وما كان منه، وان كان طالب علم فهو طالب للتشكك فيه.
الزمان خروج الخمسينات وطلوع الستينات، المكان عالم ثالثي والزعيم ينفخ بوق القيامة والشاعر تموزي؛ ساعتها كان حسين مخلوف يسطر نقوده للشعر البياتي ويقدم قراءته لرواية 1984مشيدا بالرواية اليابانية، هذا علي عجل فقد شغلته تجريدات الأرقام والرياضيات من جبر وتكامل ومن كيمياء فبدد روحه هناك حيث العلم دين الشكاكين من تلبستهم الحير وداهمتهم الريب.
الزمان السبعينات وهو يعمل مترجما بعد أن ترك التدريس؛ يعمل رئيسا للقسم الإنجليزي من الإذاعة الليبية ببنغازي، التبس عليه كل شيء فلم تعد النسبية؛ نسبية كل شيء، كافية كي يتيقن أن شكوكه في محلها، كان عليه أن يتبراء حتى من يقينه هذا؛ فإذا كان التحزب خيانة فإن عدم التيقن كما عدم الالتزام كفر معاذ الله.
هكذا كانت منزلة حسين مخلوف بين البعث واللا يقين منزلة بين منزلتين؛ فإن كانت منزلة الأولي السجن المؤبد فمنزلة الثانية جهنم، وبئس المصير في الحالين.
وإذا كانت الأم شجاعة في قصة الملك / النبي سليمان قد تخلت عن جر ذراع الطفل - رأفة بطفلها - من الدائرة، بعد أن حكم النبي / الملك أن الطفل للمرأة التي تجر الطفل من ذراعه نحوها، إذا ذاك كان قد حدث كذلك علي الأقل في مسرحية بريخت فإن حسين مخلوف جر من ذراعيه، فكل أم رؤم، وكل مطلق علي حق سوى كان يمسك بزمام الأمر أم يتوثب لذلك.
ولأن لا يقينية حسين مخلوف مطلقة ولبوسها الريبة فقد اتخذ من التفرد متراسا، فلم يعد من زمرة أحد و لا زمرَ مزامير خاصة، لهذا ولتصوفه في محراب دينه العلم بث الشكوك حوله؛ فحيث ثمة شاك زلزلة الأرض وبعثرت النفوس.
انزوي عن نفسه منزويا عن الآخرين، كتب النزر القليل واتخذ الهواء مركبا، فما كتبه من مراجعات ومقالات نقدية بث عبر الأثير في إذاعة بنغازي وهكذا اكتسب النسيان عند اكتساب المعرفة، ضاعت تلك الكتابات كما ضاع صاحبها وهو يفكر: ما جدوى أن تكتب ما جدوى الكتابة.

أسوء ما في كتابة حسين مخلوف ومثله قليل، حريته التي دون حدود، وهو يجزم بالا يقين في ذلك، ولهذا أقصى نفسه وقد أقصته عروبة متيقنة من كل ما تفعل، حد أن إقصاء حسين مخلوف متأبطا نفسه لفعل كان نهجها.
أول معرفة مباشرة بيننا حين شاركت مطلع السبعينات في برنامج تلفزيوني كان يعده علي شكل مسابقات بين الحاضرين في الأستوديو، حينها كنت طالبا غرا ومازلت، طالبا في مدرسة عمر المختار الإعدادية، فزت في تلكم الحلقات الثلاث المتتالية، وكان يقدم البرنامج المذيع علي احمد سالم الذي مثل شخصية بلال في فلم الرسالة الشهير، سلمني المذيع جهاز تسجيل جديد وكان من نوعية مستحدثة. لكن المعد حسين مخلوف لم يكتفي بذلك فسلمني هدية منه مجموعة كتب ومنها كما أذكر كتب مسرحية مترجمة: فكان أستاذ العلوم يروج الدراما.
فيما بعد شاهدت المعلم فيه يحتفي بكل تلميذ متمرد، رغم تشككه وانزواؤه ظل هاجسه أن يكون ظلَ كل يانع، ورغم انه كان متيقنا من شكوكه في لبوس المرحلة فقد ظل أيضا متيقنا أن أجمل ما في الحياة أن أوهامنا معنا.
اتخذ من بيته في حي البركة خلوة الغلبان ليقينه أن الغلبة في الاختلاء، ولشكه في الاجتماع، فالمفرد عنده صيغة الجمع؛ النحل كما يقتات القليل ينتج الأقل.
لقد داهمت صيغة جمع الجموع كل فرد متفرد، لهذا كانت حبيس المحبسين ظاهرة في أمة كل ما يجمعها التشتت والانكفاء. لكن ما زاد الطين طينا أن البلل طال العقل الذي كان يبحث عن مأوي حيث لا مأوي؛ فأستاذ العلوم الذي جعل الكتابة مأواً للعقل الناقد كسحته الشعبوية التعبوية، لقد جعل الميكرفون السبورة التي يخط عليه دروسه لتلاميذ افتراضيين، تلاميذ ضيعتهم محافل الميكرفونات.
هل كان نادرا في حالته أم أنه ابن مرحلته هو من يعد من جيل ما بعد الحرب؛ الجيل الذي في بلاد الحرب دعا للنظر إلي الخلف بغضب، وفي البلاد التي كانت مسرح الحرب دعا للتخلص من أولئك أصحاب الحرب؛ المستعمرين. لكن من سؤ الطالع أن تكون ولدت في مدينة داهمتها الجيوش أكثر من مرة، مرة يحررها الإنجليز من الطليان ومرة الألمان من الإنجليز، مرة يكتسحها من يدع ثعلب الصحراء رومل:
- 2- 1941م.
عزيزتي لو
تسلمت وظيفتي في الليلة السابقة وهي حل معقول لمرضي الروماتيزم. وفي الوقت القليل المتيسر يتحتم على أن أجمع كل ما أحتاجه.
آخر الأنباء الواردة من افريقيا سيئة للغاية ؛ فقد استولي ويفل على بنغازي، ودمر آخر فرقة مدرعة للإيطاليين جنوبي المدينة.
لذلك طلبت أن يهاجم ميناء بنغازي في نفس الليلة، وإرسال قاذفات في الصباح التالي لمهاجمة الطوابير البريطانية جنوبي غربي المدينة.
ومرة تقع تحت توقيع مونتجمري!.
لما كانت بعض المناطق الليبية في الأيام الأخيرة تحت الحكم الإيطالي، قد أعيد أو سيعاد احتلالها على أيدي قوات صاحب الجلالة البريطانية، وقوات أخرى تحت قيادتي، وبما أنه يترتب علي بوصفي القائد العام أن أؤمن حفظ النظام في المناطق السالف ذكرها. بناء عليه، أنا الجنرال مونتجمري أعلن ما يلي : بدء الاحتلال : يعتبر بدء الاحتلال من تاريخ توقيع هذا الإعلان.
من هذا تلبسته الحير وداهمته الريب وهو بعد غض، كل الطرق تؤدي إلي ما لا يحب، كل الطرق تؤدي إلي يقين ما، وكان متيقنا أن ليس ثمة يقين. اتخذ من اللا طريق طريقا. فبعثرته الظنون وكل ظن اثم، عد لهذا صاحب الاثم وهو بعد غض فذهب في منزلته تلك وقد طالته السنون السبعون من العمر، كما طاله السجن كبعثي ولم يكن كذلك. طال ما كتب النسيان وان لم يطاله، طاله الشك في شكه وان لم يطال يقينه في العلم كأفضل مظلة للريبة وللتشكك. كان قد اتخذ من الكون معزله، فضيقت العولمة معزله؛ فاتخذ ركينة قرب بيته كمتراس أخير في مواجهة زمن لعبته العقل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف