كتَّاب إيلاف

الفضائيات العربية والأخلاق المهنية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

المستهدف واضح والضحايا مدنيون!!

منذ ظهورها نهاية التسعينات شكّلت الفضائيات العربية ظاهرة إعلامية جديدة نوعاً وأسلوباً، ولئن كان الجمهور العربي قد تعود على إعلام رسمي إحادي الجانب، يخفي الحقائق ويظهرها وفقاً لمصالحه الضيقة، فإن أنتشار الفضائيات وتنوعها كان في الواقع نقلة ثقافية مهمة، بسلبياتها وإيجابياتها، على هذا الجمهور. ولئن وُصفت (الجزيرة) حين دشنت زمن الفضائيات العربية، بأنها CNN عربية، فمن هذه النقطة بالذات تبدأ المفارقة، مفارقة كوننا مستفيدين من النموذج الغربي ومشككين به في نفس الوقت، وفي ازدواجيتنا هذه تكمن الأزمة،
أزمة تقليدنا للغرب دون فهم مغزى بروز هذه الظاهرة أو تلك وفقاً لضرورات نسق حضاري معين. ففي الغرب تتزامن التطورات التقنية، وبضمنها تقنيات الإعلام الحديث، مع تطور فلسفة حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية، أي الليبرالية الثقافية بوجوهها المختلفة، فتصبح التقنيات الإعلامية وسيلة للتواصل والأنفتاح على الآخرين واختصار عامل الزمن في فهم ما يحدث في مشرق الأرض ومغربها. ودون التغافل عن بعض التناقضات وازدواجية المعايير أحياناً، فإن كل ذلك جاء من أجل مزيد من الاستثمارات والفوائد والمتعة. أما عندنا فقد هبطت تقنيات الإعلام الحديث علينا فجأة لتوقظنا من سبات عميق كرسه إعلام الأنظمة المستبدة. وهي أنظمة غريبة الأطوار، فهي خائفة من المعارضة رغم أنها تمتلك السلطة وأجهزتها وامتيازاتها، وخائفة من الخارج رغم تبعيتها لمراكز القرار الدولية، وخائفة من الكلمات والأفكار رغم إمتلاكها لجميع وسائل البث الإعلامية والثقافية الأساسية!! كل هذه المخاوف لأنها خائفة أساساً من نفسها وأجهزتها بسبب إدراكها لعدم إمتلاكها أدوات الشرعية الدستورية لإقامتها الأبدية في السلطة، ولمعرفتها بخطيئة تحويلها لأجهزة الدولة إلى وسيلة لتكريس سلطتها على حساب المجتمع!! في حين يجب أن تكون أجهزة الدولة مكرسة لحماية المواطنين من الخارجين على القانون ومن أدوات السلطة ورموزها عندما يتجاوزون على حقوق مواطنيهم!! هذا هو الفضاء المأساوي التي تتحرك داخله تناقضاتنا وأخطاؤنا الحضارية، هذا هو النسق الثقافي السلبي الذي يُنتج المفاهيم السيئة والتناقضات والأخطاء التي أصبحت قاسماً مشتركاً بين النخب الحاكمة والمجتمعات الخاضعة لها!!
وعلى سبيل المثال، فنحن غالباً ما لا نفرق بين الواقع وبين تصوراتنا الذاتية عنه، حيث نريده كما نرغب لا كما تحركه العوامل الموضوعية التي تتحكم بصيرورة الظواهر عادة. فنحن نعتقد باننا دائماً على حق، ولمجرد كوننا على حق نرى بان على العالم كله، يساراً ويميناً، أن يقف الى جانبنا لكي يبرر نفسه أخلاقياً وسياسياً، ويصر البعض على هذه السذاجة الغريبة بحماسة قومية مضحكة مبكية، فهو لا يريد أن يفهم بعض الحقائق البسيطة التي ميزت التاريخ الإنساني منذ البداية، وهي ان موازين القوى هي التي تتحكم بمعادلات الصراع في العالم، والحق بدون قوة لا يعني شيئاً في تلك المعادلات، لكن القوة لا تعني العضلات والصواريخ فقط، فالعضلات والصواريخ قد تدفع باصحابها الى التهلكة كما فعلت بحكام بغداد مثلاً لا حصراً. القوة تحتاج الى منطق يقودها، تحتاج الى مرونة وقدرة على محاورة الآخرين، حوار الظواهر وحوار الأطراف المختلفة حول طبيعة هذه الظواهر وكيفية التعامل معها، وهذا هو منطق الصراع، منطق التلاقي أو الاختلاف، منطق التباين أو المشابه. أي ان التناقض أو الإختلاف لا يلغي أهمية الحوار ما دام المرء يؤمن بشرعية موقفه وأهمية مكانته. ولنتساءل أيضاً : كم من الحقائق والأحداث المتعلقة بمصير الشعوب العربية ومصالحها يخفيها الإعلام العربي عن مواطنيه، ومع ذلك تظل الأرض العربية تدور ولكن إلى الوراء طبعاً!!
وفي نفس السياق، حين يظهر معلق أو متحدث غربي في إحدى الفضائيات العربية، فبدل أن نجعله يتفهم معاناتنا وموقفنا من القضية المثارة بطريقة هادئة وموضوعية، لكي نكسبه الى جانبنا، نجد بعض المشاهدين العرب ينهالون عليه بالاتهامات محملينه كل أوزار الاستعمار الغربي!! يحدث هذا حتى لو كان الشخص المعني متعاطف مع القضايا العربية، أو أن موقفه غير دقيق لأنه لا يملك معلومات كافية أو أن المعلومات تصله من طرف واحد، وبدل أن نقدم له معلومات واقعية تدعم موقفنا لكي يغير رأيه، ننهال عليه بالقائمة المعروفة لمظالم الغرب بحق بلداننا، وهكذا يتحول الحوار الى مناكدة وينتهي الى نتائج سلبية.
ومن ناحية أخرى، ان الذين يريدون من (الفضائيات العربية) ان تتطابق مع مزاجهم وآرائهم مئة بالمئة، هم ذاتهم الذين يعتقدون بان على جورج بوش وتوني بلير أن يركبا دبابتين ويقودا الجماهير لتحرير الأندلس وعربستان، وبهذه الطريقة فقط يبرران كونهما ديمقراطيين ومتحضرين!! فهؤلاء يعتقدون بانهم على حق دائماً، ولأنهم على حق فما على الآخرين إلا أن يكونوا معهم، لأن هذا هو المعيار الوحيد المقبول والمفهوم بالنسبة لهم!! في حين اننا إذا أردنا أن نكون جزءاً من هذا العالم وأن يكون صوتنا مسموعاً علينا ان نقر بتباين المصالح والاختلافات باعتبارنا طرفاً في الصراع، وإلا فاننا سنكون أما طافين فوقه أو مندثرين تحته، أي لا نؤثر ولا نتأثر، وهذا ما يسمى عادةً بالعزلة، أي التطوع لتهميش الذات!! متناسين أن الحق يحتاج إلى قوة تدافع عنه، وعندما تكون القوة مع آخرين فهم لن يعطوك أياها كي تستعيد حقك طبعاً. وأن ما جعلنا أضعف من الآخرين هو التخلف والخوف من حقائق الحياة والأزدواجية التي نمارسها ضد بعضنا وتبرير النفاق والكذب على الذات وبقية الصفات التي ندعي عكسها عادةً.
وهنا سيكون بوسعنا، من خلال ما دار ويدور حول الفضائيات العربية من حوارات وخاصة في الفترة الأخيرة، أن نشير لمسألتين هامتين حول أزمة الإعلام العربي عموماً لا ما يخص هذه القناة أو تلك فقط. الأولى هي إن أية جهة إعلامية جادة تحاول دائماً أن تتلافى نواقصها وتقلل من وطأة تناقضاتها كي تكتسب مزيداً من الصدقية مع جمهور المتلقين وهو جمهور متنوع ومتباين الآراء، فمنطق الأشياء يعلمنا بان الظواهر الضرورية لا تأتي دون نواقص بل هي قابلة للتطوير أما بدافع ذاتي أو بالخضوع لمعادلات الواقع.
والمسألة الثانية هي ان الجمهور المتلقي عندنا لا يأخذ بنظر الإعتبار تنوعه وتباينه هو بالذات، ولا ينتبه لنواقصه وتناقضاته التي يعكسها على قنوات إعلامية تريد أو تحاول أن تكون حرة ومحترفة، أي غير خاضعة لشروط وتوجهات يريدها هذا الطرف أو ذاك حصراً، لكن علينا أن لا نتوقع بانها ستكون موضوعية مئة بالمئة، غير ان جمهورنا مدمن ومتعود على إعلام موجه وتحريضي، لذلك يمكن القول بان الاعلام العربي الرسمي هو سبب الأزمة إذ خلق جمهوراً غير مهيء في الغالب للإستماع والحوار بل للاستقطاب والتحريض عبر عقود عديدة. ورغم هذه الالتباسات فان الفضائيات الخاصة أصبحت من العوامل التي فرضت على وسائل إعلام عديدة تلفزيونية وغيرها أن تجدد ادوات عملها واساليبها لكي تحافظ على حيويتها، في حين وجدت الفئات ذات النزوع أو الطموح الديمقراطي في ظاهرة الفضائيات العربية بداية معقولة تنسجم مع المتغيرات العالمية والمحلية التي لا بد أن تؤثر في الرأي العام العربي الذي ظل محروماً من الحوار وحق التعبير عن الرأي بسبب الإدمان على الإعلام الموجه.
وعلى كل حال، فلا يمكن تصور الفضائيات العربية دون نواقص أو تناقضات، ليس أقلها أقتصار البرامج الحوارية على وجوه معدودة، وبعضها منحاز بطريقة مغرضة، أي إن توجهاته لا تخدم الموضوعية المفترضة، فبعض هؤلاء على سبيل المثال، ظل لسنوات طويلة يخلط الحق بالباطل دفاعاً عن ديكتاتورية صدام التي ضربت رقماً قياسياً بانتهاكات حقوق الانسان، وهي (سلطة ديكتاتورية) كما يقر، لكنه يبتز أطرافاً عربية أخرى متهماً إياها بتبديد المال العام متغافلاً عن كون سلطة بغداد ذاتها ومنذ انقلاب 17-7- 1968 لم تعلن عن موازناتها السنوية، حيث يتم انفاق مئات الملايين سنوياً على الأتباع والمريدين، وعلى أجهزة القمع والمشاريع العسكرية التدميرية التي دفع ثمنها لا الشعب العراقي فقط بل المنطقة برمتها!! وحتى بعد سقوط الديكتاتورية ظلت بعض الفضائيات العربية على نفس المواقف المجحفة من مأساة الشعب العراقي، فبالإضافة إلى إحلال التفسير الطائفي للصراع محل حقيقة الهجوم الإرهابي التكفيري للحيلولة دون بناء المشروع الديمقراطي مانحةً الإحتلال مزيداً من الذرائع للبقاء في العراق، فإن بعض محرري نشرات الأخبار في هذه الفضائيات يوغلون في تحريف الحقائق حتى عندما يتعلق الأمر بدماء الضحايا الذين يسقطون بالمئات شهرياً!! ففي مطلع الأسبوع الماضي وتعليقاً على مجزرتين واحدة في كربلاء وأخرى في بغداد بسيارتين مفخختين ذهب ضحيتهما عشرات القتلى والجرحى من المدنيين الأبرياء، جاء في نهاية تعليق أحدى الفضائيات المعروفة على هذا الخبر ما يلي (.. ويظل المستهدف واضحاً رغم أن الضحايا بأغلبيتهم من المدنيين) ومعنى هذا الكلام أن (المقاومة الشريفة) تستهدف قوات الاحتلال لكنها ولسبب ما تُخطيء الهدف فتقتل العراقيين!! وبما أن هذا الخطأ يتكرر يومياً منذ ثلاث سنوات وذهب ضحيته آلاف الأبرياء، فإن التعليق المذكور ما هو إلا تبرير واضح للإرهاب وجرائمه المتكررة يومياً بحق العراقيين. وإلا كيف يمكن أن نفسر معنى (ويظل المستهدف واضحاً)!! عن أي وضوح يتحدث كاتب التقرير والجميع يعرف بأن مقابل كل مائة عراقي يسقط جندي أمريكي واحد؟! هل هو (وضوح) في قتل العراقيين أم في التصدي لجنود الاحتلال؟!
ويظل السؤال الواضح دائماً هو سؤال الأخلاق والضمير، ضمير محرري الفضائيات العربية وصدقية أخلاقهم المهنية في توصيف الأحداث بموضوعية كي يكون الإعلام العربي محترماً!! أم أن مرض الطائفية المقيت له منطق آخر؟! وإذا تم تدمير العراق وتقسيمه فأية فائدة سيجنيها المعنيون في هذه الفضائيات والجهات التي تنفق عليها الملايين؟!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف