مثقفون بحدود ضيقة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ضد ايديولوجيا الثقافة العربية (2/3)
شاعت في السنوات الاخيرة ظاهرة بلاحدود وظهرت إلى العلن منظمات محامون بلاحدود التي تتولى الدفاع عن قضايا الحقوق المدنية حتى في مطارات الدول الغربية لحماية اللاجئين وحماية المسافرين من عسف سلطات المطار الامنية والبوليسية، ومنظمة اطباء بلا حدود التي تمارس عملها في مناطق الازمات والكوارث والفقر. وهكذا اصبح مفهوم بلاحدود صفة لنشاطات دولية تاخذ طابع التطوع الخيري الذي يقود احيانا إلى التضحية بالنفس وفقدان الحياة من اجل الاهداف الانسانية لمهن تحمي الانسان وحقوقه.
كان المثقف العربي، في الخمسينات والستينات وشطرا من السبعينات، متطوعا مثل المحامين والاطباء بلا حدود،في( صفوف حركة التحرر الوطني)، وهذه صياغة علينا تذكرها لمعرفة تاثير الصياغات الجاهزة في عمل الوعي السياسي والثقافي.كان دوغمائيا ولكنه كان مخلصا.كان مخلصا ولكنه كان مولها بقيادته فكان شبه ابله.كان شبه ابله ولكنه كان يعمل من اجل اهداف عامة.كان يعمل من اجل اهداف عامة ولكنه لم يكن يعير انتباها لعدم واقعية تلك الاهداف. كان هم المثقف الانخراط في سياق ايديولوجي ثوري لخدمة اهداف سياسية وليس لانتاج الثقافة في سياق عملية اجتماعية. لذلك اصبح المثقف العربي يبحث عن فرص لدخول اطار الالتزام والتماهي مع الشعارات والنظريات والتسميات الطقسية كالمثقف الثوري والمثقف العضوي تاركا رؤية الواقع وملامسة الوقائع لاختصاص القيادة السياسية التي ينظوي تحت هيمنتها وتوجيهها.
كان موقف المثقف من السلطة هو موقف حزبه وتنظيمه السياسي . وكانت ثقافة المثقف تجاه السلطة صورة طبق الاصل عن تصور القيادة الحزبية للسلطة والنظام السياسي.
يقوم النظام السياسي العربي على ثقافة الموقف من السلطة، سواء من النخب السياسية او الثقافية او من قطاعات المجتمع التي تخضع لثقافة ذلك الموقف؟
وتعيش المجتمعات العربية على تراكم ثقافي له خصوصيات حقا. لكنها مع الاسف خصوصيات غير ايجابية. ان ثقافة العنف والقوة وتمجيد السلطان، السياسي والمالي والقبلي، تقود الركود الذي اشتهرت به دول الشرق. وعلى الرغم من ان نظرية الركود ونظرية الاستبداد الشرقي نتجتا من خلال عمل المستشرقين على التاريخ الشرقي، الا ان الجذور الواقعية لهاتين النظريتين يمكن العثور عليها في التراكم الثقافي الذي يسود بلدان الشرق الاوسط مجتمعات وانظمة.
لن الدول العربية، انظمة ومجتمعات ، تعاني من كارثة ثقافية لا تعيرها النخب السياسية والثقافية أي اهتمام. بل لا تراها ولاتتحسسها. وهذه الكارثة الثقافية هي مصدر اغلب كوارث الحروب والفقر والامية وشيوع مبادئ العنف .وهي في نفس الوقت، مصدر انحطاط النظام السياسي وتخلف المجتمعات وتكريس العبودية المعممة للدولة-السلطة(دولة الحزب،دولة الفرد، دولة الطغمة العسكرية، دولة العائلة ) وليس للدولة -الامة مثلا كما حدث في نهوض الغرب.
خلال مرحلة تكون بنى اجتماعية وسياسية جديدة هي خليط من البنى الكولونيالية شبه الليبرالية والبنى التقليدية في بلدان الشرق الاوسط نشأت طبقة من العسكر الذين ظلوا يتوارثون الثقافة العثمانية للسلطة التي مالت منذ نهاية القرن التاسع عشر للنظرة الانقلابية وتنظيم الزمر العسكرية. ان ثقافة الانقلاب والعسكر والدبابة التي تحسم امور الحكم تطورت عبر عدة اتجاهات وعلى يد عدة نخب. فقد بدأت العشيرة ، في عدد من البلدان العربية، كالعراق وسورية مثلا ، تتحلل كوحدة اجتماعية لتسمح للاحزاب كي تكون الوحدة الجديدة للانتماء خاصة في صفوف ابناء الريف والمدن الفقيرة حيث تحول ابناء الطبقة الوسطى النامية والجديدة إلى حاملي مشاريع سياسية وطنية ليبرالية، فيما تحولت الاحزاب الشمولية كالبعث والشيوعي والحركات القومية، إلى احزاب تعتمد على الفلاحين والعمال في الخدمات ومؤسسات الدولة الحديثة ذات المنشأ الراسمالي كالموانئ ومحطات الكهرباء والنقل الحديدي وتقوم على مفهومي العنف الثوري والشرعية الثورية في اطار شمولي يشمل قلب المجتمعات ويصل إلى اقامة طقوس حزبية مثل نيل عضوية الحزب واداء القسم الحزبي في حالة من السرية المطلقة التي تضفي هالة على مفهوم الحزب وايديولوجيته.
ان طابع السرية تحول إلى مفهوم يقود السلوك الشخصي والعلاقات العامة وانتاج الافكار. ان انتاج افكار سرية اقتضى تحويل النشاط الثقافي إلى عملية سرية تتسرب في منابر ووسائل النشر وايصال الثقافة. وقادت هذه السرية إلى اعطاء الايديولوجيا مقاما اعلى من مقام الثقافة. ولكي تصل الايديولوجيا السياسية التي تواجه الممنوعات الى الجمهور، فان الثقافة قامت بدور الايديولوجيا باعتبارها ثقافة مدنية اقل تعرضا للرقابة من الايديولوجيا السياسية.
لذلك لم يكن غريبا، من الناحية الذهنية، ان يرفع المثقفون اليساريون العرب شعار (دكتاتورية البروليتاريا) منذ الثلاثينات في بلدان ذات بنى تقليدية زراعية-حرفية لا يصل عدد عتالي موانئها وحمالي غلالها الزراعية إلى أكثر من ثلاثة الاف في غياب تام لمبادئ الراسمالية اصلا حيث صيغت مفاهيم دكتاتورية البروليتاريا في المجتمع الصناعي.
في خضم نمو هذه الثقافة تصدرت مفاهيم ذهنية-ايديولوجية اخرى السلوك والموقف الثقافي مثل الحقد الطبقي، والشرعية الثورية، وقدسية الحزب،والعدو الطبقي.وهذه المفاهيم لعبت دورا في تنامي العنف في الثقافة وفي شحنها بنزعة التطرف الايديويولوجي الذي وصل إلى الايمان المطلق بتطهير العدو، السياسي والقومي، والثقافي، والفكري، ووصل الايمان بالتطهير حد استخدام ملاعب كرة القدم معتقلات وسجونا للتعذيب والتحقيق كما هو الحال مع استخدام ملعب الادارة المحلية في الكرخ ببغداد عام1963 ليستوعب اكبر عدد ممكن من المعتقلين السياسيين بعد انقلاب البعث الاول واستلامه السلطة في العراق، لتتصاعد وتيرة هذه الثقافة إلى الاعدامات والمقابر الجماعية التي جاءت بالاكراد ليقتلوا في بادية السماوة، وجاءت باهل الجنوب ليقتلوا في ضواحي كركوك او الموصل او يغداد، وشنت مرحلة جديدة من العنف الثقافي العام للسلطة السياسية وصلت إلى تدشين سياسة تغيير ديموغرافية المقابر.
كان الوله الثقافي بالقيادة وقدسيتها وخصائصها شبه الالهية يكرس عناصر ثقافة عبادة الفرد وتكريس الدكتاتورية وتحويل المنهج العقلي إلى منهج فاشي، والمنطق إلى اطلاق الرصاصة على الراس، والحوار إلى مشنقة، والخلاف إلى ساحة رمي، مضافا إلى تلك الثقافة ثقافة الحرمان من لقمة العيش ومطاردة البشر من اجل تكريس عبوديتهم للحاكم على حساب كرامتهم وحقوقهم وحقهم في العيش والتفكير والتعبير والرأي، وانتشار ثقافة التكسب مقابل الصمت وغض النظر بحيث احبرت نخبة العراق الثقافية اما على الرحيل او الصمت او الدخول في عملية اختلاس عقول الناس ومشاعرهم وصبغها بالوان السلطة والطاعة والخنوع والانضمام للحشد الموحد الذي ينشد فيه الرسام والشاعر والناقد والمسرحي والسينمائي والاستاذ الجامعي والكاتب ومنتج الفكر في جوقة غنائية مهينة اناشيد لـ(ميلاد القائد الضرورة) وغير ذلك من مشاهد دراما سقوط الثقافة العراقية، التي تشير كلها إلى الكارثة الثقافية التي عانى منها العراق بصعود الفاشية والدكتاتورية كثقافة للسلطة والمجتمع عممت بواسطة كل وسائل الاكراه والعسف التي امتلكها النظام.
ان نظاما مثل نظام صدام هو صناعة تلك الثقافة بامتياز.فهو ابن الالغاء والاحتكار والقتل والاعدام السياسي، وهو ابن الغوغائية الثقافية السياسية التي سادت العراق طوال عقود من السنين ، وهو ابن ايديولوجيا العنف التي وصلت ذروتها على يديه وحلت محل الثقافة الحرة والمدنية.
انها ثقافة نظام سياسي تلغي القانون وتجعل اطلاق النار قانونا بدلا منه، وثقافة نظام سياسي تلغي الدستور وتجعل من القمع والاضطهاد مرجعية يقوم عليها الحكم. وهذه الثقافة التي تحيل المجتمع إلى عبد لخدمة السلطة الحاكمة تتعامل مع الحقوق كخرافات لايستحقها عبيد السلطة والمال والقوة والطغيان.وهذه الثقافة تصنف بصورة سرية المواطنين إلى اعداء او موالين حسب موقفهم من الحزب الحاكم او من قيادة الحكم، وتقوم على التقارير والوشايات والمراقبة بدلا من انتاج الافكار والقيم والابداع.
لعبت هذه الثقافة دورا في تصنيف أخر وتكريسه لمرجعية قانونية :كل من يعترض هو خائن وعميل للخارج.ولسوء حظ المعارضين انهم ينادون بحقوقهم التي اصبحت في الخارج حقوقا ناجزة ولايمكن اعادة النقاش حولها بدء من حق الحياة والسفر والايمان إلى حق التعبير والكلام والاعتراض. فالثقافة الديمقراطية اصبحت جزء من شخصية مجتمعات الغرب الذي هو الخارج بالنسبة للنظام السياسي العربي.وأخر ما يواجهه مثقفون يدعون إلى الاصلاح في العالم العربي ان مشروعهم هو مشروع الخارج. وياتي هذا الاتهام في وقت بدأت فيه سلسلة من الفورات الانذارية في الشرق الاوسط تشبه فورات البراكين.ومن الغريب ان الايدلوجيا الثقافية هي التي تقود الوقوف ضد الاصلاح بنفس الحجة الازلية: معاداة الامبريالية، بينما يدفع اصحاب هذه الايدولوجيا الثقافية ثمن غياب الحريات وتعطيل الدساتير وسطوة اجهزة القمع والمخابرات وانفجار نسب البطالة وتدني الخدمات الصحية والمدنية التي لم تكن مع الاسف سوى شعارات للكسب الحزبي لدى مثقفي الاحزاب في العالم العربي.
كان الكسب الحزبي ومايزال هو الثمن الذي تقبضه الثقافة الايديولوجية. وقد صاغت هذه الثقافة اطروحة جديدة تقوم على وصف المطالب الاصلاحية بانها مؤامرة على الشرق الاوسط في وقت يغرق فيه الشرق الاوسط في وعي منتج للعنف والرفض والعزلة والانسحاب إلى القرون الوسطى والغاء العصر والتخاصم معه وتهديد العالم المعاصر وتبديد الثروات على دعم افكار وقوى تدفعها نزعات عدوانية ولدت نتيجة لظروف القهر السياسي والاجتماعي في بلدان الشرق الاوسط نفسها.
ان ثقافة التصنيف إلى وطني وعميل، والى عدو ومنتم ، والى علماني واسلامي تترسب في الوعي السياسي العربي لتتحول الى ثقافة تنتج الاعداء والخصومات والنزاعات والالغاء والتهميش والواحدية والتمسك بزاوية ضيقة من ايديولوجيا لاتطيق رؤية الواقع ولا التعامل مع الوقائع ولا تنظر للمصالح الا باعتبارها شعارات مؤدلجة لايهم عدم تحقيقها وانما يهم التمسك بها والاصرار على رفعها من شعار الوحدة العربية إلى شعار تحرير كل شبر فلسطين، مرورا بشعارات الاشتراكية ، وهي شعارات الوعي الجمعي التي انتجت ثقافة تجهيل المواطن بحقوقه الاساسية وقيمته من اجل دحر الاعداء، الذين تواجدوا، خلال الحرب الباردة في الارجنتين وتشيلي، كما تواجدوا في موزمبيق ونيكاراغوا ، وتواجدوا في الفلبين وكمبوديا كما تواجدوا في اندونيسيا وفيتنام، بحيث القيت على كاهل الثقافة الايديولوجية في العالم العربي مهمة عالمية شاقة ومستحيلة هي ملاحقة اعداء التقدم والاشتراكية في كل انحاء العالم.
لم يعر احد ما اهتماما للمفارقة في هذه المهمة. فالمثقف العربي لم يكن حرا وكان عليه ان يحرر الاخرين، ليس في بلاده، وانما في مشارق الارض ومغاربها على بعد عشرات الاميال من موطأ قدميه.كان المثقف يرفع شعاراته ضد الامبريالية ومن اجل الاشتراكية والتقدم دون ان يبصر حوله غياب الحقوق المدنية والحريات والعدالة وسيادة القانون وانتهاك الدستور وتبديد موارد البلد على التنمية الدعائية الكاذبة التي تغطي افقار الشعب بقناع البحث عن اعداء الثورة واعداء العروبة واعداء الاشتراكية واعداء الاسلام؟وببساطة كانت المليارات تتسرب لقتال هؤلاء الاعداء الوهميين دون ان تردم بركة مياه اسنة لوقف الملاريا في قرية عربية.