الإنسان.. محور غائب في الفهم الديني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بما أن مدارس التفسير الديني، الشيعية منها والسنية، المنضوية تحت مظلة المدرسة الأصولية التقليدية ومدرسة الإسلام السياسي، تعتقد بأن تفسيرها الديني، وبالذات معرفتها لله ولكلامه جلّ وعلا، هو تفسير مطلق، فإنها بالتالي لا تستطيع أن تعترف بـ"تنوع" تفاسير معرفة الله و"تعدد" شروحات ما ورد من كلام الباري إلى الأنبياء والرسل والبشر.
ورغم أن المعرفة الأفضل بالله تؤدي إلى فهم أفضل لكلامه ولما ورد منه إلينا، لكن في المقابل لا يمكن إنكار أن أحد عوامل الفهم الأفضل هو تعدد طرق إثبات هذا الفهم.
وفي هذا الإطار فإن المدرسة الدينية التقليدية ومدرسة الإسلام السياسي لا يمكن لها قبول تعدد طرق الإثبات، وذلك لأنها في الأساس لا تؤمن سوى بالفهم المطلق للدين، وبالتالي فإنها لا تعترف إلا بمعرفتها بشأن وجود الله ولا تقبل سوى فهمها لكلام الباري. أي أنها تنحى منحى بعيدا عن الاعتراف بحق الإنسان المطلق في المعرفة سواء كانت دينية أو غير دينية.
فاختلاف طرق "معرفة" الله يؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف "فهم" وجوده وكلامه. وهذا الاختلاف في الفهم تحدده طرق الإثبات، التي بدورها توصل إلى فهم أفضل. وعليه تختلف معرفة الله بالنسبة للأصوليين في المذهبين السني والشيعي اختلافا كبيرا. كما تتباين مدارس معرفة الله وفهم كلامه في كل مذهب، ولكنها للأسف لا تستطيع أن تقر بتعددية المعرفة وتنوع الفهم وتجهد باستمرار لإلغاء الآخر المغاير في فهمه. فالمدرسة السلفية تختلف في تفسيرها حول معرفة الله وفهم كلامه عن المدرسة الأزهرية. وكذلك تختلف المدرسة الأصولية عن المدرسة الإخبارية في الجانب الشيعي. وتعرّف الصوفية الله وتفهم كلامه بطريقة مغايرة وبشكل مختلف عن المدرسة الأصولية. وهي - أي الصوفية - لديها أيضا مدارس فهم وتفسير متباينة. وبالتالي لا معنى لما تردّد مؤخرا في الكويت من هجوم إقصائي غير إنساني ضد الصوفية والصوفيين من قبل أتباع المدرسة السلفية المنعوتين بـ"الوسطية" وغيرها من الأوصاف المخادعة لنظريات وشعارات التسامح والتعدّدية واحترام حقوق الإنسان في حين أنها في أفعالها وممارساتها تعكس السلوك الإلغائي الوصائي والاطلاقي فوق البشري. فتلك المدرسة لم تتردد في أن تصف نفسها بأنها المدرسة الوحيدة التي تعكس فهم الدين وثوابته، وأنها لها الحق وحدها في تعيين خطوط الدين الحمراء، وأن تبرر هجومها ضد أنصار وأتباع الصوفية بأنه هجوم من أجل حفظ الإسلام والدفاع عن الدين، وأن تطالب بمنع تلك المدرسة ورجال دينها من التواجد في الكويت وتسعى لطرد رموزها من الوزارات وبالذات وزارتي الأوقاف والإعلام. فهي بمطالبها وممارساتها تلك إنما أبرزت مخالبها للانقضاض على من ينتقدها أو يختلف معها في تفسير الدين. أو بعبارة أخرى أجهضت حق الإنسان في البحث عن تفسير مغاير في الدين. فإذا كان إلغاء الصوفية هاجس السلفيين الراهن فيجب علينا أن نتساءل عّمن عليه الدور في الإلغاء بالمستقبل؟.
لذا ما الذي يجب أن نفعله أزاء هذا التنوع الشديد في مسألة معرفة الله وفي فهم الدين وفي هذا الاختلاف بين مدارس التفسير، هل نسمح لبعضها بإلغاء الآخر كما تفعل المدرسة السلفية ضد الصوفية والصوفيين في الكويت، أو نسد آذاننا ونغمض أعيننا وندفن رؤوسنا في التراب أزاء ما يجري، أو نسمح باستخدام الإقصاء والعنف واستغلال القوانين وما يسمى بالثوابت بحجة المحافظة على الدين لفرض مزيد من الإرهاب الفكري، أم نضع أصبعنا على الجرح لمعالجته معالجة واقعية من خلال تفعيل مواد الدستور وقوانينه الحاثة على احترام التنوع الثقافي واحترام حق التعبير وحق التفكير، وتفعيل مبدأ تعددية المعرفة والفهم الديني، والتشديد على استخدام مناهج وطرق بحث بشرية مختلفة ومتنوعة لمعرفة الله وفهم كلامه وتفسير شريعته. فالصفة التي تتصف بها المدارس التفسيرية الأصولية التقليدية والمدارس ذات الصبغة السياسية، ومنها المدرسة السلفية في الكويت، أنها لا تعترف بتعدد طرق معرفة الله ولا ترضى بتعدد طرق فهم كلامه عزّ وجل وتمارس مختلف صنوف الضغط وتستخدم وسائل الإرهاب الفكري لإلغاء الآخر الديني (وليس غير الديني فحسب).
ولأن تلك المدارس لا تزال لا ترى الله أو تفهم كلامه من خلال عين إنسانية، فإنها لا تزال بعيدة عن أنسنة الدين وأنسنة المعرفة والفهم. وهذه باعتقادي هي المعضلة الرئيسية التي تعاني منها هذه المدارس في زماننا هذا الذي أصبح فيه الإنسان محور جميع الأمور وأصبحت حقوقه عنوان مختلف القضايا من سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية وغيرها. فالإبتعاد عن النظرة الإنسانية في معرفة الباري وفهم كلامه جعل هضم الاختلاف والتنوع بعيد المنال.
وتتجلى إنسانية الدين الإسلامي في الآية 286 من سورة البقرة التي تقول "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". فالعقل البشري، كما يقول المفكر الإيراني عبدالكريم سروش، يقبح التكليف فوق الطاقة، ويتوقع أن لا يكون الدين ظالما للإنسان، أما حدود هذه الطاقة البشرية، فإن العقل هو الذي يجب أن يعرفها.
وتلعب النظريات القيمية دورا رئيسيا في معرفة هل أن فهم الدين الإسلامي هو فهم إنساني رحيم وفهم عادل أم عكس ذلك. أي، كما يذكر سروش، يجب أن يكون لدى الإنسان تصوّر عن العدل والظلم وتعريف للحسن والقبح ليتمكن من القول أن الدين رحيم وعادل، مؤكدا أن "الدين عادل وليس العدل دينيا"، حيث يجب التوضيح للناس بصورة مستقلة معنى مفاهيم مثل "العدل" و"الحق" و"السعادة" و"الحسن" ثم يتم عرض الفهم الديني على هذه المعايير ويقيسون مدى حقانية الفهم وحسنه وعدله.
لكننا في المقابل نجد أن المدارس التفسيرية الأصولية التقليدية وذات الصبغة السياسية عادة ما تبحث عن العدالة بعد طرح فهمها الديني، بحيث يكون الفهم في معظمه ظالم ولا إنساني. والأمثلة على ذلك كثيرة. فما يحدث في العراق من قتل وحشي إرهابي باسم الدين، وما يمارس من سلوك غير إنساني في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية من قبل حكوماتها التي تدّعي أنها تطبق الشريعة، دون أن تعير أي اهتمام بموضوع الحسن والقبح ودون أي نظرة إنسانية واقعية وحديثة لفهم الشريعة، وما تمارسه حركات الإسلام السياسي العنيفة وغير العنيفة من ظغوط من أجل شرعنة القوانين وفق نظرة اجتماعية سياسية تاريخية ونظرتها للآخر غير الإسلامي ولحرية الفرد وحقوقه، يؤكد كلامنا هذا.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com