جدوى بقاء الهيئات المستقلة في الدستور العراقي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أعتبر الدستور المفوضية العليا لحقوق الإنسان والمفوضية العليا المستقلة للأنتخابات وهيئة النزاهة من الهيئات المستقلة التي لاتخضع لرقابة السلطة التنفيذية ( المادة 99 )، ووضع أمر مراقبتها بيد أعلى هيئة تشريعية في البلاد وهي مجلس النواب وحدد أعمالها بموجب قوانين صادرة لتنظيم عملها بموجب تلك القوانين. وبهذا فأن الدستور اعطى لهذه الهيئات القوة القانونية التي تحميها من تدخل السلطة التنفيذية والقضائية، وحدد لها عملها والجهة التي تستطيع أن تقوم بحلها.
كما أعتبر الدستور أيضاً كل من البنك المركزي العراقي وديوان الرقابة المالية وهيئة الأعلام والأتصالات ودواوين الأوقاف من الهيئات المستقلة أيضاً، كما حدد الدستور أرتباط هذه الهيئات بمجلس النواب وأن يتم تنظيم أعمالها بقوانين، باستثناء دواوين الأوقاف التي ربطها بمجلس الوزراء، مثلما ترتبط مؤسسة الشهداء أيضاً بمجلس الوزراء وأن يتم تنظيم عمل كل منهما بقانون.
وكما اشار الدستور الى تأسيس هيئة عامة لضمان حقوق الأقاليم وكذلك المحافظات غير المنتظمة الى أقليم فيدرالي، تأخذ على عاتقها أسس المشاركة العادلة في إدارة مؤسسات الدولة الأتحادية المختلفة بما فيها الزمالات والبعثات والوفود والمؤتمرات الأقليمية والدولية تتكون من ممثلي الحكومة الأتحادية والأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم ومن المؤكد ان تكون مثل تلك الهيئة مستقلة لاتخضع للسلطة التنفيذية بالنظر لكون عملها يشمل حقوق الأقاليم أو المحافظات التي لم تنضو تحت أقليم، ومن الطبيعي أن تكون خاضعة الى مجلس النواب الأتحادي.
كما أسس الدستور هيئة عامة لمراقبة وتخصيص الأيرادات الأتحادية تأخذ على عاتقها التحقق من عدالة توزيع المنح والمساعدات والقروض الدولية بموجب أستحقاقات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة ضمن إقليم، والتحقق من الأستخدام الأمثل للموارد المالية الأتحادية واقتسامها، واعتماد الشفافية والعدالة عند تخصيص الأموال لحكومات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بأقليم وفق النسب المقررة قانوناً والتي يتم اعتمادها وفقاً لقرارات مجلس النواب وبما يضمن العدالة في توزيع المنح والقروض والمساعدات لغرض بناء الأقاليم والمحافظات الأخرى.
ولغرض تنظيم شؤون الوظيفة العامة الأتحادية أسس الدستور مجلساً للخدمة العامة الأتحادية ينظم تكوين الوظيفة والترقية والتعيين فيها وفقاً للقانون الذي ينظم عملها وأن يكون هذا المجلس مستقلاً ايضاً.
وأكد الدستورعلى مواصلة عمل هيئة دعاوى الملكية بوصفها هيئة مستقلة وبالتنسيق مع السلطة القضائية والأجهزة التنفيذية الأخرى، ومنح حق حل هذه الهيئة لمجلس النواب بأغلبية ثلثي أعضاءه، مع كل التداخل العملي بين عمل الهيئة وأختصاص القضاء المدني العراقي، الا ان وجود مثل هذهالهيئة بعد تشكيل الحكومة الشرعية يخلق ايضا نوعا من التداخل في العمل وأيجاد نوعاً من المؤسسات المتشابهة في الشكل والمضمون.
كما سمح الدستور للهيئة الوطنية العليا لأجتثاث البعث بمواصلة عملها بوصفها هيئة مستقلة والزم عملها أن يكون بالتنسيق مع السلطة القضائية والأجهزة التنفيذية في إطار القوانين المنظمة لعملها وبهذا أشرك عدة سلطات كان الدستور قد اكد على ضرورة الفصل بين عملها ضمن هذه الهيئة مما يجعل قراراتها هجينية لاتتبع طريقا واضح المعالم في التطبيق والمرجعية، وحدد الجهة التي ترتبط بها هذه الهيئة بمجلس النواب، وخول بمقتضى البند الثاني لمجلس النواب أن يقوم بحل هيئة أجتثاث البعث ( بعد أنتهاء مهمتها ) بالأغلبية المطلقة.
أن وجود هيئات مستقلة تمارس عملها بالتنسيق مع القضاء العراقي بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على سقوط نظام الدكتاتورية يجعل من هذه الهيئات بمستوى السلطات القضائية التي يراد لها أن ترتفع بالأداء بما يتناسب مع المرحلة الجديدة للبناء العراقي، أن لم يكن وجودها يتشابه مع عمل مؤسسات فاعلة أخرى ويراد لها أن تأخذ دورها في أرساء قواعد العمل القانوني والقضائي في العراق، وبقاء هذه الهيئات تتخذ القرارات بشكل مشترك يخلط الفهم القضائي والقانوني، حيث غيب النص المراجع القانونية التي يتوجب أن تنظر بالطعون التي يقدمها أصحاب الشأن ليكون قرارها باتاً ومكتسباً للدرجة القطعية، كما غيب النص القوانين التي يمككن أن تستند عليها في أصدار قراراتها الحاسمة، فأن وجود مثل هذه الهيئات يجعل عملية التدقيق متداخلة بين السلطتين القضائية والتنفيذية بالإضافة الى تعارض في التفسير والفهم للعديد من النصوص القانونية، وفي هذا الأمر نوعاً من أضعاف القضاء العراقي الذي يفترض أن يأخذ شكل أستقلاليته وتصديه لحسم القضايا المعروضة عليه وفقاً للقوانين المعمول بها، ووفق آلية القرارات القضائية ومدد الطعن والجهات المختصة بالنظر في هذه الطعون والتمسك بنصوص القوانين الأجرائية المعمول بها في المؤسسة القضائية، باعتبار أن القضاء العراقي مختصاً في الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الأتحادية وحكومات الأقاليم أو المحافظات، وأن لا سلطان على القضاء لغير القانون.
فالمفوضية العليا للأنتخابات في العراق وأن كانت الفكرة قد جائت من لدن الأمم المتحدة، الا ان مهمتها انتهت مع قيام الدولة العراقية الجديدة بأنتخاب مجلس النواب والرئيس والحكومة، وبعد أن اشرفت على انتخاب الحكومة المؤقتة والدستور والبرلمان العراقي الجديد.
وكانت البعثة الدولية للانتخابات العراقية قد أصدرت تقريرا نهائيا خاص ببرنامج التصويت خارج العراق تضمن ان برنامج التصويت خارج العراق قد ادير بفاعلية ونجاح في جميع المراحل رغم النقص في الكوادر الادارية المجربة وغياب الاتفاقات المبرمة مع الدول التي استضافت هذه الانتخابات وقصر الفترة الزمنية المحددة للتنفيذ (35) يوما فقط. ورغم تسجيل حوادث التزوير واساءة استخدام لنظام تسجيل الناخبين الإ ان هذه لم تمثل سوى الاستثناء من القاعدة العامة ، وبغض النظر عن السلبيات والأيجابيات فأن المناقشة تدور حول جدوى الأستمرار مع وجود سلطات شرعية وفاعلة !!.
وقد قرر مجلس النواب أخيراً الموافقة على تمديد عمل المفوضية العليا المستقلة للأنتخابات وأعتبر هذا التمديد بمثابة تصريف الأعمال لحين انتهاء اللجنة القانونية التي احيل اليها امر الهيئة حيث تم تمديد العمل بقانون المفوضية لمدة ثلاثة اشهر او عند تشريع قانون اخر أو عند اقرب الآجلين كما يقول القرار الذي صوت لصالحه 153 عضو من أصل 175 كانوا حاضرين .
ويتعين على الحكومة تطبيق نصوص الدستور بأمانة بأعتباره القاعدة القانونية العريضة التي ترسم المستقبل العراقي، فيما يخص التطبيق الفيدرالي والسلطات الإتحادية وقضية الحقوق و الحريات العامة والإحصاء السكاني والالتزام بحل أنساني لقضية كركوك، ومع بقاء المفوضية العليا قائمة فأنها أيضا تتمع بالأستقلال ولن يستطيع سوى مجلس النواب حلها والأستغناء عنها وفق نصوص الدستور ويبدو ان المجلس مدد عمل المفوضية لتدقيق وضعها القانوني قبل ان يتجه لحلها والقرار يعد خطوة تساهم في ابقاء هذه الهيئات المستقلة بالرغم من انتهاء دورها وفاعليتها في هذه الظروف .
أما الهيئة الوطنية لأجتثاث البعث فقد عملت خلال المدة من تشكيلها بأمر الحاكم المدني الأمريكي للقوات الأمريكية المحتلة وحتى قيام السلطة العراقية الشرعية وفق المسارات التي تم تحديدها لها في أقصاء درجات معينة من المنتمين الى حزب البعث البائد عن العمل في مفاصل السلطة العراقية، مع العلم ان العديد من رجال المخابرات والأمن والأستخبارات والأمن الخاص ووكلاء الأمن ممن ارتكبوا الجرائم في الزمن الصدامي البغيض لم يكنوا بدرجات حزبية يمكن ان يطالها قانون الاجتثاث، مما يجعل عملية التطبيق غير مجدية وغير فاعلة لتحقيق نتائجها، كما ان استقلالية الهيئة وعدم وجود ضابط قانوني لعملها، يجعلها سلطة أحادية تستطيع ان تقرر دون تدقيق او نقض من أية جهة كانت وفق الضوابط التي اشرنا لها آنفاً ، بحجة استقلاليتها في العمل المناط بها وتطبيقها الضوابط بشكل آلي لايخدم المرحلة ولا المستقبل العراقي، مما جعل مئات الالاف من العراقيين يقعون تحت طائل قراراتها الباتة والتي لاتقبل المراجعة رغم تبيان العديد من القرارات لاسند له من الواقع ومجحف، فالهيئة سلطة داخل جسم الحكومة لاتستطيع السلطة التنفيذية مواجهة قراراتها أو مخالفتها، بالرغم من التناقض الحاصل في تطبيق نصوص الدستور من أنه لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت الديمقراطية أولا، ولاأي قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية ثانيا، والمساواة بين العراقيين أمام القانون دون تمييز بسبب المعتقد او الرأي.
وأذا كان الدستور قد حظر كل نهج يتبنى العنصرية والأرهاب او التطهير الطائفي أو يمهد له أو يمجد او يروج أو يبرر وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت أي مسمى، فأن هذا الأمر يعني منع نشاط هذا الفكر البائد لما تحمل الشعب العراقي بكل قومياته وأديانه ومذاهبة الويل والدمار منه، مما يتوجب احالة مرتكبي الجرائم بحق العراقيين الى القضاءالعراقي لمحاكمتهم والبت في القضايا المحالة وفق آلية العمل القضائي ووفق القوانين الجنائية السارية في العراق، وهذا الأمر يخرج من أطار عمل الهيئة الوطنية لأجتثاث البعث حيث تفتقر للوسائل القانونية والقضائية، كما تفتقر للهيكلية التي تتحول بموجبها الى محاكم استثنائية تصدر قرارات حكم بمنع المواطن العراقي من المطالبة بالمساواة مع الاخر بحجة انتسابه السابق للحزب البائد حتى وان لم يكن مرتكبا لفعل جرمي، مما يجعل وضعها القانوني استثنائي لاموجب له بعد ان تشكلت الحكومة الشرعية وبدأت قضايا الأستثناء بالأنحسار ودولة القانون بالتطبيق السليم.
وأمام أعادة النظر في بعض قضايا الدستور العراقي نجد انه من المفيد جداً ولصالح المستقبل العراقي أعادة النظر في الهيئات المستقلة التي تشكلت بعد سقوط النظام الدكتاتوري وقيام العراق الجديد في الفترة الانتقالية، ولعل من أهم هذه الهيئات هي هيئة أجتثاث البعث والمفوضية المستقلة للانتخابات، وأن تتم دراستهما ودرجة جدواهما وموازنة السلبيات والأيجابيات في الأداء والنتائج بعيداً عن الانفعال والعواطف أمام بلد يراد له أن يرمم الخراب الذي حدث وأن يشرع في بناء تأخر اكثر من نصف قرن ليلحق بركب الأمم.
وإذا كانت ثقتنا بالقضاء العراقي تدفعنا لتعزيز استقلاليته، فأن الأمر يوجب علينا ان لانشرع في تشكيل هيئات تتنافس مع القضاء العراقي أو تتشابه مع عمله في إصدار قراراته مع افتقارها لموجبات العمل القانوني وتعارضها معه في العديد من الوسائل والسبل التي تتم بها معالجة الواقع العراقي الذي يتطلبه الكثير من العقلانية وسعة القلب والوطنية في بلد بدأ يتسع الخراب به بديلاً عن رتق الجراح ومداواة العلل.
لقد تم انتخاب مجلس للنواب في تحدي عراقي للأرهاب ليس له مثيل يدل على تمسك العراقي بنهج الفيدرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان كمعالم إنسانية ومنظومة قيم تحغظ للعراق وحدته الحرة وسيادته والتي جاء بها الدستور العراقي ، وهذا المجلس لايمكن ان يتحدد في هذا الظرف بالسلطات التي وردت في نصوص الدستور، انما يتفاعل مع المرحلة الدقيقة التي يعيشها العراقي في هذا الظرف، ويعطي اكثر مما يأخذ، وأن يكون الصوت الحقيقي لحاجة المواطن العراقي بعيداً عن البيروقراطية والتعالي وبعيداً ايضاً عن الأنتماء للطائفة والقومية والحزب، فكل نائب يفترض ان يكون ممثلا للعراق، ومن خلال هذا المنظار فأن مهمات ضميرية وطنية كبيرة تترتب عليه ان يؤديها، مثلما عليه تدارس الحاجة الماسة والخطورة التي تنتجها وجود هيئات متعددة للقرار العراقي لارقيب عليها ولاجهات نقض لقراراتها، هيئات تصدر قرارتها بحق العراقي وتشل يده أحياناً عن المساهمة في الأصلاح وأعادة الحال في المشاركة والاندماج، هيئات تصدر قرارتها تغلق كل الطرق بوجه بعض العراقيين ممن يمكن الأستفادة منهم علمياً او أنسانيا أو سياسياً او أجتماعياً، تستند في قراراتها أحياناً على تقارير مغرضة أو أخباريات لاتصلح للأدانة وفي أحيان أخرى لتشابه في الأسماء أو ربما في حالات بعيدة عن القبول والحقيقة لأسباب عديدة وتدفعهم دفعاً للاصطفاف مع أعداء العراق الجديد، وتحرص ان يكونوا عقبات ومطبات في سير العملية السياسية أن لم يكونوا الأداة التي تشترك في الجريمة وبهذا نخسر ليس فقط تأخير عملية البناء وأنما نخسر العديد من أبناء العراق دون مبرر أو سبب منطقي لخلق هوة بين العراقيين لايخدم المستقبل العراقي ولاحتى الوقوف بوجه التيارات العنصرية أو التكفيرية او الأرهابية التي تغذيهامثل هذه القرارات.
فتح نوافذ العراق لأبناءه أكثر جدوى من غلق النوافذ والبقاء في عتمة الانغلاق، وعلى مجلس النواب أن يدرس بعناية الحريص على المستقبل العراقي حاجة المستقبل العراقي، وأن يدرك جميع أعضاء مجلس النواب انهم أعضاء لأعم مرحلة من مراحل تأسيس العراق الديمقراطي الفيدرالي، وسيكتب عنهم التأريخ العراقي بدقة، عليهم ان يدركوا أنهم يؤسسون والأساس ينبغي ان يكون متيناً ونظيفاً من الشوائب ليتم البناء المستقبلي للعراق عليه ، لتكن أصوات العراقيين في محلها مهما كان أسم القائمة التي أنتخبها فالجميع معني بهذا الأمر.
الهيئات مستقلة وتعدد الجهات المستقلة تخرجها من الرقابة والأشراف، وإذا كانت هذه الهيئات بمستوى القضاء العراقي يتوجب ان تستقل عن السلطة التنفيذية و لكن الأزدواج واقع عملياً والتداخل في العمل موجود وأن لم يتم الكشف عنه، وتعدد الجهات التي تعالج الهم العراقي يكثر من وجهات النظر وتتعدد معه الأجتهادات وليس من مرجع سوى مجلس النواب الذي لايملك مراجعة كل قرار يصدر من هذه الهيئات انما عليه ان يدرس جدواها وحاجة العراق لها في ظل الظروف الطبيعية بعد ان تخلصنا من هيمنة الفكر الشمولي وسلطة الطغيان والمحاكم الأستثنائية المتعددة في العراق.