كتَّاب إيلاف

ثقافة المكرمة: ثقافة العبودية والخوف

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ضد ايديولوجيا الثقافة العربية(3/3)

يلومني عدد من اصدقائي القليلين واعدائي الكثيرين على تعرضي لثقافة الايديولوجيا وتفشي الارهاب الثقافي وتبعية المثقفين للسياسيين تبعية ذات جوهر عبودي ومسؤولية المثقفين في الانحطاط الاجتماعي وامغمارهم في التخوين وقطع الارزاق، وشعرت بان الذين لاموني يشاركون في ابقاء الوضع الراهن كماهو. الكل فاسدون،هذا ما اسمعه احيانا تبريرا للومي. هذه مقولة لاتسر نبيا ولا وصيا ولا اماما ولا مصلحا ولا مثقفا يؤمن ان له رسالة انسانية وثقافية يجب ان يؤديها خدمة للناس والوطن.
في سعينا لبناء مجتمعات جديدة وثقافة سياسية جديدة تناسب بناء انطمة سياسية جديدة لا بد ان نرى الوقائع الكارثية التي حلت بالعالم العربي وبالعراق تحديدا بسبب شيوع ثقافة الصمت والخوف، حتى اصبحت ثقافة الحرب وثقافة قادسية صدام وثقافة عبادة القائد بديلا عن ثقافة القانون والدستور والحقوق المدنية.واذا لم نلم المثقف الذي ساهم باشاعة هذه الثقافة التي ماتزال نتائجها تضرب المجتمع العراقي وتحيل فقراءه إلى محرومين حقا وموارده إلى نهب، فاننا سنسكت عن بروز ثقافة جديدة تجعل من الفساد ثقافة جديدة للمجتمع والدولة معا.هذا طبعا اذا اتخذنا العراق نموذجا مكثفا لواقع عربي من المحيط إلى الخليج، وهي النغمة القومية التي لم تحقق الحرية من المحيط إلى الخليج وانما خققت ثقافة الخوف في هذه الرقعة الجغرافية الهامة من العالم.
دعونا نلخص الواقع العربي المنهار من خلال النموذج العراقي.لقد اوصلت ثقافة النظام المنهار الناس إلى انتظار (مكرمة السيد الرئيس القائد حفظه الله). وبدل ان يكون من حقها ان تاكل وتشرب وتمر من الشوارع وترسل ابناءها إلى المدارس ومرضاها إلى المستشفيات وعاطليها إلى العمل، اصبحت تنتظر ان تتحول حقوقها إلى هبة ومكرمة من( الرئيس القائد) يعطيها متى يشاء لمن يشاء ويمنعها متى يشاء عمن يشاء.وحين اتحدث عن ثقافة من هذا النوع يصر البعض على انني اتحدث عن ثقافة الادب والفن وبضعة كتاب يعتقدون ان الثقافة هي مايكتبون. انني اتحدث عن قيم ومرجعيات واصول وافكار ومشاعر ونظائر اجتماعية وانماط سلوك وانظمة تفكير تشكل بمجموعها نوع الثقافةالسائد.
فمن الثقافة التي سادت في العهد المنهار ان المواطن هو عبد لدى السلطة يخدمها وتسوقه إلى الحروب والموت الجماعي طائعا وممتنا، وليس له حق الاكل والشرب والزواج والتعليم والتطبيب والحلم والتصور والخيال الا بامر النظام ووفق رضا رئيس النظام عليه. ومن الثقافة السائدة ان المواطن هو رقم يضاف إلى عدد الجنود او عدد القتلى او عدد المعدومين الذين تقتلهم اجهزة الامن لتكون هذه الاجهزة صالحة ووفية للنظام السياسي. ومن الثقافة السائدة ان راس النظام وحده يملك الحق بتدمير شعب تعداده خمسة وعشرين مليون انسان وانه هو الذي يوجه العقل والروح ويصنع مشاعر الرعية ويوحد احاسيسهم تجاه شخصه المقدس كما يوحد صوتهم زخضوعهم وضرورة ان تكون كلمة نعم هي الكلمة الوحيدة التي ينطقون بها.
ومن الثقافة السائدة ان هناك ناسا عملوا في صناعة هذه الثقافة وكونوا مصانع لانتاجها واجبار الشعب العراقي على اقتناء منتجاتهم واستهلاكها للتثقف بها وعدم التثقف باية ثقافة اخرى وهم يرفضون ان يوصموا بانهم مثقفو نظام وانما يعتبرون انفسهم مثقفي قضية وهم ديمقراطيون اليوم حتى النخاع ولم يساهموا بصناعة أي وهم وانما كانوا يعارضون صداما وحكمه فمن يدري من دعم ثقافة الحرب والاعدامات واخذ الاوسمة والنياشين والاموال عنها؟
ومن الثقافة التي سادت ان ليس هناك اختلافا بين البشر الا بين تابع وعدو، وليس هناك اختلاف في الراي او الرؤية او درجة الابصار او زاويته، وان خمسة وعشرين مليونا من العراقيين يجب ان يكون شخصية واحدة بنفس الملامح والتعابير والطول والعرض والمشاعر والاحاسيس والولاء. فكل عراقي وفق تفكير النظام هو مواطن (عضو بالاحرى) في الحزب وليس في الدولة. ولم اتعجب من اجراءات النظام السابق سوى لاغفاله الباس العراقيين زيا موحدا على الطريقة الصينية.
انا قابل للوم وقابل للنقد وقابل للتوصيف بالعدوانية والعصبية لاني اريد ان ارى الحقائق ولا اغمض عيني عليها ولا ادين من يفتح عينيه عليها.لكن العراق سيظل يألسف على مافاته وماسيفوته لان مثقفيه وسياسييه(مع غالبية من المثقفين العرب ممن عاش على مكرمات صدام ونظامه وممن عاش على مكرمات معاداة الامبرالية التي رفع صدام شعارها) يتحدون لانكار الوقائع ويدينون من يراها ويحدث عن رؤيتها، لذلك فان الكارثة السياسية في العراق والعالم العربي التي نشات على مدى عقود،وربما تستمر سنوات اخرى، تكمن في انعدام الرؤية الثقافية للواقع العراقي. من صنع الدكتاتورية ومن بررها ومن اطال في عمرها بحيث اقتضت جراحة عسكرية اميركية كبرى ثمنها الحرب والاحتلال وما رافقهما من مظاهر؟ من صنع ثلاثة حروب كبرى قضت على مليوني عراقي ودمرت موارده واعادته إلى القرون الوسطى ودمرت نفسية العراقيين واشاعت الذعر والخوف والعزلة والحزن والكابة والالم فيهم وامتدت حتى اليوم؟من الحق المواطن العراقي بعلاقة عبودية مع السلطة لايحق له فيها ان يفكر ان من حقه ان يكون حرا وان من حقه ان يفكر ويحلم وينام وهو حرلا سلطان لاجهزة امن ومخابرات واستخبارات وامن خاص وامن رئاسي وامن عسكري وامن حزبي وامن ثقافي وامن اجتماعي وامن صناعي عليه فلا يتنفس الا بنظام عد الانفاس ولا ينام الا بمقياس هل تتعدى الليلة على خير ؟ومايزال تراث هذه الثقافة يدمر المجتمع العراقي في عنف سري اسود يستهدف الحياة البشرية والطبيعة والتراث والبيئة والتاريخ والاحلام والامال.
هذه الثقافة لا يريد احد ان يفتح ملفاتها ويعرف من صنعها ولماذا وكيف وماهي الحاجة الماسة لالغائها واطفاء جهنمها التي احرقت البلاد والعباد. فالدكتاتورية ليست نظاما سياسيا فحسب، وانما هي بالدرجة الاولى نظام ثقافي يقود المجتمع ليكون خاضعا بالقوة والمثال والسلطة والاعلام والصورة والعرض العسكري والشعار والموسيقى والنشيد الوطني والعلم وحناجر الاطفال والشيوخ والنساء والمدنيين والعسكريين والامثلة الصارخة عن ثقافة تسليم الابناء للقتل لهروبهم من ساحة الحرب والحصول على مكافاءة مالية ووشاية الزوجة المختلفة مع زوجها لاعدامه ووراثة البيت المسجل باسمه.
لقد رايت مثقفين في الخارج كانوا فرحين بحصولهم على (مكرمة من السيد الرئيس القائد) ولم تكن مهمة دهشتي لقناعة هؤلاء المثقفين بانهم عبيد يتلقون مكرمة سيدهم بقدر دهشتي ان المكرمة لم تكن سوى علاوتهم السنوية المقررة قانونا في عقود وظائفهم التي توظفوا بها قبل حكم البعث وصدام.
هذه ثقافة اولا قبل ان تكون سياسة، كان المطلوب تعميمها لكي تشرّع وتبرّر الاستبداد والدكتاتورية عن طريق الخوف وليس القناعة التي يامل مثقفو تلك الثقافة ايصال المجتمع اليها عن طريق استمرار الية العنف والية الخوف.
من المشكلات الكبرى للسياسة في العراق انها بلا فكر. وان مايقودها هو مجموعة قيم تتعارض مع الاخلاق العامة. فحتى من ادعو الديمقراطية ركبوا دبابات اول العسكريين للوصول إلى الحكم،ومثالهم (ابو الديمقراطية كامل الجادرجي في الثلاثينات )وحتى من ادعوا الديمقراطية اليوم سارعوا لادانة الانتخابات باعتبارها ليست مرجعا للحكم وانما المرجع الاساس هو التوافق فيما بينهم لكي يبقوا في مناصبهم وفق ثقافة الغاء القانون والدستور والتعددية وحقوق الانسان وتداول السلطة وحرمان الاخر من حقه باسم الديمقراطية والليبرالية الشمولية.
وبدل ان نجد المثقف يمارس مهمته من اجل تحرير العقل وتنوير المجتمع نجد ان الجميع قد نفظوا ايديهم من مسؤولية المشاركة في صناعة وتسويق هذه الثقافة، وكان الذين صنعوها اشباح او من سكان الاطباق الطائرة عادوا إلى كواكبهم المجهولة حالما انهار نظام ثقافتهم.
اتقبل اللوم لاني اسير في طريق وعرة وخطرة اسير عليها منذ عقود حتى لقبت بالعدواني والمزاجي والفردي ولكني في الواقع انظر بحزن إلى الزمن، فان الثقافة العربية تسير إلى الوراء وتبدو الصورة والاحساس مثل القطار الذي يتحرك قربك وقطارك واقف. وبمناسبة هذا التوارد فان الثقافة والمواصلات في العالم العربي تسيران إلى الوراء معا، وانا كلما اصعد قطارا مرتبا وسريعا في دول اوروبا، وكلما استقل باصا نظيفا وغير مزدحم، وكلما انزل إلى المترو السريع الذي يربط جهات العاصمة الاربعة في لندن او باريس او بودابست او غيرها من بلاد الله، وكلما ارى اشجارا ومتنزها وصفا من الغابات والاكمات افكر بالعراق واحزن. افكر بالعراقيين والعرب الاخرين واتمنى لهم مثل مايتمتع به البشر في تلك الدول.
عشت حزينا على مدى ربع قرن بسبب هذه المقارنات التي لاتفارقني، كاني مكلف بمقارنة ماحصل عليه مواطنو تلك البلاد وما يفتقده العراقيون والعرب. واقول كل ذلك بسبب الحكم الذي لايفكر بشئ الا بعبادته وعبادة كرسيه.
حقا لماذا لايكون للعراقيين والعرب شبكة قطارات تربط المحافظات والمدن والاقضية والنواحي والقصبات كما ترتبط في اوروبا بحيث لاتذهب إلى قرية صغيرة الا ولها خط سكة حديد حتى لو سار كل ساعتين.ولماذا لايكون لكل بيت عراقي او عربي تلفون يستطيع ان يرتبط بالعالم به وبالناس والمجتمع. ولماذا لا يستطيع المواطن انجاز معاملاته بالتلفون وبالبريد كما يحدث في بلاد الله الاخرى؟
السبب بسيط هو غياب فكر الدولة وفكر المسؤولية في فهم وظيفة الدولة. ديدرو، التنويري الفرنسي يقول ان الدولة ماكنة لانتاج السعادة لمواطنيها. وجون ستيوارت مل يقول ان واجب الدولة توفير الفرح والسعادة وتلبية حاجات المواطنين لتكون شرعية.هل هما(بطرانان) ام جادان؟ طبعا في الغرب هما جادان منذ اكثر مائتي عام، فالدولة الديمقراطية تحرص على توفير سعادة مواطنيها لكي تكون شرعية عن طريق قبولهم بها ورضاهم عنها.ولكنهما بطرانان في عالمنا العربي وفي العراق طوال عقود، وارجو ان ينتهي اعتبارهما بطرانين بالنسبة للدولة في العراق وللفكر السياسي فيه.
السبب لاعتبارهما بطرانين هو الثقافة. ثقافة الحكم، وثقافة رجال السياسة، وثقافة الاحزاب، وثقافة النخب السياسية والثقافية نفسها، تلك النخب المتخلفة التي تتحدث بالسيف والمسدس والقوة والتحدي، وهذا(زلمة) لانه يريد ان يكسر راس الاخر، حتى اني اخشى ان تكون وزارة الثقافة العراقية التي اتمنى الغاءها واغلاق ابوابها ونقل موظفيها إلى وزارت الدولة الاخرى، قد اعتمدت في نشر ثقافتها المتخلفة على معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، اشهر غداري العرب المعروفين بفتاك العرب الذين لايرعون ذمة ولا امانا، التي يقول فيها
اذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
وهي معلقة نشرتها جريدة حزب وزارة الثقافة العراقية الحالية في صفحتها الثقافية كاملة قبل الحرب بشهرين باعتبارها تعبيرا عن امجاد العرب ضد امريكا التي تريد ان تشن الحرب على صدام ونظامه بالسيوف والخيول والرماح والرجز الامريكي الذي لايستطيع مقاومة الرجز العربي ولا معلقة عمرو بن كلثوم ولا قصيدة السيف التي رد بها فارس الامة على اول ضربة صاروخية على بغداد.
معلقة عمرو بن كلثوم انتقدت قبل أكثر من الف عام من قبل شاعر عربي وبالطبع لم يسمع وزير الثقافة الحالي ذلك النقد فظل مؤمنا باطروحة( اذا بلغ الفطام)،رغم ان الصبي يبلغ الفطام عن الحليب وليس عن العلف الذي يشكل كل كفاءة وخبرة وزارة الثقافة. ولكني اهدي له هذا البيت لكي ينسى الفطام ويبلغ الحلم. فالشاعر قال:
الهت بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
وشعرت تغلب بالخيبة اذا اعتبرت مكرمتها الوحيدة قصيدة غير واقعية وغير صادقة، رغم انها معلقة، فقد ظلت تغلب تمضغ قصيدة عمرو حتى نسيت ان تضيف شيئا لتراث العرب وحضارتهم.
لم اشعر بان الثقافة العراقية اهينت مثلما شعرت اليوم.فقد كانت انظمة الاستبداد تاتي بعسكري من الجيش او الشرطة ليؤدب المثقفين ويلجم افكارهم ويقمع الثقافة ويصادر حريتها ويطبعها بطابع التخلف الذي تتصف به انظمة الحكم الدكتاتورية، فكيف تسرب وزير الثقافة إلى نظام ديمقراطي ومن يتحمل المسؤولية وابتزازنا به، وارجو ان لايطالبنا احد بالسكوت او يقول قد تجاوزنا الحد والخط الاحمر او الاخضر او الاسود او الابيض لاننا نريد ان نتجاوز الخطوط حتى لاتوضع الجزمة العسكرية على رقبة الثقافة و رقبة الصحافة ورقبة الفكر ورقبة المعرفة ورقبة العراق.
انها الثقافة التي جعلت مدن العراق بلا مواصلات والبيوت بلا تلفونات والارض بلا شجر ولا خضرة والشعب بلا حرية والسوق بيد عصابة او مافيا والعلم بيد المخابرات والفكر بيد الامن والناس تساق إلى السجون والمقابر الجماعية بدل ان تذهب إلى المتنزهات والحدائق ولايلومنني احد، فاما عراق او لاشئ وابوكم الله يرحمه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف