المجتمعات العربية والشيزوفيرينيا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الشيزوفرينيا schizophrenia، كلمة يونانية الأصل وتعني انفصام الشخصية الذي هو مرض عقلي يشكل نسبة عالية من مرضى الأمراض العقلية أو النفسية. ولكن هذا المصطلح صار يستخدم في علم الاجتماع أيضاً لوصف مجتمعات مصابة بشكل واسع بالازدواجية في السلوك والمعايير. وفي الحقيقة لو دققنا في هذا المرض، في حالتيه، الطبية والاجتماعية، لوجدنا تطابقاً وتشابهاً في الأعراض. والفرق بينهما، أن في الحالة الطبية Psychiatric case يصاب بها الفرد ويعالج من قبل طبيب الأمراض العقلية Psychiatrist بالأدوية والصدمات الكهربائية ECT والشفاء منه سريع ومضمون نسبياً. بينما النوع الثاني، أي المعنى الاجتماعي وما يسمى بازدواجية الشخصية والسلوك، فيصيب قطاع واسع من المجتمع نتيجة التناقضات الحادة في الموروث الاجتماعي (culture) وهو أكثر تعقيداً وخطورة من الحالة الأولى، لأن العلاج هنا يحتاج إلى تضافر جهود في مختلف المجالات: السياسية والثقافية والتعليمية والإعلامية ...الخ كما ويستغرق عدة أجيال للحصول على نتائج مرضية وخلاص المجتمع من آثاره المدمرة.
وكان عالم الاجتماع العراقي العلامة علي الوردي أول من وصف الشعب العراقي بإصابته بهذا المرض الاجتماعي العضال وسماه بمرض(ازدواج الشخصية أو الشخصية المزدوجة). ونظريته تتلخص في كون الإنسان العراقي يعاني من الصراع في ثقافته الموروثة وتكوين شخصيته، وسلوكه اليومي، بين البداوة والحضارة، أي الصراع بين القيم البدوية الموروثة والقيم الحضارية المكتسبة في المجتمع العراقي، كما يقول: أن "العراق ثمرة اللقاء بين البداوة والحضارة، وهو لقاء دموي، لكنه لا بدَّ منه في نهاية المطاف". فمعظم عرب العراق ينتسبون إلى عشائر وقبائل بدوية نزحت إليه من صحراء الجزيرة العربية. وبعد استقرارها في العراق اكتسبت المدنية، إلا إن القيم البدوية ظلت راسخة ومتأصلة فيهم وصار من الصعوبة التخلص منها في جيل أو جيلين. لذلك فالفرد العراقي هو مزدوج الشخصية، بدوي ومتحضر في آن. ويضرب الوردي مثلاً على ذلك بالشاب العراقي الذي يريد أن يتزوج على طريقة الشاب الغربي المتحضر، بأن يقوم هو باختيار الفتاة التي يريد الزواج منها ويتبادل معها الحب ورسائل الغرام إلى أن يقتنع بها فيتزوجها، تماماً على طريقة توني كيرتس!! ولكن إذا ما سمع بأن شخصاً آخر يقيم مثل هذه العلاقة الغرامية مع أخته أو بنت عمه، فسرعان ما يتحول صاحبنا إلى حاج عليوي (البدوي)، ويقتل أخته وعشيقها عملاًً بقول الشاعر العربي:
لا يسلم الشريف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم.
ومرض ازدواجية الشخصية ليس متوقفاً على قطاعات معينة في المجتمع العربي، بل يشمل الحكومات والأحزاب وبالأخص الأحزاب الإسلامية، ومؤسسات المجتمع المدني. لأن أعضاء هذه المؤسسات هم من هذه المجتمعات المصابة بالشخصية الانفصامية. ومن المؤسف القول، أن استغل بعض الأخوة العرب النظرية الوردية (نسبة إلى علي الوردي) فاتخذوها ذريعة للطعن بالعراقيين. ولكن المرحوم الوردي رد عليهم قائلاً، أن نظريته لا تنطبق على العراقيين فحسب، بل تشمل الشعوب العربية وكل شعب منحدر من البداوة، والاختلاف إن وجد، فبالدرجة فقط.
الأعراض المشتركة
هناك أعراض مشتركة في هذا المرض بحالتيه، الطبية والاجتماعية، أهمها إصابة المريض بالأوهام Delusions فيعتقد المريض بأفكار زائفة رغم عدم صحتها ودون وجود أي دليل مادي أو منطقي للأخذ بها فعلى سبيل المثال نذكر منها ما يلي:
أوهام العظمة Delusions of grandeur إذ يصاب المريض بجنون العظمة ويعتقد أنه فريد من نوعه والناس يجب عليهم أن يعاملوه معاملة العظماء. كذلك العرب يعتقدون أنهم أعظم من غيرهم في كل شيء. فهم خير أمة أخرجت للناس، وينظرون باحتقار إلى القوميات الأخرى. أما موقفهم من الأديان، فلا يعترفون بأي دين ولا يقبلون بالتعايش السلمي مع الأديان الأخرى، فدينهم هو الدين الوحيد الذي يجب على البشرية اعتناقه وإلا فهم من الكافرين. بمعنى أن جميع الأديان الأخرى هي وثنية وكافرة ومزيفة، يجب على أصحابها التخلي عنها واعتناق دين العرب، الإسلام وحده، وإلا فمن حق المسلمين شن حروب على الكفار وإرغامهم على اعتناق الإسلام أو قتل رجالهم وسبي نسائهم وبيع أطفالهم في أسواق النخاسة كعبيد، وسلب ممتلكاتهم كغنائم للمسلمين. وعلى سبيل المثال، أذكر رابطاً في نهاية هذا المقال، وصلني اليوم من صديق، لخطاب أرتجله معمر القذافي في مالي، يؤكد فيه هذا الموقف العربي من الأديان الأخرى. وهذا المعتقد لا يتوقف عند النظرة الإزدرائية للديانات الأخرى فحسب، بل يتعداها ليشمل المذاهب الأخرى أيضاً ضمن الإسلام نفسه. فأتباع كل مذهب إسلامي ينظر بازدراء وعداء شديد إلى المذاهب الإسلامية الأخرى، فالسلفيون الوهابيون مثلاً، يعتقدون أن الشيعة روافض وقتلهم واجب يكافأ عليه القاتل بالجنة. وهذا ما يطبقه "المجاهدون" المسلمون في العراق وفي باكستان وغيرهما.
الشعور بالاضطهاد
يعاني المريض من الشعور بالاضطهاد من قبل الآخرين، ويعتقد أن الناس يتآمرون عليه للنيل منه والقضاء عليه دون أن يكون لديه أي حجة أو دليل لإثبات صحة ما يعتقد به. وهذا بالضبط ما يشعر به العرب المولعون بنظرية المؤامرة، فكلما أصابتهم مصيبة قالوا أنها نتيجة المؤامرات الغربية "الصليبية والصهيونية الحاقدة"، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير العقلاني rational thinking لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أدت بهم إلى الهزائم والعواقب الوخيمة. فالعرب دائماً يعلقون غسيلهم على شماعة الغرب وبالأخص أمريكا وحتى في تخلفهم في الركب الحضاري.
الريبة والتصورات الخاطئة
يتصور المصاب بالشيزوفرينا أن الناس لا عمل لهم سوى الحديث عنه والنميمة ضده والتآمر عليه فهو في حالة شك وريبة شديدة دائمة من الناس وحتى من أقرب الناس إليه مثل زوجته، حيث يعتقد أنها تخونه. وأن العالم كله يتآمر عليه، فيرتكب الجرائم بحق زوجته وبحق الناس نتيجة لهذه الشكوك. كذلك نجد هذه الحالة متفشية بين العرب على صيغة (نظرية المؤامرة) كما بينا أعلاه.
وحتى ما يجري من أحاديث عبر التلفزة وغيرها من وسائل الإعلام، يتصور المريض أنها موجهة ضده شخصياً. وهذا بالضبط ما نلمسه في المجتمعات العربية ضد الأفكار والكتب الأجنبية. فليس هناك حصار على الكتب والأفكار الأجنبية في أي مجتمع مثل المجتمعات العربية. فالمطارات والموانئ العربية مشهورة بمصادرة الكتب من المسافرين، والعرب أقل الشعوب ترجمة للكتب الأجنبية، وأشد عداوة للمعارف الأجنبية إذ يطلقون عليها اسماً دونياً وهو (العلوم الدخيلة أو الأفكار المستوردة). كما ليس هناك شعب مولع بحرق الكتب واضطهاد المفكرين مثل العرب.
وهم الإصابة بأمراض جسمية Somatic Delusion
يتصور المريض تصورات غريبة غير عقلانية مثلاً بأن أجساماً غريبة تتنقل في جسمه دون أن يكون هناك إثبات مادي لهذه التصورات. كذلك المجتمعات والحكومات العربية مصابة بداء التجسس عليهم من قبل عملاء الدول الأجنبية. لذا نرى السجون العربية مكتظة بسجناء الرأي والسياسيين المعارضين بتهمة التجسس للأجنبي. فالمعارضة السياسية والمثقفين الليبراليين في نظر الحكومات والمجتمعات العربية هم خونة وعملاء للمخابرات الأجنبية تصدر بحقهم أحكام الإعدام ويذابون في أحواض الأسيد، أو يزج بهم في غياهب السجون في أحسن الأحوال، والمحظوظ منهم ينجو بجلده فيفر إلى المنافي.
عدم التماسك في الكلام Disorganized speech
كلام المصاب هو عبارة هذيان لا تماسك بين مكوناته، ولا يوجد أي رابط بين جملة وأخرى ولا يستطيع السامع أو القارئ لكتاباته فهم ما يريد أن يعبر عنه. وهذا ما نلمسه في المجتمعات العربية أيضاً، وحتى من البعض الذين يطرحون أنفسهم كمثقفين وكتاب، فتقرأ لهم وتواصل القراءة عسى أن تصل إلى نتيجة لتعرف ماذا يريد أن يقوله الكاتب ولكن دون جدوى، إلى أن تصل النهاية وأنت مصاب بالإحباط لعدم تمكنك من معرفة ما يريد أن يقوله لك هذا الكاتب المحترم. وإذا اعترضت عليهم، قالوا لك أن العيب ليس في الكاتب وإنما في القاري لأنه سطحي وثقافته ناقصة لا يفهم أفكار العظماء من الكتاب والمفكرين من أمثاله!! وهكذا سمعنا عبارة (المعنى في قلب الشاعر) والتي تحولت إلى (المعنى في بطن الشاعر). وهذا التعبير تجاوز الشعر الغامض إلى أن شمل الكتابات النثرية للبعض من الكتاب العرب.
سلوك عشوائي غير منتظم
وهذا السلوك نلمسه في كثير من الأعمال الوحشية التي تتناقض مع سلوك الإنسان الطبيعي الحضاري، مثل عمليات النهب (الفرهود) والقتل العشوائي التي تعرض لها الشعب العراقي بعد سقوط البعث ومازال يمارسه قطاع واسع من أبناء العراق والوافدين من الإرهابيين العرب.
أعراض سلبية
مثل فقدان العاطفة والمشاعر الإنسانية، كذلك نلمس هذه الظاهرة متفشية في المجتمعات العربية. فهذا الإرهاب الهمجي وذبح الأبرياء أمام الكامرات التلفزيونية وبدم بارد لدليل قاطع على إصابة المجتمع العربي بهذا الداء الخطير. والجدير بالذكر أن رجل الدين المعروف الشيخ يوسف القرضاوي نصح بعدم عرض عمليات ذبح البشر على شاشات التلفزة. وهذا يعني أنه يؤيدها ولكن ينصح بعدم عرضها بهذه الصورة، لأنها تجلب سمعة سيئة على الإسلام والمسلمين. وهذا الموقف يجعل من القرضاوي رجل دين معتدل في نظر البعض!!!!!!!
عدم قدرة المريض على التمتع بفعاليات كان يتمتع بها سابقاً
وهذه الحالة أيضاً تنطبق على المجتمع العربي في الوقت الحاضر. فتاريخ العرب حافل بالنشاطات الفكرية والاجتهاد في عهد الخلافة الراشدية والأموية و العباسية في إيجاد الحلول العقلانية للمشاكل المستجدة. ولكن حصلت القطيعة في هذا المجال قبل مئات السنين عندما غلق باب الاجتهاد وتعطيل العقل والاعتماد الكلي على ما قاله السلف الصالح قبل أكثر من 14 قرناً حتى وإن لم تتناسب هذه الحلول مع مشاكل اليوم. فعلى سبيل المثال لا الحصر وفي آخر تقليعة، أصدر السيد مقتدى الصدر، فتوى بتحريم لعبة كرة القدم لأنها لم تكن موجودة في التراث الإسلامي، مدعياً بأن اليهود هم الذين أدخلوا هذه اللعبة في بلاد المسلمين لإلهاء الشباب المسلم بالأمور التافهة ومنعهم من صرف وقتهم في العبادة وأخذ العلوم. (رابط لقطة الفيديو في نهاية المقال).
فقدان النشاط والطاقة
فترى المريض بالشيزوفرينيا يقضي معظم وقته دون أن يعمل أي شيء، أو نائماً. كذلك تجد صفات الكسل والخمول وكثرة النوم ونزعة الإتكالية وضعف الإنتاجية متفشية في البلاد العربية. ففي دراسة نشرت قبل سنوات تفيد أن إنتاجية العامل الغربي تعادل خمسة أضعاف إنتاجية العامل العربي، أي أن العامل الغربي يعادل خمسة عمال عرب.
عدم الاهتمام بالحياة
وهذه النزعة معروفة في المجتمع العربي، وكما عبر عنها بن لادن في خطابه للغرب "أنكم تحبون الحياة ونحن نعشق الموت". وهذا جزء لا يتجزأ من التراث العربي المحاط بالتمجيد. لذلك نرى خطباء المساجد يمجدون الموت للشباب ويكرهون لهم الحياة ويحثونهم على العمليات الإرهابية "الجهادية" إلى حد أنهم راحوا صراحة يدعون إلى الإرهاب، مستشهدين بالآية " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" الانفال : 60. كذلك قال الشيخ حسن الترابي مرة في تبريره للإرهاب وحث الشباب المسلم عليه بالقول: " وهل هناك أكثر قربى إلى الله من إرهاب أعدائه؟"
ضعف المهارات والخبرات:
هذه الصفات أيضاً منتشرة في المجتمع العربي، فمجتمع يفتقر إلى المهارات والخبرات إذ تشكل الأمية فيه حوالي 50% في الذكور و60% في الإناث. شعوب قال عنها جبران خليل جبران: "ويل لأمة تلبس ما لا تنسج، وتأكل ما لا تزرع، وتشرب ما لا تعصر.." فلنتصور لو حصلت مقاطعة مع الغرب "الكافر" مذا سيحصل في البلاد العربية وماذا يكون مصيرها؟ وكلنا نعرف ما حصل للشعب العراقي خلال فترة الحصار في العهد البائد.
العزلة عن العالم
يفضل مريض الشيزوفرينيا العزلة التامة عن العالم، إذ يقضي معظم وقته وحده معزولاً عن الآخرين وعدم الرغبة في التفاعل مع الأصدقاء والأقارب وعدم القدرة على إقامة صداقات وعلاقات سليمة مع الغير أو الإبقاء على صداقات سابقة، ولا يهتم بأن لا صديق له. هذه الأعراض كلها متفشية في المجتمع العربي أيضاً وهي نتيجة التربية الخاطئة منذ الصغر. ففي معظم الكتب المدرسية لتعليم الأطفال والتلاميذ هناك توجه عام لتعليم النشء على كراهية الغير ومعاداته وعدم الاختلاط بغير المسلمين. بل وحتى عدم المبادرة بتحية غير المسلم، وإذا ما بادر غير المسلم بالتحية فيجب ردها بأنفة وتكبر. وإذا ما صافحك غير المسلم عليك أن تغسل يدك فيما بعد!! وهذه التعاليم تصدر حتى من قبل رجال الدين المعتدلين ومن جميع المذاهب، فما بالك بالمتشددين؟ كذلك تدفع الثقافة العربية إلى العزلة عن العالم. فقد تم تقسيم العالم إلى (فسطاط كفر وفسطاط إيمان) وفي حالة حرب إلى أن ترتفع راية الإسلام على كل بقعة في المعمورة. ويقول شيخ الإسلام بن تيمية في الحث على كراهية غير المسلم: "إذا أَقَمتَ في دار الكفر للتّطبّب أو التّعلّم أو التّجارة، فأقم بينهم وأنت تضمر العداوة لهم". فإن لم تكن هذه أعراض انفصام في شخصية المجتمع العربي، ليت شعري ما هو الانفصام؟
نكران المرض
ينكر المصاب بالشيزوفرينيا أنه مريض، إذ يعتقد أنه سليم جداً من أي مرض، ويعادي كل من يريد علاجه ومصلحته. كذلك العرب لا يعتقدون أنهم مصابون بالازدواجية في السلوك والمعايير وأنهم متخلفون ويحتاجون إلى علاج سريع للتخلص من هذا التخلف والكوارث. وكل من يحاول إثارة انتباههم إلى تخلفهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة يتهمونه بالشعوبية والخيانة والعمالة للأجنبي، وخاصة العمالة للإمبريالية والصليبية والصهيونية. ولذلك هناك اضطهاد مزمن في البلاد العربية للمثقفين في جميع العهود خلال القرون الماضية والذي استفحل في الوقت الحاضر، حيث تم ذبح وحرق الكثير من الحكماء الذين نادوا بالإصلاح ومنعوا كتبهم. أما في عصرنا الرهن، فقد عانى المثقفون وبالأخص الليبراليون منهم أشد المعاناة من تعسف الحكومات والمجتمعات العربية وبالأخص من الحركات الدينية السلفية. وشعارهم (من يواجهنا بالقلم نواجهه بالرصاص). فقائمة شهداء الفكر طويلة، ففي الجزائر وحدها قتل الإسلاميون أكثر من 120 صحفياً وكاتباً وفناناً. لذا اضطر معظم الكتاب الليبراليين العرب، إما اللجوء إلى الصمت إيثاراً للسلامة، أو زج بهم في السجون من قبل الحكومات المستبدة، أو الفرار إلى المنافي لمواصلة نضالهم في علاج تخلف مجتمعاتهم من منافيهم البعيدة.
التحجر الفكري(Concrete thinking)
يعتقد المريض اعتقاداً جازماً بصحة أفكاره إلى حد التحجر، ولا يمكن أن يتطرق إليه الشك ولا يتزعزع عنها قيد شعرة رغم أن معظمها خاطئة. كذلك نرى هذا الحالة متفشية في المجتمع العربي الذي يعتقد بأن ثقافته وأفكاره الموروثة هي وحدها الصحيحة بصورة مطلقة وتعمل على تصفية المختلف. يقول الفيلسوف الألماني نيتشه بهذا الخصوص: " ليس الشك، وانما اليقين، هو الذي يقتل!"
ومن خصوصية هذا التحجر عدم قدرة المريض على فهم الأفكار المجردة وفق سياقها ويفسر الأشياء حرفياً. فمثلاً عندما تسأله ما المقصود من المثل: "كله عند العرب صابون" فيجيبك بأن الصابون هو صابون ولا تقصد شيئاً آخر، ولا يستطيع أن يستخلص المغزى، أي يفسر المثل بشكله الحرفي. بينما يذكر هذا القول عندما نقصد أن بعض الناس لا يفرقون بين حالة وأخرى حتى ولو كان هناك اختلاف كبير في الأهداف والنتائج والغايات.
وهذا ما نراه في المجتمع العربي وعدم قدرته على التمييز بين حالة وحالة. فالاحتلال الأجنبي لأي بلد هو بغيض، ولكن هناك حالات استثنائية يكون الاحتلال ضرورياً لأنه في صالح البلد المحتل، كما هي الحال في العراق وكما حصل في أوربا في الحرب العالمية الثانية. إلا إن المجتمع العربي يفسر تحرير العراق من أبشع نظام فاشي بأنه استعمار يريد نهب خيراته وقتل شعبه ولا يختلف عن أي احتلال آخر لذا يجب محاربته أي "كله عند العرب صابون!!". ليس هذا فحسب، بل هناك عداء مستفحل ضد الأجانب xenophobia حيث تم قتل ما لا يقل عن 350 من المقاولين الأجانب الذين جاءوا للمشاركة في إعمار العراق. بينما الدول الأخرى ترحب بمساعدات واستثمارات الأجانب في بلدانها، كما هي الحال في دول شرق آسيا.
ليس تعميماً
قد يعترض البعض فيقول لماذا أعمم سلوكية فرد أو أفراد أو جماعات على شعوب بكاملها؟ لماذا اسحب تصرفات الزرقاوي وبن لادن والظواهري على كل العرب؟ لماذا أعمم أخطاء رجل دين واحد على كل رجال الدين؟ لماذا أحمل شعوباً أخطاء بعض الشاذين من أبنائها؟... إلى آخره من الاعتراضات التي أتوقع أن تنهال عليّ بعد نشر هذه المقالة.
في الحقيقة، إن ما حصل في الجزائر وما يجري في العراق ومناطق أخرى في البلاد العربية ليس نتيجة تصرفات فردية شاذة، بل هي عامة وهي نتيجة ثقافة تؤدي بالضرورة إلى هذه الحالة. لقد تفشت عمليات الذبح الوحشي الجماعي في الجزائر وراح ضحيتها ربع مليون إنسان وتم ذبح طالبات في المدارس الابتدائية لأنهن كن بلا حجاب. وصارت عمليات الذبح في العراق على أيدي "المجاهدين" سمة عامة تتلقى الترحيب من المجتمعات العربية. وغني عن القول أن الزرقاوي وبن لادن والظواهري لم يستطيعوا ارتكاب كل هذه الفظائع ما لم يكن هناك سند شعبي واسع وتجنيد مستمر ودعم فكري ثقافي في التراث والتربية لهم. فقد بينت استطلاعات رأي في عدد من البلدان العربية، أن غالبية هذه الشعوب تؤيد منظمة القاعدة الإرهابية، وبن لادن بالذات يتمتع بشعبية واسعة وخاصة في البلدان الخليجية. كما وشاهدنا على شاشات التلفزة كيف رحب السكان في مدينة أردنية بقيام أحد أبنائها بتفجير نفسه في مدينة الحلة العراقية قبل عامين وقتل نحو 120 عراقياًً، فأقام أهله حفلة أفراح يتبادلون فيها التهاني بدلاً من التعازي. وراحت هذه "الحفلات" تتكرر في معظم البلدان العربية عندما يصل نبأ مقتل أحد أبنائها بعملية "استشهادية" في قتل الكفار أو "الروافض" في العراق. كذلك جاء في الأنباء أن سكان مدينة الزرقة الأردنية يتفاخرون بابن مدينتهم أبو مصعب الزرقاوي لقيامه بعمليات الذبح في العراق، إذ بعمله هذا رفع اسم مدينتهم عالياً كما يعتقدون. لذلك فهذه ليست حالة فردية، بل مرض عضال ووباء شامل منتشر في المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج، وإن لم تتضافر الجهود لمعالجته فإن كوارث مدمرة وشاملة ستحل بهذه الشعوب عما قريب.
العلاج:
وبناءً على ما تقدم، فإني اعتقد أن المجتمعات العربية، حكومات وأحزاباً، وبالأخص الأحزاب الإسلاموية، مصابة بمرض الازدواجية في المعايير والمواقف والسلوك، تحتاج إلى علاج سريع إذا ما أريد لها الشفاء والتخلص من التخلف والعيش بسلام مع المجتمع الدولي واللحاق بالركب الحضاري، وإلا ستنهار هذه الشعوب كما انهارت واندثرت حضارات وانقرضت شعوب في مراحل مختلفة من التاريخ. ففي عصر العولمة وعملية التقارب بين الشعوب، لا مكان فيه لمن يعمل على هدم المعبد على رأسه (عليَّ وعلى أعدائي يا رب) من أجل تدمير العالم. طبعاً من الصعوبة بمكان تغيير اتجاه شعوب بكاملها بين عشية وضحاها، خاصة إذا كانت الحكومات هي حجر عثرة أمام الإصلاح، فالعملية شاقة وتستغرق وقتاً، ولكن هذا لا يمنع البدء من الآن، فخير البر عاجله للتقليل من الدمار الجاري، وإلا فالآتي أعظم. فالكرة في ملعب الحكومات العربية نفسها، وعليها أن تعي أسباب تخلفها وتخلف شعوبها. مشكلة هذه الحكومات أنها رفضت ومازالت ترفض التطور السلمي التدريجي الذي تفرضه سنة الحياة وقوانين حركة التاريخ وفق مساره التقدمي. فالديمقراطية هي سمة العصر، وإذا لم تبدأ الحكومات العربية بقيادة شعوبها تدريجياً نحو الديمقراطية، فإن التاريخ سيحققها بطريقته العنيفة كما يجري في العراق. والقضية أشبه بمواجهة مشكلة الإنفجار السكاني في العالم الثالث. ففي البلدان المتحضرة أوقفوا هذا الانفجار بإجراءات طبية لتحديد النسل وتنظيم الأسرة family planning أما في العالم الثالث حيث ترفض الشعوب والحكومات هذا الأسلوب الحضاري، فتتدخل الطبيعة نفسها في فرض تحديد النسل بطريقتها القاسية وذلك عن طريق الحروب والمجاعات وانتشار الأمراض والأوبئة مثل مرض الأيدز وغيره، كما الحال في الدول الأفريقية الآن. كذلك مسألة التحولات الاجتماعية والسياسية لتحقيق الديمقراطية، فإذا لم تقم الحكومات العربية بها تدريجياً، فإن التاريخ سيحقق مساره ولكن بطريقة دموية وهزات عنيفة كما يجري الآن في العراق وأفغانستان. يجب على من يهمهم الأمر أن يعلموا أن الشعوب الغربية مرت قبل أكثر من مائتي عام بنفس الظروف التي تمر بها شعوبنا الآن، ولم تتخلص من مشاكلها وتصل إلى هذا المستوى الراقي في الحضارة والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتكنولوجي إلا بعد أن تم تحرير العقل من الخرافات والدجل وفصل الدين عن الدولة وقيام أنظمة علمانية ديمقراطية ليبرالية وإطلاق حرية التعبير والتفكير للمفكرين. وبإمكان العاقل الاستفادة من تجارب وخبرات الآخرين لاختزال الوقت وتجنب المزيد من الكوارث. وبدون البدء بهذه السياسة الإصلاحية فإن الشعوب العربية تنتظرها كوارث شاملة. يجب على العرب عدم رفض المساعدات الغربية وبالأخص الأمريكية في التغيير. فكما قال جان بيار شوفينمان للبرلمانيين الفرنسيين: "لن تغسل الشعوب العربية إذلالها الذي عمره قرنان إلا إذا تداركت تأخرها، ولن تتدارك تأخرها إلا إذا ساعدها الغرب بقوة على ذلك".