حروب حسن باشا ضد عرب العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
دراسات في تاريخ بلاد الرافدين (الحلقة 6)
لقراءة الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة / الرابعة / الخامسة /
منذ الأيام الأولى من وروده بغداد باشر حسن باشا بالعمل وشرع بالخروج والتجول في مختلف أنحاء العراق بحجة الصيد والنزهة أو بحجة زيارة الأماكن المقدسة وكان هدفه الحقيقي الاستطلاع العسكري وجمع المعلومات على الطبيعة عن مختلف القبائل العراقية التي باتت تحالفاتها القبلية وكياناتها المستقلة تهدد حكومة بغداد التي أشرفت على الانهيار. وكان من أهم تلك الكيانات والتحالفات سلطة المنتفك في جنوب العراق وسلطة قبائل الفرات الأوسط برئاسة الخزاعل وحلف قبائل دجلة برئاسة بني لام.
في السنة الأولى من حكمه، باشر حسن باشا بتنفيذ سياسته الرامية إلى سحق قوة تلك القبائل العراقية واستعادة سلطة حكومة بغداد على مناطق العراق الزراعية والرعوية التي كانت المصدر الأساسي لتمويل وإدامة الحكم ببغداد.
أول الحملات العسكرية
أول من هاجم حسن باشا من القبائل العراقية، الغرير والشهوان الذين كانوا يمارسون الحياة الرعوية ويتنقلون شرق دجلة بين كركوك والموصل. فقد جهز جيشاً قوياً لقتالهم بحجة أنهم يقطعون الطريق العام ويمارسون أعمال السلب والنهب. وحينما علمت تلك القبائل بخطة الوزير أرسلوا له وفداً من مائتي فارس محملين بالهدايا وقدموا له الطاعة، وأنكروا ما نسب إليهم، وتعهدوا له بحفظ الطريق العام. ولكن حسن باشا رفض كل ذلك إذ كان قد اتخذ قراره مسبقا بتدمير تلك القبائل ونهب ممتلكاتها.
سار الوزير نحو تلك القبائل وكانت قد تحصنت في غابات قرب نهر دجلة، وحشدت نحو ثلاثة آلاف فارس وأربعة آلاف راجل. ولكي يقطع عليهم طريق الانسحاب والفرار أرسل حسن باشا ثلاثة آلاف من فرسان "السباه" فكمنوا لهم وراء الغابة، وبعد أن أحكم عليهم الحصار شرعت المدافع بقصفهم بنيرانها الحامية مما اضطرهم للخروج ومواجهة جيش الوزير.
قاتل عرب الغرير والشهوان جيش الوزير قتالاً مستميتا ولكنهم لم يتمكنوا من الصمود أمام نيران المدافع الحامية، فأخذوا بالتراجع والهروب من ساحة المعركة، ولكنهم وقعوا في كماشة الكمين المنصوب لهم إذ تلقتهم نيران وسيوف السباه التي أبادت أكثرهم وأستسلم من تبقى منهم. بعد الانتهاء من تلك المعركة التي كانت بمثابة المذبحة، بدأ عسكر الوزير عمليات واسعة للسلب والنهب، استولى أثناءها على ما وجده العسكر في ديار القبيلة من أموال وحلال. وهكذا عاد حسن باشا إلى بغداد محملاً بالغنائم والأموال.(1)
كانت لعملية التنكيل بقبائل الغرير والشهوان ونهب أموالهم، أهمية خاصة للوزير الجديد حسن باشا وهو في عامه الأول في حكم بغداد، فلابد أنه كان يريد أن يثبت أنه حاكم من طراز جديد سيفرض على السكان طاعته وسيستخلص منهم بالقوة ما تحتاجه خزينته من أموال. ثم أن تلك الغارة العسكرية كانت أول فرصة له لتجربة قواته العسكرية ليرى مدى صلاحيتها للقتال تمهيداً للحملات العسكرية القادمة.
بعد أن حقق حسن باشا انتصاره على الغرير والشهوان التفت إلى الفرات الأوسط حيث سلطة عرب العراق برئاسة الخزاعل، الذين كانوا يديرون شؤون مناطقهم الزراعية الغنية بصورة مستقلة عن سلطة الوالي ببغداد، ذلك الوضع الذي حرم خزينة الوالي من أهم مصادر تمويلها وتسبب في جرها إلى حافة الإفلاس.
كان حسن باشا يدرك أهمية منطقة الفرات الأوسط الاقتصادية والعسكرية ويعلم أنه لا يستطيع أن يبسط نفوذه على باقي أنحاء العراق قبل القضاء على سلطة عرب العراق برئاسة الخزاعل والاستحواذ على ثروات تلك المناطق الزراعية، ناهيك عن العامل العسكري باعتبار أن القبائل العربية بالفرات الأوسط برئاسة الخزاعل كانت العقبة الكأداء التي ستحول دون تقدم جيوشه لإسقاط حكومة عرب العراق بالبصرة. حال الانتهاء من حرب عشائر الغرير والشهوان باشر الوزير باستطلاعاته العسكرية جنوبيَّ بغداد، فقام بزيارة مقام سلمان الفارسي جنوب شرقي بغداد (منطقة سلمان باك) وتجول هناك " للصيد".
وفي أوائل عام 1705م واصل الوزير استطلاعاته العسكرية فذهب لأداء مراسيم "الزيارة" إلى المراقد المقدسة بالنجف وكربلاء والكوفة، تلك "الزيارة" التي منحته الفرصة للاستطلاع في منطقة الفرات الأوسط تمهيداً لحملاته العسكرية القادمة. ولكن بعد استكمال تلك الجولات الاستطلاعية قرر حسن باشا إرجاء شن الحرب ضد قبائل الفرات الأوسط ربما لأنه أدرك مناعة تلك المناطق، واقتنع أنه لم يكن قادراً عسكرياً في تلك المرحلة على اقتحامها والقضاء على سلطة الخزاعل. ولذا قرر التحرك باتجاه أخر.
الحملة العسكرية ضد قبيلة بني لام
تنتسب هذه القبيلة إلى لام بن عمرو من سلالة طي بن كهلان ومنه إلى قحطان، وعليه فإن قبيلة بني لام تعد من القبائل الطائية القحطانية، والمعروف أن بني لام وردوا العراق من الجزيرة العربية وكانوا في بدايتهم يتنقلون كبدو رحل غرب الفرات بين البصرة والكوفة، وبعد مدة عبروا نهر الفرات وأخذوا يتنقلون في مراعي غرب دجلة ومن ثم تحولوا إلى الجانب الشرقي من النهر وأخذوا يتنقلون في المناطق الرعوية بين شواطئ دجلة الشرقية وسفوح جبال بشتكوه، وكان ذلك قبل تحول مجرى دجلة من مجراه القديم الذي كان يمر بمدينة واسط إلى مجراه الشرقي الجديد الذي قامت عليه مدينة العمارة.
في تلك العصور كان بنو لام يتبعون أمراء المنتفك ويعملون لهم في جمع الخراج، وهذا مؤشر مهم إلى مدى امتداد سلطة المنتفك في تلك الحقب التاريخية والتي كانت تشمل عشائر الجنوب بين الفرات ودجلة. ولكن بعد حين دخل بنو لام تحت نفوذ أمراء الحويزة وأخذوا يعملون لهم مما يشير إلى نمو سلطة السادة المشعشعين وامتدادها إلى تلك المناطق.
وفي حدود سنة 931هـ (1521م) عين أمير الحويزة المولى بركات الأول شيخ بني لام حافظ بن برّاك حاكماً على منطقة ما يسمّى بالجزيرة الواقعة شمال منطقة الحويزة ومنذ عهد الشيخ برّاك تمكن بنو لام بسط نفوذهم على القبائل المجاورة. ومن الجدير بالملاحظة أن تعاظم نفوذ بني لام في تلك المنطقة تزامن مع تحول مجرى دجلة نحو مجراه الشرقي الحالي الذي حدث في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وهذا مثل آخر يظهر لنا أهمية تحول مجاري الأنهار في حياة عرب العراق، لأن تحول دجلة إلى مجراه الشرقي حوّل قسماً كبيراً من أراضي بني لام الرعوية إلى مناطق زراعية، فكانت تلك البداية لاستقرار تلك العشائر والتحول من حالة البداوة إلى حالة الزراعة أي من حالة اللاّإنتاج إلى حالة الإنتاج الزراعي.
مع تلك التحولات الاقتصادية والاجتماعية زادت ثروات القبيلة الزراعية والحيوانية وكذلك زادت الأموال التي كانت تجبى من العشائر المتحالفة معهم والتي هي الأخرى كانت قد استفادت من تلك الظاهرة، وهذا مكّن بني لام من بسط نفوذهم على مناطق جديدة وتوسيع تحالفاتهم العشائرية. وبمرور الأيام وبعد فترة وجيزة نسبياً تمكن بنو لام من إقامة إمارة مستقلة عن نفوذ السادة المشعشعين أمراء الحويزة، وعن سلطة المنتفك.
في العهد العثماني خاض بنو لام معارك ناجحة ضد عشائر المنتفك وأزاحوهم من الجانب الشرقي من نهر دجلة. ثم خاضوا بعد ذلك معارك عنيفة ضد أمراء الحويزة السادة المشعشعين وانتصروا عليهم في معركة حاسمة أسروا فيها أمير المشعشعين نفسه بعد أن أبادوا قرابة عشرين ألف من مقاتليه، ولكنهم أطلقوا سراح "المولى المشعشع" بعد انتهاء المعركة وأعادوه بكل إجلال واحترام إلى عاصمته بالحويزة.
بعد حروبهم الناجحة ضد قبائل المنتفك وضد قبائل الحويزة أصبحت حدود إمارة بني لام تشمل مناطق دجلة من الكوت شمالاً وتمتد جنوباً لتشمل جميع مناطق العمارة بما فيها مناطق الأهوار التي كانت تتخللها مساحات شاسعة من المناطق الزراعية وبساتين النخيل. وكانت عشائر تلك المناطق التي دخلت تحت سيطرة بني لام تلتزم منهم تلك المناطق الزراعية والبساتين وتدفع لرؤسائهم بدلات التزام متّفق عليها.
استمرت سيطرة بني لام على تلك المناطق لعدة قرون، ولكن بعد ظهور ألبو محمد خرجت من سيطرتهم مناطق العمارة، فقد خاض ألبو محمد في عصور لاحقة معارك طاحنة ضد بني لام وتمكنوا من الاستقلال عن سلطتهم، وتكوين إمارة ألبو محمد في مناطق العمارة وذلك في حدود النصف الأول من القرن التاسع عشر (1841م).(2)
كانت المناطق التي يسيطر عليها بنو لام واسعة وصعبة الوصول، وتلك مزيّة عسكرية ساعدتهم على عدم الخضوع للعثمانيين منذ بداية احتلالهم للعراق. فقد خاضوا عبر العصور حروباً طاحنة ضد السلطات العثمانية مستفيدين من سعة أراضي الجزيرة التي تمتد إلى سفوح جبال بشتكوه داخل الحدود الإيرانية، ومن عمق ومنعة الأهوار التي كانوا يتحصنون بها أحياناً. ولذلك كان بنو لام يمتنعون طيلة تلك العهود عن دفع الرسوم إلى السلطات العثمانية، ويديرون شؤونهم بصورة مستقلة عن حكومة بغداد، وبين فترة وأخرى كان بنو لام والعشائر المتحالفة معهم يشنون الغارات على ولاية بغداد والبصرة ويقطعون طرق الملاحة النهرية في دجلة بين بغداد والبصرة ويحرضون قبائل المنتفك ويساهمون أحياناً معهم في شن الغارات على البصرة. أما من ناحية الشمال فقد كانوا يشنون الغارات على منطقة مندلي وديالى وأحياناً كانت تصل غاراتهم الأطراف الجنوبية لمدينة بغداد. وقد انتهى القرن السابع عشر وبنو لام هذا حالهم مع السلطات العثمانية حتى ورود حسن باشا بغداد في سنة 1704م.
حشد حسن باشا قواته العسكرية وتحرك جنوبا نحو ديار بني لام، ويبدو أنهم كانوا على علم بتحرك الوزير ضدهم بجيشه الجرار المزود بالمدافع الضخمة والأسلحة الفتاكة، فانسحبوا بأموالهم وممتلكاتهم وتواروا عن الأنظار، أرسل الوزير دوريات عديدة للبحث عنهم وحصل على معلومات تفيد بأنهم أخفوا نساءهم وأطفالهم في بعض مضائق جبال اللر الفيلية وتركوا البعض من مقاتليهم لحمايتهم، بينما كمن الباقون في ممرات الجبل. توجه الوزير إليهم بجيشه وما أن اقتربت منهم طلائع الجيش حتى ظهروا فجأة والتحموا معها في قتال شديد، ولكن تفوق نيران جيش الوزير اضطرتهم إلى الهروب والاحتماء بجبال اللر الفيلية. ولكن الوزير تتبعهم رغم كل الصعاب وقام بالاستيلاء على أموالهم وممتلكاتهم وعاد إلى بغداد محملاً بتلك الأموال المنهوبة(3).
وجد حسن باشا بعد الانتصار على بني لام، أن قواته العسكرية أصبحت جاهزة لمحاربة عرب الفرات الأوسط وكسر شوكتهم.
الحملة العسكرية ضد الخزاعل
في أواخر القرن السابع عشر قطع عرب العراق في منطقة الفرات الأوسط شوطاً طويلاً على طريق الاستقلال والتحرر من نير الحكم العثماني(4) خاصة بعد أن أقاموا برئاسة الخزاعل كياناً مستقلاً عن إدارة بغداد العثمانية التي استشرى بها الفساد وأنهكتها الصراعات العبثية التي كانت في واقع الأمر امتداداً لفساد الأوضاع وانهيار الإدارة في اسطنبول. في تلك الفترة أحكم الشيخ سلمان رئيس الخزاعل سيطرته على أكثر مناطق الفرات الأوسط الزراعية وأقام فيها سلطة إدارية وسياسية تذكرنا بدولة بني أسد العربية التي قامت في أواخر القرن الخامس الهجري في تلك المناطق. وكان الشيخ سلمان يدعو نفسه "أمير العرب". وينادي بالزحف على بغداد وطرد "الاروام" منها (أي العثمانيين)(5).
كان حسن باشا يدرك خطورة الوضع ويعلم أن مهمة سحق قوة قبائل الفرات الأوسط والسيطرة على تلك المناطق مهمة شاقة ولابد له أن يحقق الانتصار فيها وإلا فالنتائج ستكون وخيمة سياسياً واقتصادياً. استنفر الوزير كل إمكانياته العسكرية وزحف في سنة 1705م جنوباً نحو الخزاعل بجيش قوامه أربعون ألف فارس تسنده المدفعية وأسلحة أخرى.
أدرك الشيخ سلمان أن مقاتليه من رجال العشائر المزودين بأسلحة خفيفة وبدائية لا يمكنهم القتال في معركة مكشوفة ضد جيش نظامي كبير مزود بالمدافع. فقرر عدم الانجرار إلى معركة خاسرة، بل الانسحاب والتواري ريثما يزول الخطر. وهذا تكتيك طالما استعملته القبائل العراقية عند تعرضها إلى حملة عسكرية ساحقة.
تقدم الوزير في زحفه جنوباً وفي تلك الأثناء وصلته أخبار تشير إلى انسحاب المقاتلين الخزاعل جنوباً نحو السماوة، فدخل بجيشه إلى الحسكة وبقية مناطق الخزاعل بدون مقاومة، وبعد أن أحكم سيطرته على جميع المناطق، كتب إلى القبائل التي نزحت من المنطقة يدعوها للعودة إلى ديارها بشرط أن تنقض تحالفها مع الخزاعل وتتعهد بدفع ما عليها من رسوم وضرائب.
يبدو أن الشيخ سلمان حاول الدخول في مفاوضات مع الوزير للوصول إلى حلول وسط يمكن أن ترضي الطرفين، فأرسل ابنه إلى الوزير لطلب الأمان والتفاوض، ولكن الوزير رفض ذلك وهو في موقع القوة، مما اضطر الشيخ سلمان أن يواصل السير جنوباً إلى البصرة والالتجاء إلى الأمير مغامس بن مانع بن شبيب رئيس حكومة المنتفك الذي أجاره حسب العادات العربية.
مرة أخرى عاد الوزير إلى بغداد منتصراً ومحملاً بالأموال والحاصلات الزراعية التي استحوذ عليها بالقوة العسكرية من تلك المنطقة الغنية.
هوامش
(1) عباس العزاوي - تاريخ العراق بين احتلالين ، ج5، ص162
(2) تاريخ ميسان وعشائر العمارة - جبار عبد الله الجويبراوي ص88-ص99)
(3) عباس العزاوي - تاريخ العراق بين احتلالين، ج5ص162
(4) عبد الأمير الرفيعي - العراق بين سقوط الدولة العباسية وسقوط الدولة العثمانية،
ج 2ص 265
(5) كان العرب في العراق يطلقون على الحكام العثمانيين وعساكرهم أسم "الروم" وعلى أقاليم الترك في آسيا الصغرى (تركيا حالياً) أسم بلاد الروم.
عبد الأمير عبد الوهاب الرفيعي
Email: kutub_alrufaiy@yahoo.com
http://www.geocities.com/kutub_alrufaiy/kutub-alrufaiy-main.html