كتَّاب إيلاف

لا زال الطريق طويلا إلى ابن رشد، ما بالك بأركون!!!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"العلمانية". نضعها هنا ـ بين قوسن ـ. وسبب وضعها بين قوسين لا يعود إلى كونها اصطلاحا دخيلا، على الواقع التاريخي للثقافة العربية ـ الإسلامية، فقط. إنما لأن المعنى الذي تُرجم به اصطلاحها إلى العربية، كان مُشوَّشاً ومشوِّشاً، في الوقت نفسه. ليس، فقط، لأن الترجمة خاطئة، وهي كذلك. إنما لأن لا علاقة إبستيمولوجية بين البيئة الثقافية للمفهوم المنقول، والبيئة الثقافية للغة المنقول إليها. وهي هنا العربية، اللاهثة كآخر المتسابقين في ماراثون التاريخ. حيث استغرق المجمع اللغوي في ترجمة السندويش، إلى العربية، جلسة صاخبة، انتهت بتسميته:"شاطر ومشطور وبينهما طازج". وتلك ليست نكتة. لكنه لا يجعلنا نغفل الدور النهضوي الحضاري المذهل، الذي أداه المترجمون العرب، منذ الشيخ الطهطاوي إلى كمال أبي ديب. إلا أن مقام المقال هنا يتحدث عن تموضع مفهوم "العلمانية" المشوَّهة، خطابا وممارسة، في الواقع العربي السوسيوثقافي. وهو الأمر الذي جعل فكرة "العلمانية"، تؤخذ، نظرا وعملا، كجسم غريب ـ من الغرب ـ مزروع غصبا في واقع سوسيو ثقافي عربي يلفظه، منبتا ومزاجا!!
والنتيجة أنظمة عربية ـ إسلامية، تعرض نفسها في وجوه "علمانية" ممسوخة. ليس لتشوه خلقي، بالمعني التاريخي، في بنية "العلمانية" في بيئتها الأصلية. إنما لأن التشوه حدث بسبب المحتوى اللغوي ـ العربي ـ الذي تكفل بنقلها. وعممها مفهوما يتصل بالعلم وليس العالم = الدنيا. وفي ظني كان ذلك تشوها جزئيا يُمكن معالجته. لكن الانقلابات العسكرية والإيديولوجيات اليسارية، العربية، هي التي خلّقت الأنظمة السياسية برسم "العلمانية المشوهة"، في ما يسمى بعالمنا العربي. ومعروف نموذج المسخ "العلماني"، الذي لابسته الدولة التركية الاتاتوركية، التي حولت "العلمانية" إلى دين بديل للدين الإسلامي. في صورة "أصولية علمانية" دخلت في عداء، لا مبرر له، ضد ثقافة المجتمع التركي ومعتقداته ومشاعره الدينية. وجرى تصعيد "مقدسـ"ها إلى درجة تضخيم العلاقة الاشتراطية بين استحقاق الحداثة ونزع الحجاب، وربط التشبث به بالانغلاق والرجعية، وتحويله إلى ظاهرة "حجاب فوبيا" اجتماعية، بدلا من التعامل من منطلق الخيار الشخصي المشروع. والنتيجة ـ عسكية تماما ـ :تمسك المجتمع التركي أكثر فأكثر بثقافته الدينية، واقبل على نطاق جماهيري واسع على انتخاب خيار الإسلام السياسي. مما أدى إلى إيصاله إلى حكم تركيا العلمانية، باسم حزب العدالة الإسلامي، في صيغة عقلانية حداثانية، تأخذ الديموقراطية كآلية سياسية يكون الإسلام لها خلفية ثقافية، ومرجعية أخلاقية، من أجل صياغة معادلة مُحكمة، تستهدف إعادة تأصيل مفهوم الفصل ما بين وظيفة الدولة، وظيفة الدين. دون أن يفقد أي منهما ـ أعني الدين والدولة ـ سلطته الخاصة. ما دام الفصل قائم على أساس الفصل ما بين الوظيفة المدنية ـ الإدارية ـ(المعاملاتية ) للدولة، والوظيفة العبادية ـ الشرعية للدين.
هذا في التصور، أما في الواقع، فإن العالم العربي يكتظ بنماذج من "العلمانية" المشوهة، قائمة على حالها العتيق، كما هو حال الديكتاتورية البوليسية، في تونس، في عدائها الهستيري للحجاب، ومطاردتها للإسلاميين، والزج بهم في السجون. والنتيجة عكسية تماما:تزايد أنصار الإسلام السياسي، وعودة التونسيات إلى إرتداء الحجاب بطريقة ظاهرة ولافتة للنظر، بعدما كانت معظمهن سافرات في حقبة التسعينات. وهو تحد واضح لـ"العلمانية" البوليسية المتطرفة. وفي مصر، في الوقت الذي تُعتبر، فيه، جماعة الإخوان غير شرعية، نجدها تجلس على حوالي عشرين في المئة من مقاعد البرلمان. وبدلا من أن يعترف النظام السياسي الحاكم بحقائق الواقع، ويقر بحق تيارات الإسلام السياسي في تشكيل أحزاب سياسية على خلفية ثقافة إسلامية(نموذج حزب العدالة التركي)، وليس على أساس ديني، نجد النظام المصري يدخل في معركة بائسة، من نوع طرد المذيعات المحجبات من أعمالهن، أو منع الطالبات المحجبات من دخول الجامعة. بينما تسمح الدولة البريطانية، العلمانية الأصيلة، منذ قرون، للنساء المسلمات المنخرطات في سلك الشرطة بإرتداء الحجاب وعلى نفقة الدولة. أما في ليبيا، وكما هي ليبيا دائما منذ 37 سنة، يأتي منها دائما كل لا معقول، فإن "النظام الجماهيري" يخلط بشكل غرائبي بين الإدعاء بأن "القرآن شريعة المجتمع"، وممارساته الديكتاتورية في قمع الإسلاميين ووصفهم بالزنادقة، لأنهم يطالبون بالديموقراطية والحريات السياسية، ويرفضون تهجمات رأس النظام على لإسلام وإساءاته للنبي تكرارا. في المغرب، بفضل قوة المجتمع المدني، تتراجع دولة المخزن نحو الانقراض، وأمير مؤمنيها يتراجع شيئا فشيئا إلى دور الملكي الرمزي عنوان الوحدة الوطنية لمغرب الأمازيغ والعرب. وتزداد قوة حضور الإسلام السياسي في البرلمان مقابل القوى "العلمانية"، في مناخ ديموقراطي متماسك، قابل للتطور نحو مستقبل ديموقرطي سوي، يتم فيه حفظ التوازن الوظيفي العقلاني بين ما للجامع للجامع وما للدولة للدولة. وذلك يعني أن تخضع القصور الملكية وميزانياتها الشبحية للتدقيق والمسألة. أما في الجزائر، فقد استطاع بوتفليقة ـ الذي كنتُ قد راهنت على نجاح مهمته منذ ولايته الرئاسية الأولى، في مقالات نشرتها في صحيفة عربية لندنية ـ فإنه قد نجح في لملمة الجزائر الممزقة جزرا إيديولوجية، يتنازعها تياران أصوليان متطرفان:جنرالات "الأصولية العلمانية" الفرانكفونية الاستئصالية، وشيوخ "الأصولية الطالبانية" الدموية. واليوم، بعد ولايتين رئاستين في عهدته، نجد الجزائر تتشافي، بطريقة مطمئنة، ويتعاقد اجتماعه الأهلي على وئام سلمي، تنتعش فيه تعددية سياسية ديموقراطية، محكومة بمرجعية دستورية برلمانية، تنظم الاختلاف السلمي، احتكاما إلى صناديق الاقتراع، حيث تتنافس البرامج الحزبية المختلفة والمتابينة، بين إسلاميين وعلمانيين:وطنيين وقوميين ويساريين وفرانكفونيين.... فماذا نسمي دولة بهذه المواصفات؟!
بالنسبة لي هي دولة ديموقراطية لا صلة عضوية لها بمفهوم الدولة "العلمانية الغربية". إذا أن الدولة "العلمانية" بالمفهوم الغربي، تشبك بالضرورة الحريات الفردية الليبرالية، التي، إلى جانب إقرارها الحقوق الإنسانية المعترف بها دوليا، فإنها تطلق العنان للحريات الفردية، إلى مستوى حرية الإلحاد ونكران وجود الله، وحتى السخرية منه، ومن المسيح والكنيسة والبابا والقديسين. وتعترف بالمعاشرة والإنجاب خارج مؤسسة الزواج. وغير ذلك من الحريات الشخصية غير المتصورة في المخيال الإسلامي الاجتماعي. وهكذا فإن حمولة مفهوم "العلمانية" بمضمون حرياتها الليبرالية الواسعة، لا يستقيم تأصيله في واقع المجتمعات العربية ـ الإسلامية. وبالتالي لا معني عضوي تاريخي ـ سوسيوثقافي لمفهوم الدولة "العلمانية" في العالم العربي. وإذا أراد أحد ما أن يتصور دولة عربية علمانية بالمفهوم الليبرالي الغربي، فإن عليه أن ينتظر كذا قرن.
وهنا يتضح، لي على الأقل، سخف خطاب الإسلام السياسي العربي في وصف معظم الأنظمة العربية بأنها علمانية "كافرة". افهم وصف النظام التونسي بالمسخ العلماني البوليسي. أو وصف "النظام الجماهيري" بأنه معادٍ لمشاعر الليبيين الدينية، رغم أن الإخوان المسلمين(فرع ليبيا) قرروا مصالحته، والرهان على إصلاحه منه فيه!
لكن لا يستقيم، في ظني، حسبان أنظمة مثل المغرب وسوريا ومصر والجزائر، دول علمانية صريحة، مع استدراك الحالة اللبنانية، كدولة "علمانية" ملطفة، لضرورة اجتماعها الطائفي، حيث يحضر المكون الديني بقوة في تشكيل الحياة الاجتماعية والثقافية للحالة الطائفة، وصياغة توجهاتها السياسية العامة.
وجملة الأمر أن "الأصوليات الإسلامية" المتشددة، وإلى حد ما تيارات الإسلام السياسي "المعتدل"، عملت على تصوير "العلمانية"، في أذهان أتباعها وعموم العوام، على أنها صنو الإلحاد والكفر. وذلك حتى يكون وصمها للأنظمة، التي تعارضها، بالعلمانية، عاملا فاعلا في تهييج الناس ضدها، وتحريضهم عليها. وبدلا من ظهور القوى لديموقراطية في طليعة المعارضة الشعبية لأنظمة الاستبداد العربية المتحجرة، على أساس مقاصد ديموقراطية عقلانية، ظهرت، هوجة أصولية ظلامية دموية، تابعنا، خلال عشرية التسعينات السوداء، فظائعها، بشكل صارخ، في الجزائر ومصر، دون أن نغفل فظائع الأنظمة أيضا. كما رأينا كيف فشلت تلك الأصولية الدموية التكفيرية في تحقيق أهدافها، عندما تكشف لها رفض الشعب المصري لخطابها وممارساتها. كما تكشف لها رفض الشعب الجزائري لجنونها. فكان أن انتهى مصيرها إلى مجرد عصابات قزمية من القتلة المعزولين في الجبال، بعدما تم عزلهم تماما من الدولة والمجتمع.
والخلاصة: لا زال الطريق طويلا إلى ابن رشد، ما بالك بأركون!!!!!!!!!!!!

falasha@libya-nclo.org


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف