كتَّاب إيلاف

شهوة المايكروفون العربية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

جلسات محاكمات عديدة عبرت الذاكرة عن صدام حسين حاكم جمهورية البعث الصدامية، والعراق الجديد سابقاً، دون شيء لافت سوى ذلك التعطش المستمر للمايكروفون، وإعادة تدفق الشهوة القديمة في شرايين الرئيس المخلوع خلال كل محاكمة، وقت أن يقترب من المايكروفون متحدثاً وخطيباً.
المشهد يتكرر دوماً بصيغة واحدة : صدام في مقعده هادئاً زائغ النظرات أمام قاضي المحكمة الصارم. صدام مثل قط مذعور ينتظر ما يخبئ له القدر خلال دقائق ما قبل إعطاءه فرصة الحديث. صدام ينهض متثاقلاً حين يؤذن له بالكلام. صدام يتمدد ويكبر حين يُلامس المايكروفون أو يقترب منه. يتحوّل إلى شخص آخر لا تربطه بذلك الشخص المنكسر أي وشيجة.
ليس صدام وحده هو من يشعر بأن حجمه يفوق الحجم الطبيعي حين يرنُّ صدى صوته في أرجاء الغرفة المليئة بالضغائن. شهوة المايكروفون ليست صدامية الهيئة والمحتوى، بل هي سمة عربية بامتياز. كم من الرؤساء العرب خاضوا معاركهم على صهوات المايكروفونات. كلهم خاضوا معارك صوتية على حساب تطلعات شعوبهم. الشعوب أيضاً تثمل ُ على مكبرات الصوت وصدى المايكروفونات. الرؤساء وصناع القرار هم انعكاس آخر على نسق الفكر الشعبي. صورة مصغرة للشعب. لذلك فإن شعوباً بهذا المستوى لا تستحق سوى حكاماً بهذا المستوى.
على هذا النسق ذاته، فإن كل من يُرشّح لتولي مسؤولية ما، في أي دولة عربية كانت عليه أن يجيد الحديث. تسمعُ دوماً أن المسؤول الفلاني متحدثٌ جيد رغم أنه لا يعرف عن محيط عمله أكثر مما يعلمه فلاح بسيط في قرية نائية عن آخر الاكتشافات العلمية في كوكب المريخ، بينما العاملون في الصمت لا يحصدون سوى اللعنات والشتائم. شعوب المايكروفونات هذه مشكلة كبيرة لا حل لها. والأكثر إشكالاً أيضاً هم زعماء المايكروفونات وسدنتها الكبار.
المنطقة التي تملك أجمل رقعة جغرافية في العالم تئن تحت وطأة التخلف والفقر والجهل وانعدام حرية التعبير. كل الحلول إليها تأتي صوتية مايكروفونيه لا أكثر. فهل عليهم صنع مايكروفون لكل مواطن؟. إنه حل ناجع وغير مكلف.
ليس بالمايكروفون وحده يحيا الإنسان أيها السادة. رغم ضباب الجهل والتخلف، فإن الرؤية تبدو واضحة بشكل كبير لمواطني الرقعة العربية من العالم. إنهم يعرفون أن هذه مسرحية صوتية لا أكثر، وأن كل شيء من آمالهم قد ذهب مع الريح.

شخصياً أشعر بكم كبير من البهجة حين أشاهد زعيماً عربياً لا يجيد الحديث بشكل فصحوي منمق. أفرح أشد الفرح حين أراه يخطئ في جملة أو قاعدة أو كلمة أو مترادفة، مدمراً كل القواميس العربية وشقيقاتها وكان وأخواتها وحركات النصب والفتح والضم. أبتهج كامل الابتهاج حين أراه يصارع خلال قراءة خطاب كتب له على ورقة بيضاء لضمان عدم خطأه في طريقة الإلقاء أمام حشد من الشعب المايكروفوني.

إنها "بارومتري" الوحيد في قياس مدى صدق الزعيم من كذبه، وكل شخص حر في بارومتره.

sultan@elaph.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف