إيلاف والسلطة الخامسة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إهداء إلي إيلاف في عامها الخامس ....
يمثل الإعلام من فضائيات تليفزيونية وشبكات إنترنت واتصالات هاتفية عبر الأقمار الصناعية "عصب" عصر العولمة. وإذا كانت معظم التغيرات التي نشهدها اليوم قد حدثت بفعل الثورات التكنولوجية في النقل والاتصال وصناعة المعلومات، فإن عملية ضغط الزمان والمكان بهذه الصورة المذهلة - والمفزعة أحيانًا - من خلال الإعلام، أحضرت العالم كله على مرأى ومشهد إنسان القرن الحادي والعشرين، وفتحت الباب على مصراعيه ليحلم أحلامًا أكثر اتساعًا، ويحبط أيضًا إحباطًا شديدًا، عن طريق مقارنة أوضاعه وأحواله بأوضاع وأحوال الآخرين باستمرار.
من هنا فإن الأزمة الراهنة التي تمر بها "الدولة" والمفاهيم المتعلقة بها كـ "السيادة" و"السلطة" وغيرها لا ترد إلى العولمة الاقتصادية فحسب وإنما إلى العولمة "الإعلامية" أيضًا، التي تلعب فيها " الصورة " دورًا قارضًا وخطيرا ، وحسب وصف إحدى الصحف الهندية فهي "كالنمل الأبيض تقرض مؤسساتنا وقيمنا وعاداتنا" . "إن قرب وتراكب عدة فضاءات من الثروة والفقر أدى إلى زيادة توترات نموذجية خاصة بالعولمة، وعمليات رهيبة وغير مكتملة للاختزال والإجلاء من كل الأبعاد، فمن ناحية هناك الشباب المبهور بالغرب المتجبر، حيث يبدو كل شيء سهلاً، والساخط عليه في نفس الوقت، ومن ناحية أخرى، هناك المجتمعات التي شاخت والتي يؤرقها فقد امتيازاتها"(1)
لقد حفزت وسائل الإعلام من خلال " الصورة " تحديدا ، الجميع على المقارنة بين الاقتصادات والمجتمعات والحضارات، وأصبح الخيال وسعة الحيلة الوسيلة الجديدة (القديمة) للتغلب على كل الحواجز وتجاوزها. "إن المحاكاة كانت - وما تزال - هي إحدى آليات الإنسان الأساسية، وعن طريقها يستطيع الفقير أن يعتقد أنه ند للغني. والمهزوم أن يهزم الغالب. ويصل بها البلد النامي إلى التقدم .. غير أن العولمة لا تخلق على وجه التأكيد ظواهر المحاكاة، لكنها تيسرها، وتعظمها وتعجل بها، وربما تضفي عليها بعدًا جديدًا، قيمة جديدة"(2)
وعلى ذلك فإن العولمة لا تنفصم عن علاقات الإعلام والاتصال، حيث يتقلص الزمان والمكان بدرجة هائلة، وظواهر المحاكاة الجديدة، التي تؤدي أو يبدو أنها تؤدي إلى "توحيد عولمة الشباب حول الأذواق والطقوس المشتركة (الجينز الأزرق وهامبورجر وماكدونالد وحفلات الموسيقى التي تنتهي بإشعال الولاعات والوشم والدراجة البخارية) .. ويمكن أن يمتد هذا الانتشار للسلوك الغربي إلى الأخلاق (منازعة الآباء وتحرر الفتيات الصغيرات وحرية اختيار القرين) .. لكن هل يختفي ما هو خاص: البيئة والثقافة والظروف الاجتماعية والحالة النفسية لكل شخص؟"(3)
إن الإجابة عن هذا السؤال تعود بنا إلى عام 1980 حين ولدت أول قناة تليفزيونية ذات توجه كوكبي وهي [C. N. N.] التي بثت المعلومات والأخبار طوال أربع وعشرين ساعة في اليوم، وكانت تطمح يومئذٍ إلى استقبال إرسالها في كل مكان .. ربما حتى تخلق ضميرًا عالميًا موحدًا.
"إن [C. N. N.] وهي التصوير النموذجي للأرض المحاطة بكابلات الإرسال، تصل إلى كل مكانhellip; ويثير هذا التداول المتزايد السرعة والحجم للأخبار والأفكار كل أنواع ردود الأفعال، وهكذا تبرز العولمة وحدة كوكب الأرض ولكنها لا تلغي الوضع الخاص لكل فرد"(4)
والواقع أنه منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومع ظهور "الصحافة" تحديدًا، بدأ ما يعرف بـ "تسريع الوقت الاجتماعي". وحسب "روبرتسون" فإنه بين عامي 1870 - 1925 تم التوصل رسميًا إلى مستجدات بشرية جغرافية، في إطار ضبط النطاق الزمني للعالم، وإنشاء خط للمواعيد الدولية، والتبني العالمي للتقويم الجريجوري، وتأسيس شفرات تلغرافية وإشارية دولية، ومن هنا انتشر الوعي بالكونية بسرعة"(5)
بيد أن الصحافة أحدثت انقلابا في الحياة الاجتماعية بإشراكها مجتمعات متباعدة في الأحداث نفسها، وبنشرها في صورة استمرارية أخبار العالم، فشكلت بذلك وسيلة أولى "للتوحيد الزمني"- Synchronisation للعالم. "ففي مستهل عام 1918، أعلن فلاديمير لينين - Lenin أن الاتحاد السوفيتي الوليد، لا يعتبر حقًا عضوًا في المجتمع الدولي المتمدن، إلا إذا تبنى التقويم الجريجوري بينما في عام 1912، وفي اليوم الذي أعلنت فيه جمهورية الصين رسميًا، أعلن (صن يات صن) Sun-Yat-Sen زعيم الصين أن حكومته المؤقتة سوف تبذل قصارى جهدها نحو استكمال واجبات الأمة المتمدنة للحصول على هذه الحقوق"(6)
ثم ظهرت "الإذاعة" لتدخل وسائل الإعلام عصر "الحدث المباشر" أو "آنية الحدث"، ثم أكمل ظهور التليفزيون الدائرة، عن طريق البث المباشر للصورة، الذي سمح بنقل الحدث في "الزمن الحقيقي". وبدأ هذا الشكل الاتصالي تحولاً حاسمًا في مجال الإعلام، وحقق بالفعل هدف "الصحافة" الأساسي وهو "تسريع نقل الأحداث وربطها، وإشراك المجتمعات المتباينة والمتباعدة في نفس الأحداث". غير أن الصحافة قد حققت ما هو أكثر من ذلك، إذ أنها ظلت لعقود طويلة من الزمن ملجأ للمواطنين في وجه تجاوزات السلطات ضمن إطار ديمقراطي hellip; وعرفت بـ "السلطة الرابعة"، وصوت الذين لا صوت لهم في وجه السلطات الثلاث التقليدية للدولة: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
ووفقًا لما يقوله "انياسيو رامونه" في مقالته "السلطة الخامسة"(7) فإنه منذ ما يقرب من الخمسة عشر عامًا ومع تسارع وتيرة العولمة، أفرغت هذه "السلطة الرابعة" من مضمونها، وفقدت شيئًا فشيئًا وظيفتها الأساسية كسلطة مضادة. ومن يدرس عن كثب آليات العولمة ويلاحظ انطلاقة نوع جديد من الرأسمالية، أقل صناعية وأكثر مالية، قائم أساسًا على المضاربات. إذ نشهد في هذه المرحلة من العولمة مجابهة حادة بين السوق والدولة، بين القطاع الخاص والخدمات العامة، بين الفرد والمجتمع، بين الأنانية والتضامن الاجتماعي.
وباتت السلطة الفعلية بين أيدي طيف من المجموعات الاقتصادية الكونية والشركات المعولمة يزيد وزنها الاقتصادي أحيانًا على وزن بعض الدول والحكومات. هذه الشركات والمجموعات تلتقي سنويًا في "دافوس"ضمن إطار المنتدى الاقتصادي العالمي، وهي التي تملي على ثالوث العولمة سياسته: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
رافق ذلك - حسب رامونه - تحول حاسم في حقل الإعلام الجماهيري، طال بنيته الصناعية نفسها، فباتت وسائل الإعلام الواسعة الانتشار الآن من [محطات الإذاعة والصحافة المكتوبة وشبكات الإنترنت والتليفزيون والأقمار الصناعية] تتجمع أكثر فأكثر داخل مجموعات إعلامية ذات بعد عالمي.
إذ أن "الثورة الرقمية" كسرت الحدود بين أشكال الاتصال التقليدية الثلاثة أي: الكتابة (الصحافة) والصوت (الإذاعة) والصورة (التليفزيون)، وفتحت المجال أمام ظهور "الإنترنت" وهو الشكل الرابع من أشكال الاتصال حتى الآن، ووسيلة جديدة "ناجحة" للتعبير والاستعلام والبحث والترفيه.
ومنذ ذلك الحين والشركات الإعلامية تحاول أن تتشكل في "مجموعات" تضم وسائل الإعلام التقليدية (الصحافة، الإذاعة، التليفزيون) إضافة إلى كل النشاطات المرتبطة بما يمكن تسميته قطاعات الثقافة الجماهيرية والتواصل والإعلام.
لقد كانت هذه الدوائر الثلاث مستقلة الواحدة عن الأخرى فيما مضى: من جهة، الثقافة الجماهيرية ومنطقها التجاري وانتاجاتها الشعبية وأهدافها المتوخية للربح أساسًا. من جهة ثانية، الاتصال بمعناه الإعلاني والتسويقي والدعائي ومنطق الإقناع، وأخيرًا الإعلام مع وكالات الأنباء الجديدة ونشرات الأخبار الإذاعية والتليفزيونية والصحافة وشبكات الأخبار المتواصلة أي عالم الصحافة والصحافيين على تنوعه.
إن تداخل هذه الدوائر التي كانت مستقلة في الماضي، لتتحول شيئًا فشيئًا إلى دائرة واحدة عملاقة، يصعب التمييز داخلها بين ما هو ثقافة جماهيرية أو تواصل أو إعلام، يؤثر على ما هو وطني أو محلي لحساب ما هو كوني أو عالمي، إذ أن العولمة هي بالأساس عولمة وسائل الإعلام الجماهيرية ووسائل الاتصال والأخبار، وهو ما جعل وسائل الإعلام تتلاعب بالحياة السياسية بقدر ما تتلاعب السياسة بها، مما يقلب مفهوم "السلطة" ويجعلها على حد تعبير "جورج بالانديه" (خاضعة لتكنولوجيا المظاهر).(8)
لذلك يسعى اليوم كل الأطراف داخل المجتمع (من أفراد ومراكز ضغط ومؤسسات غير حكومية ورجال أعمال وسياسيين معارضين) إلى امتلاك قواعد اللعبة، والاستفادة قدر الإمكان من سلطة الإعلام بامتلاك أسرار من الإعلام والاتصال، لأن المجتمع المعاصر لم يعد مجتمعًا إعلاميًا وإنما "موجهًا إعلاميًا"(9)
واليوم أصبح الأفراد والمؤسسات والحركات والناشطين غير الحكوميين يتنافسون مع الدولة في الهيمنة على المواضيع الساخنة، ويتسابقون في إبرازها أمام العالم عبر وسائل الإعلام والاتصال، ولأن أهدافهم الإنسانية لا ترتبط بمكان معين، فإن مسألة "السيادة" الإقليمية لم تعد ذات بال، لأن هذه الأهداف تتطلب سيادة من نوع آخر: هي امتلاك وسائل الإعلام خاصة المرئي منه عبر الفضاء والأقمار الصناعية.
الهوامش :
1 - ديفارج (فيليب مورو): العولمة، ترجمة: كمال السيد، شركة الخدمات التعليمية (علي الشلقاني) بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة، مطابع الأهرام التجارية، 2001، ص - 36.
2 - المرجع نفسه: ص - 52.
3- المرجع نفسه: ص 53.
4- المرجع نفسه: ص - 51.
5 - روبرتسون (رونالد): العولمة hellip; النظرية الاجتماعية والثقافة الكونية، ترجمة: أحمد محمود، نورا أمين، مراجعة وتقديم: محمد حافظ دياب، المشروع القومي للترجمة (78) المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1998 ، ص - 359، 360.
6 - المرجع السابق/ ص - 255.
7 - http://www.mondiploar.com/oct03/articles/ramonet.
8 - Idem
9 - مي العبد الله: ثورة وسائل الإعلام والاتصال: التحولات الكبرى ونتائجها، في http://www.elsohof.com//E:\Tahkeekat.htm.
أستاذ الفلسفة جامع