(الوصايا العشر) إلى الحكومة العراقية الجديدة!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وأخيراً ولدت الحكومة الجديدة بعد مخاض عسير دام خمسة أشهر من المداولات المضنية. وهي بحق أول حكومة في تاريخ العراق، منذ تدوين التاريخ وإلى الآن، تولد ديمقراطياً وبهذه الشفافية والعلنية وتمثل جميع مكونات الشعب مع الحفاظ على الاستحقاق الانتخابي والوحدة الوطنية، وتنقل إلى العالم مراسيم التصويت عليها في البرلمان أمام الكاميرات التلفزيونية على الهواء مباشرة. إن تشكيل هكذا حكومة إئتلافية تظم ممثلين عن جميع مكونات الشعب، العرقية والدينية والمذهبية والسياسية، مع الحفاظ على الاستحقاق الانتخابي والوحدة الوطنية، ليس بالأمر الهيِّن، خاصة إذا ما عرفنا التناقضات الشديدة بين هذه المكونات، وحجم الخراب البشري والمادي الذي تركه النظام الفاشي البائد، وشراسة الإرهاب الذي يمارسه فلوله وحلفاؤهم الإرهابيون الوافدون من الأشقاء العرب من خارج الحدود. لذا لا يقلل من أهمية هذا الحدث التاريخي إلا من كان في قلبه مرض.
لذلك، فهذه الحكومة تستحق منحها فرصة لمدة ستة أشهر على الأقل، لتثبت نفسها أنها قادرة على التعامل مع هذا الكم الهائل من المشاكل المتراكمة عبرة قرون. لذا فهي الآن أمام امتحان عسير وتحت مراقبة الشعب under probation لتثبت أنها فعلاً جديرة بالثقة والتضحيات التي دفعها الشعب العراقي خلال تاريخه الطويل الحافل بالعذاب والمعمد بالدم الغزير. حكومة أمام امتحان قاس وعليها أن تحقق نجاحاً باهراً وإلا فالتاريخ لا يرحم. إذ يجب أن يضع أعضاء الحكومة في حسبانهم، أن الإنجازات لا تقيَّم بنفس درجة الاخفاقات. فالمكافئة في العمل السياسي عكس المكافئة في الدين، حيث الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها. القاعدة في السياسة أن السياسي "مثل السمك مأكول ومذموم"، إذا أصاب فلا يجزى إلا قليلاً، وإن فشل أو أخطأ فستنزل عليه السكاكين واللعنات من كل حدب وصوب إلى قيام يوم الدين ويكون قد انتحر سياسياً وتاريخياً، إن لم يكن جسدياً أيضاً.
ونحن مدركين جسامة المسؤولية الواقعة على عاتق هذه الحكومة، فيجب أن لا نتوقع منها أن تحل كل هذه المشاكل المتراكمة بعصا سحرية خلال ستة أشهر، ولكن خلال هذه المدة يمكن معرفة قدرة وجدارة هذه الحكومة من خلال عملها والإجراءات الصائبة التي تتخذها لحل المشاكل وهل حياة الناس تسير نحو الأحسن أو الأسوأ.
لقد مر الشعب العراقي، منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921 ولحد الآن في مراحل اتصفت بالعنف والقسوة وعدم الاستقرار السياسي، دفع الجميع خلالها ثمناً باهظاً. ولو أمعنا النظر لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء هذه الكوارث التي نزلت على شعبنا وفي عهديه، الملكي والجمهوري، لوجدنا أن هناك أسباباً عديدة وعلى رأسها التمييز العرقي والطائفي وغياب الديمقراطية، راجين الأخذ بعبر التاريخ من أجل تفادي كوارث الماضي وعدم تكرارها في المستقبل.
ومن حسن الحظ أن معظم الوصايا التي أود تقديمها لحكومتنا الجديدة قد ذكرها السيد رئيس الوزراء الأستاذ نوري المالكي في برنامج حكومته كما جاء في خطابه في البرلمان يوم تقديم حكومته للتصويت. ولكن دوري هناك التأكيد على التنفيذ، فكما تقول الحكمة: عمل ساعة خير من كلام ألف ساعة. وما دورنا إلا التحذير والتنبيه، وإلا فالناس سيقولون، لقد سمعنا هذا الكلام من المسؤولين السابقين، ولكن دون جدوى. وفي هذه الوصايا أذكر أهم الأولويات التي لها علاقة مباشرة بحياة المواطنين وذلك كما يلي:
أولاً، الأمن: كان حزب البعث يمارس الإرهاب ضد الشعب وهو في السلطة طيلة 35 عاماً ونتيجة لإرهاب سلطة البعث، قتل ما يقارب المليونين وشرد خمسة ملايين وملأ العراق بالمقابر الجماعية. ويمارس البعث الإرهاب الآن وهو خارج السلطة وبالتحالف مع أشد غلاة الإرهابيين الإسلامويين بقيادة حليفهم المجرم الأردني الزرقاوي. لا شك إن الشغل الشاغل للمواطن العراقي اليوم هو توفير الأمن ولقمة العيش والكرامة قبل أي شيء آخر وقبل الحديث عن الديمقراطية، إذ لا يمكن تطبيق الديمقراطية في بلد تحول إلى غابة للوحوش الآدمية، فلول البعث وحليفهم الزرقاوي وأتباعه من الوحوش الكاسرة. يجب أن يعلم المثاليون الطوبائيون أنه لا يمكن تطبيق الديمقراطية في بلد يحترق ولم يعرف الديمقراطية طيلة تاريخه. فهناك بعض المثقفين البطرانين يريدون معاملة العراق الذي صار ساحة للحرب ضد الإرهاب العالمي، كما لو كان سويسرا، ومعاملة الجرائم الإرهابية كما لو كانت مخالفات مرورية. إذ هناك منظمات تدعي أنها تدافع عن حقوق الإنسان بينما في الواقع يدافعون عن حقوق المجرمين دون الاهتمام بحقوق الشعب. فبدون توفير الأمن لا يمكن تحقيق أي مكسب آخر للشعب، ولا توفير الخدمات ولا إعادة الإعمار.
وتحقيق الأمن يتطلب تطهير أجهزة الشرطة وكافة القوات المسلحة من العناصر المتخاذلة والمتعاطفة مع الإرهابيين. ويجب حسن اختيار المتقدمين لهذه الأجهزة وذلك بإعطاء الأولوية لأبناء ضحايا النظام البائد على أن يكونوا غير مؤدلجين أو حزبيين. وسحب الأسلحة من المواطنين كافة. كما ويجب استخدام الحزم في مواجهة المجرمين وذلك بتنفيذ حكم الإعدام لمن يستحقه وإعلان معاقبة المجرمين والتشهير بهم في وسائل الإعلام. لأن الغرض من العقاب ليس فقط معاقبة الجناة، بل وكوسيلة لردع المجرمين المحتملين. وهذا الأسلوب متبع في الدول الديمقراطية الغربية Name and shame، كما ويجب حث المواطنين على المشاركة بمسؤولية محاربة الإرهاب، ومطالبة رجال الدين من جميع الأديان والطوائف بإصدار الفتاوى ضد الإرهابيين واعتبار أي عمل تخريبي ضد الشعب وممتلكاته حرام دينياً. كما ويجب سحق عصابات الجريمة المنظمة التي نغصت عيشة الشعب. فهيبة الحكومة تعتمد على قدرتها على سحق هذه العصابات المسعورة المنفلتة.
ثانياًً، حل المليشيات: وكما جاء في تصريحات رئيس الوزراء، إن هذه المليشيات هي مقدمة للحرب الأهلية، يجب حلها فوراً وبأقل خسائر وذلك كما يلي: أولاً، محاولة إقناع الكتل السياسية صاحبة المليشيات للتعاون بهذا الشأن، ويمكن دمجها بالقوات العراقية بعد أداء كل فرد منهم اليمين بقطع علاقته مع تنظيمه السياسي والإخلاص لواجبه الوطني. ثانياً، إذا فشلت هذه الوسائل فالكي آخر الدواء، أي اللجوء إلى القوة وبمساعدة قوات متعددة الجنسيات في حل المليشيات ومصادرة أسلحتها وإعادة تأهيل أعضائها. وقد يتعلل البعض بفرض شرط حل البيشمركة الكردستانية. في رأيي يمكن إتباع المرونة بهذا الخصوص إذ لا يمكن أن تغامر القيادة الكردستانية بحل قواتها وهي الضمانة لها، كما ويمكن ربط البيشمركة بالقوات العراقية. فهذه القوات تأسست منذ عشرات السنين ولعبت دوراً في تحرير العراق، بينما معظم المليشيات الأخرى تأسست بعد تحرير العراق وليس لها أي دور في تحرير العراق وحفظ الأمن، بل صارت مصدراً للجريمة والإرهاب. فقد لعبت مليشيات "جيش المهدي" على سبيل المثال دوراً إجرامياً ضد المسيحيين والصابئة في المحافظات الجنوبية وضد النساء السافرات بفرض تعاليمهم القرقوشية على الناس بالقوة، مما أدى إلى ترك عشرات الألوف من العائلات المسيحية والمندائية مغادرة العراق إلى سوريا والأردن. هذه الجرائم المنكرة ستبقى صفحة سوداء في تاريخ العراق، الأمر الذي جعل الضحايا يترحمون على عهد المجرم صدام حسين. إن معظم منتسبي ميليشيات "جيش المهدي"، هم من فدائيي صدام حسين، سواءً بزيهم الأسود الموحد أو بسلوكهم الإجرامي ضد أبناء الشعب. إن النجاح في حل المليشيات سيكسب حكومة المالكي شعبية واسعة.
ثالثاً، توفير الخدمات: كما بينا أعلاه، لا يمكن توفير الخدمات ما لم يتم توفير الأمن. وفي هذا العصر لا يمكن العيش بدون توفير الخدمات الأساسية للحياة، مثل الماء والكهرباء والتعليم والخدمات الصحية والنقل...الخ
رابعاً، محاربة الفساد الإداري وجرائم سرقة أموال الشعب: الفساد الإداري وسرقة أموال الشعب يشكلان الوجه الآخر للإرهاب ضد الشعب العراقي، وإذا لم تعالج هذه المشكلة فلن يتحقق أي تقدم في البلاد. لقد كشف تقرير لمكتب المفتش العام لوزارة النفط العراقية أنه تم الاستيلاء بشكل غير مشروع على ما قيمته مليار دولار شهريا من النفط ومشتقاته في العراق العام الماضي، من خلال بيعها في السوق السوداء. معنى ذلك أنه تمت سرقة أموال الشعب الفقير ما قيمته 12 مليار دولار في عام 2005 فقط. هذه الكارثة لا تقل بشاعة عن كارثة الإرهاب. كما وتفيد بعض التقارير الرسمية العراقية عن عمليات تهريب النفط العراقي تشارك فيها قوى دينية وسياسية بتشكيل (مافيا تهريب) تجني مبالغ طائلة تدخلها في دائرة الفساد الذي اصبح معه الكثير من المهربين والمنتفعين يغرون هذه القوى عن طريق الدعم وتقديم الأموال ليحتمون بها إضافة إلى استخدام آخرين لموارد التهريب في دعم العمليات الارهابية .. ونشر روح اليأس والإحباط بين المواطنين. يجب التشديد في سحق هؤلاء المجرمين وملاحقة الأموال التي سرقوها من قوت الشعب وإعادتها إلى خزينة الدولة.
خامساً، معالجة مشكلة البطالة والفقر: قبل تسلط البعث على السلطة، كانت الطبقة الوسطى تشكل الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي وتتمتع بمستوى معاشي لائق. ولكن حروب النظام البائد العبثية وسياساته العشوائية والحصار الاقتصادي قد دمرت الاقتصاد الوطني وقضت على الطبقة الوسطى وأحالتها إلى طبقة فقيرة معدمة. لذلك فالفقر يشكل مشكلة اجتماعية خطيرة تواجهها الحكومة. وقد أثبتت التجارب أنه من الصعوبة بمكان تحقيق الديمقراطية والسلام الإجتماعي في مجتمع يسوده الفقر الشديد.
لذلك نهيب بالسلطة أن تولي الناحية الاقتصادية أهمية بالغة، وتسارع في معالجة الفقر المتفشي في المجتمع العراقي وتجعل حل هذه المشكلة من أولوياتها. والمباشرة بعمليات إعمار العراق لخلق الوظائف للعاطلين. ومن حسن الحظ أن العراق يتمتع بثروات طبيعية هائلة وإمكانيات وخبرات بشرية كبيرة، لذلك فلو توفرت السياسات العقلانية والنوايا الصادقة في معالجة التركة الثقيلة التي خلفها النظام البائد، فمن الممكن تحقيق مستوى معاشي لائق للعراقيين والعيش بكرامة وحل هذه المعضلة في فترة قصيرة نسبياً، وهي أهم وسيلة للقضاء على الجرائم.
سادساً، حملة لنشر ثقافة روح المواطنة والديمقراطية والتسامح: فسلطة البعث دمرت العقل والإخلاق والنسيج الإجتماعي في العراق، وقضت على شعور المواطن بروح الإنتماء للوطن والولاء له. فهناك تفشي روح اللا أبالية إزاء ما يجري في البلاد. لذا يجب العمل على المصالحة الوطنية و تحقيق السلام الاجتماعي وتطوير المؤسسات المدنية والدستورية على أسس ديمقراطية. ومن هنا تحتاج السلطة إلى شن حملة ثقافية وإعلامية واسعة مكثفة ومستمرة في جميع مؤسسات التعليم وسائل الإعلام، من الروضة إلى الجامعة وأماكن العمل، لتثقيف الجماهير بالديمقراطية وكيفية ممارستها ونشر روح التسامح والتعايش مع المختلف ونبذ الطائفية وروح التعصب الديني والشوفيني وإزالة أثار الآيديولوجية البعثية الشمولية من المجتمع كما حصل في ألمانيا بعد سقوط النازية. وربط العملية التثقيفية بالتطبيق العملي، فمن المعروف أن الديمقراطية هي من الأمور التي يتعلمها الناس ليس بالتثقيف فقط، بل وبالممارسة العملية أيضاً، وليكن رجال السلطة القدوة في هذا المجال.
سابعاً، مشكلة التمييز بين المواطنين ومكونات الشعب العراقي: لم تعترف الحكومات السابقة المتعاقبة بالمساواة بين المواطنين وبين مكونات الشعب العراقي في الحقوق والواجبات. إذ كانت هذه الحكومات تمثل قومية وطائفة الفئة المهيمنة على السلطة فقط دون الاعتراف بحقوق القوميات والطوائف الأخرى المكونة للأمة العراقية. ونتيجة لاعتقادها الخاطئ في إتباع سياسة المحافظة على الوحدة الوطنية، تبنت تلك الحكومات سياسة الصهر القومي القسري للمكونات الأخرى (غير العربية) من الشعب العراقي في بوتقة "الوحدة الوطنية" كما ادعت، واستخدمت العنف والقهر والتنكيل والإستلاب لتحقيق هذا الغرض. إضافة إلى سياسة التمييز الطائفي بين هذه المكونات. وكانت النتيجة معكوسة، حيث المزيد من الحروب الداخلية وعدم الاستقرار وتمزيق الوحدة الوطنية ولجوء الحكومات إلى الإفراط في المركزية وإضطهاد الآخرين لفرض سياساتها بالقوة والقمع.
وقد بلغت هذه السياسة الشوفينية الغبية الذروة في عهد نظام البعث الصدامي الفاشي. ونتيجة لعدم الإعنراف بحقوق المكونات الأخرى للأمة، أدت سياسة السلطة البعثية إلى نتائج معكوسة، أي خلافاً لادعاءاتها أنها تعمل لتحقيق الوحدة القومية العربية، فأعادت العراق ليس إلى ما قبل المرحلة الصناعية فحسب، بل وإلى ما قبل مرحلة تكوين الشعوب، أي إلى مرحلة العشائرية والقبلية، حيث أحيت حكم العشيرة والعائلة، النظام الذي كان سائداً في العصر الجاهلي والذي حاربه الإسلام. إضافة إلى تفتيت النسيج الإجتماعي وتفشي الجريمة بشكل غير معهود في المجتمع العراقي من قبل. لذا يجب نبذ جميع أشكال التمييز، العنصري والديني والطائفي والجهوي والسياسي.
ثامناً، تعديل الدستور: لأول مرة، وبعد ما يقارب النصف قرن، أصبح للعراق دستور كتبه عراقيون منتخبون من قبل الشعب ونال الشرعية بالاستفتاء الشعبي العام. ولكن المشكلة أن هذا الدستور الطويل المسهب، كتب على عجل وفي ظروف استثنائية قاهرة، مما أدى إلى بروز نواقص كثيرة ومواد متناقضة تجعل من الديمقراطية ناقصة ومشلولة. لقد دعونا إلى التصويت في الاستفتاء لصالح الدستور، رغم نواقصه، ومن ثم نعمل على إصلاحه، وذلك لكي نفوت الفرصة على الإرهابيين، لأننا كنا نعلم إن رفض الدستور يكون نصراً للإرهابيين. لذا نقترح الآن تشكيل لجنة متخصصة لدراسة هذا الدستور وإجراء التعديلات الضرورية عليه في هذه الدورة البرلمانية. كما وأود التوكيد، أن العبرة ليس في وجود دستور ناضج فحسب، بل والأهم هو تطبيق الدستور. إذ كان في العهد الملكي دستور يرقى إلى دساتير الدول العريقة في الديمقراطية. ولكن الحكومات المتعاقبة في ذلك العهد أهملت تطبيقه. ونتيجة لهذا الخلل، حصل ما حصل من عدم الاستقرار. وكذلك البرلمان يجب أن يكون هو المسيطر على الحكومة وليس العكس كما كان في الماضي المؤلم.
تاسعاً، الاستفادة من أصحاب الكفاءات: لا يمكن التقليل من أهمية التكنوقراط إلى حد أن طالب كثيرون بتشكيل حكومة مؤلفة من التكنوقراط المستقلين في هذه المرحلة العاصفة لتفادي المشاكل الناجمة عن الصراعات الحزبية والطائفية..الخ. ولكن حكومة التكنوقراط لم تتحقق مع الأسف، إلا إن هذا لا يمنع من الاستفادة من خبرتهم. فلا شك أن السلطة ورثت تركة ثقيلة من المشاكل السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي تعصف بالبلاد والعباد. وهذه التركة لا يمكن حلها بعصا سحرية بين عشية وضحاها وفوق طاقة السياسيين وحدهم، بل تحتاج إلى مساهمة أصحاب الاختصاص والكفاءات الذين يتميزون بالحكمة والخبرة والدراية بالأمور، إضافة إلى الصبر والروية. إذ لا يمكن أن تتوفر للشخص الواحد، سواءً كان وزيراً أو أي منصب آخر، أن يكون ملماً بعلوم الأولين والآخرين، لذلك يجب الاستفادة من خبرة التكنوقراط. إذ يتعين على كل وزير أن يحيط نفسه بحلقة من أصحاب الخبرات من ذوي الإختصاص، ويتخذ منهم مستشارين ليستفيد من خبرتهم في حل المشاكل، كل في مجال وزارته.
عاشراً، حرية الصحافة والتعبير والنزاهة والشفافية والمرونة: يجب أن تتمتع الصحافة (السلطة الرابعة) بالاستقلالية والحياد المهني لتكون العين الساهرة والرقيبة على سلوك الحكومة والمؤسسات والناس لفسح المجال للنقد البناء وكشف أخطاء المسؤولين. وهذا يعني إطلاق حرية التعبير والتفكير للمثقفين وشغيلة الفكر من أجل نشر الفكر التنويري والتعويض عن الزمن الضائع في عهد الديكتاتورية البغيضة. فالصحافة الحرة هي رئة الشعب. ولذلك فحرية الصحافة والتعبير هي في منتهى الأهمية من أجل نشر الثقافة الإنسانية والعمل على إعادة ثقة الإنسان العراقي بنفسه وبوطنه والإطلاع على ثقافات الشعوب ومواكبة الحضارة وتطور في مختلف مجالات الفكر والمعرفة للتعويض عما فاته في عهد الظلام والعزلة عن العالم.
كما ويتعين على رجال السلطة أن يتحلوا بالنزاهة والشفافية والصبر والمرونة، ليس بالقول فقط، بل بالعمل وأن يظهروا للمجتمع نزيهين. ونظراً لما تعرض له المواطن من قهر واستلاب طيلة عهود طويلة، نتوقع من الكثيرين من المواطنين أن يظهروا نوعاً من التهكم والسخرية على الديمقراطية ورجال الحكم وذلك نتيجة لإعتقادهم بوجود حلول سحرية سريعة للمشاكل المتراكمة الكبيرة التي يعانون منها. لذلك مطلوب من رجال السلطة أن يتحلوا بالصبر والنزاهة والشفافية إزاء الانتقادات ويؤكدوا نزاهتهم للشعب. فقد يكون الإنسان نزيهاً ولكن لا يعرف أحد بنزاهته فيتعرض للاتهامات الظالمة دون حق. لذلك من المفيد للمسؤول أن يؤكد نزاهته للناس بالممارسة والتطبيق العملي، وهذا مهم له وللمجتمع لكسب ثقة المواطنين بحكامهم. وهذا يعني التفاني في خدمة المصلحة العامة وتقبل النقد بروح رياضية عالية، وعدم تفضيل المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، ومحاربة الرشوة والفساد. ولتحقيق هذا الغرض نحتاج إلى صحافة حرة تعمل على مراقبة المسؤولين وفضح المفسدين من أجل حماية المصلحة العامة، وكذلك لفسح المجال للناس أن يعبروا من خلالها عن مشاعرهم المكبوتة لتكون هذه الصحافة صمام أمان للتعبير عن معاناتهم وما يعانون من ضغوط نفسية تراكمت خلال عقود طويلة من الكبت والحرمان.