كتَّاب إيلاف

أين نرمي جثّتك؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

خلال أربعٍ وعشرين ساعةً، عاشها المؤلّف أحمد الحبّوبي في "قصر النهاية" الرهيب، نتعرّف على أصواتٍ لم نألفْها من قبل. أصوات فقدتْ اعتياديّتها. لصرير الأبواب الحديدية لغة، لرنّة التلفون لغة، لوقع أقدام الحرّاس لغات. أمّا "نعم سيّدي" فهي لغة الذبح/ أو كسر عظام الوجه والرأس.
أسوأ هذه اللغات إطلاقاً، الحنجرة البشرية حين تكون محشوّة بزناد بندقية.
نتعرّف في هذا الكتاب على ظلامٍ غريب لا يجلب النوم، وعلى صمتٍ مستوفز تتورّم من هوله طبلة الأذن.
كيف يُقرأ هذا الكتاب الصغير؟ وعلى أيّ محملٍ يُجمل؟ هل هو لائحة قانونية - - والمؤلف محامٍ - لإدانة وضعٍ سياسيّ في مرحلةٍ ما؟ أم أنّه إدانة للإنسان كإنسان بغضّ النظر عن انتمائه الحزبي أو الطائفي؟
يقول المؤلّف "حرصتُ hellip;أن تكون ليلة الهريرة سجلاّ واقعيّاً وأميناً لكلّ ما سمعتُ، وما رأيتُ من أحداث عشتها وعايشتها، hellip; ليلة الهريرة ليستْ عملاً روائيّاً يخضع للحبكة والصنعة ويسمح (للروائي)، أن يزوّقه بأسلوب أدبيّ وفنّيhellip;". لنبدأ أوّلاً بالعنوان "ليلة الهريرة في قصر النهاية". يقول المؤلّف: "فالهرير لغة.. من هرّ الكلب: مات الكلب بدون نباح من شدّة البرد، أو صوت الكلب دون نباح من شدّة البرد". ثمّ يأتي المؤلف بعد ذلك إلى معناها الثاني المأخوذ من معركة صفّين،:" فقد كان البرد في تلك الليلة قارساً إلى الحدّ الذي كان يُسمع للجنود هريرٌ كهرير الكلب". إختار المؤلّف المعنى الأوّل:" أمّا أنا فقد كنتُ أهرّ من شدّة البرد، كما يهرّ الكلب تماماً وأنا قابع في تلك الزنزانة في تلك الليلة من ليل شهر كانون الثاني، أيْ يوم 20 -21/1/1970.
ما علاقة الإنسان بالكلب هنا، وقد تصوّر نفسَه حشرة في غثيان كافكا؟ وما علاقته بالحشرات والديدان البشرية التي شاعت في الأدب التشيكي في العشرينات من القرن الماضي؟
تنحاز الضحية إلى جلادها حين تتصوّر نفسها شيئاً دونيا أدنى بشرية، كالحشرات والهوام. بهذه الطريقة تستسلم لضروب الإهانات والتعذيب وتكفّ عن الاحتجاج. وكيف تحتج وقد انتزعتْ هي نفسُها صفاتهِا البشرية!

ماذا عن قصر النهاية؟
كان هذا القصر يُسمى قبل ثورة عام 1958، "قصر الرحاب"، وهو مقرّ العائلة المالكة"، وفيه قُتل الملك فيصل شابّاً مع بعض أفراد عائلته. حوّله الزبانية إلى سجن لا إلى متحف كما هو مفروض. شهد هذا القصر شرّ أنواع التعذيب. سُمّيَ القصر شعبياً بعد عام 1958 "بقصر النهاية" أي نهاية العهد الملكي. بعد عام 1963
أخذت التسمية منحىً جديداً، فمن يدخلْ فيه لا يخرج منه حيّاً. مع ذلك ظهرت بمرور الأيّام تفسيرات غيبية وسياسية وفلسفية. منها أنّ دم الملك فيصل الثاني يورث أو يطلب الدم، مستشهدين بشيكسبير ودم الملك دنكنْ الذي قتله مكبث، لذا أصبح اقتصاصاً من كلّ الوطنيين الذين ثاروا ضدّ الملكية أو اقتصاصاً من الذين اشتركوا في حرب فلسطين.
على أية حال، يبدأ الكتاب بهاجس، يمهّد له المؤلّف بما يلي:"كان الضباب كثيفاً يحجب قرصَ الشمس صبيحة ذلك اليوم، فيشيع في النفس الضيق والانقباض، فقد كان واطئاً مخيّماً على أسطح المنازل مطبقاً على الشارع، تتعذر معه الرؤية، ويلفح الوجوه بنداه القارس". بهذه المقدمةُ البسيطةُ استنفرت مكونات التطيّر. فمن ناحية عطّل المؤلّف حاسّة البصر بتعطيل الشمس نوراً ودفئاً، مما زاد في حدّة الهاجس وغموضه. يأخذ المشهد أعلاه أهمية إضافية بمقارنته بالزنزانة فيما بعد حيث الظلام أسود كأنّه صلد، وحيث البرد والرطوبة قاتلان للنوم.
يحمل الراوية هاجسَه اللافح، بحكم العادة إلى غرفة المحامين للالتقاء بزملاء المهنة، ولكنّه لم يجدْ أحداً. تدور في غرفة المحامين هذه، كما يصفها الراوية: "مختلف الأحاديث، التي تهمّ المهنة ولا تهمّها، وأغلبها أحاديث سياسية تخصّ العراق والعالم، وغرفة المحامين مجتمعٌ مفتوح لكلّ التيارات والمعتقدات تتمثل بالزملاء من المحامين أو مَنْ يؤمّها من الناس (المراجعين) وتتمتع بجوٍّ ديمقراطي".هكذا إذنْ، باحتجاب الشمس وهيمنة الضباب، وخلوّ غرفة المحامين من أحد استشرى الهاجس. حسب الراوية غرفة المحامين بمثابة ملاذ لتفريغ التطيّر.
خرج الراوية إلى الشارع على غير هدى:"رحتُ أجوب الشوارع، لم أتفرّسْ في وجوه الناس فقد كنت مشغولاً عنهم بما أكابد من ضيقٍ في صدري لم أعرفْ كنهه، ولم أُفقْ من سَرَحاني إلاّ على صدمةٍ من كتف مسرعٍ كادت تُلقي بي على الأرضhellip; لم يعتذر الرجل. قال لي:"فتّحْ عيونك.. ليش نايم"
لقطة الرجل المسرع هذا تدلل على عمق هاجس الراوية الذي اتخذ الآن صيغة الغيبوبة، كما يدلل على عدوانية الشارع المتمثلة بعابر السبيل وكأنه يخلو من التسامح.
يزور الراوية صديقا ليتسقّط الأخبار. يسمع منه أنباءَ قيامِ مؤامرةٍ ولكنْ فشلت.كانت ردّة فعل ذلك الصديق:"الله يستر". العبارة رغم عفويّتها إلاّ أنها نامّة عن كوارث ماحقة، إذا قيست الأمور بسابقاتها.
على إيقاع:"الله يستر" خرج الراوية من محلّ صديقه، وهاجسه هذه المرة واعٍ ومستوفز. راح يتفحّص وجوه الناس: "رأيتُ الخوف مرتسماً على الوجوه، أو هكذا تصوّرتُ".
عن طريق التجربة وصل الراوية إلى ما قاله شيكسبير حينما سأل الملك جون أحد قهرماناته عن حالة الناس بعد أن سمع لغطاً، فأجابه:"الكلّ خائفون ولا يعرفون مم يخافون".
قرر الراوية الرجوع إلى البيت" وكأنّ هاتفاً دفعه إلى ذلك. فتح مذياع السيارة، فإذا بمحمّد سعيد الصحّاف، هادر الصوت. الصحّاف يتوعد بلا رحمة وبثقة مطلقة. الصحّاف يقول عن مؤامرة إمبريالية أمريكية ورجعية. يعلن عن تشكيل حكومة ثورية خاصّة برئاسة طه الجزراوي. من صلاحيات هذه المحكمة: إصدار الأحكام وتنفيذها فوراً من غير طعن.
لم يستطعْ الراوية نوم القيلولة. "تجاوزت الساعة السابعة والنصف" مساء. اتصل بصديق هاتفيّاً، لأنّه كما يقول:" كنتُ بحاجة إلى سماع صوتٍ غير صوتي".
على هذه الصورة المفزعة انكسرت مرآة الراوية، فلا يدري بأيّة كسرة يرى وجهه.
انقطعت الهواجس مرّة واحدة، بوصول ثلاثة أشخاص بملابس عسكرية، وسيارة نجدة. اثنان منهما بمسدسيْن والثالث برشّاشة. بدأتْ مرحلةٌ جديدة وكأنْ انقطع تأريخ عن تأريخ.
المرحلة الجديدة ذات لغة ملغزة ومشفّرّة. حُشر الراوية داخل السيارة بين العسكرييْن. " تناول الضابط آلة كانت موضوعة أمامه وكأنّها جهاز مايكروفون، وأخذ يردد:"هلو هلو سيّدي أنا رقم كذاhellip;إنّ الشخص المطلوب معنا فأين نتجه به".
لو فحصنا العبارة ثانية: هلو هلو سيّدي أنا رقم كذا الشخص المطلوبhellip;" باقتضابها الحاسم، لوجدناها خالية من أية عاطفة إنسانية بين الجلاّد وأداته. الطاعة هنا آلة جارحة لا تعرف التردد. التنفيذ يسبق التفكير.
تتجه سيارة النجدة إلى قصر النهاية. طيلة الرحلة لم يتكلّم أحد. أشبه ما تكون بجنازةٍ تخترق المسافة، إلى حيث المثوى الأخير. في بضع دقائق كهذه يستحيل الإنسان من مخلوق إلى مسخ. كيف بدتْ له المارة في الشوارع، كيف بدت البنايات من وراء زجاج السيارة. أكانت نظرةَ وداع؟ أم أنّ الموجودات غامت في عينيه وماعت واختلطتْ؟ أفقدتْ دلالاتها وحجومها؟
لم يكن الراوية في غيبوبة ولم يكن ذاهلاً. وطّن نفسه على أجله. "وأنزل الله سكينته" وليكنْ بعد ذلك ما يكون. إنّه ملاقٍ وجه ربّه الكريم لا محالة. ما فائدة الخوف؟ ما فائدة التوسّل؟ كالتشبث بقشّة لا ينجي. بهذه المعادلة البسيطة في ظاهرها استحال الراوية إلى بطل من نوعٍ ما رغماً عنه. هنا انتهى الفعل الماضي للدلالة على انتهاء المخلوق الذي كان عليه الراوية. ها هو محشور بين عسكرييْن. بين مسدسيْن ورشاشة. إلى قصر النهاية. "لا يُفيق إلاّ على صوتٍ يمزّق السكون الموحش، وسط غابة باسقة:قفْ"
بوقوف السيارة بارتجاج، تبدأ لغة جديدة: رادعة، ناهرة، آمرة. تبدأ صيغة فعل الأمر على أشُدّها عنتاً وصلفاً.
فعل الأمر يطيح بكلّ الصيغ الأخرى. قفْ، "أعطِ كلمة السرّ"، تقدّمْ، قفْ مرة أخرى.
(سنتعرّف على أهوال أخرى لفعل الأمر في الفقرات التالية).
مع صيغة فعل الأمر تندلق الاستجوابات المسنونة. كل الأسئلة استنكارية ساخرة من الإنسان كإنسان. فالضابط الذي أمر السائق بالوقوف، وطلب كلمة السرّ، صعد في السيارة وشرع يصيح بوجه الراوية: مَنْ أنتَ؟ مَنْ هذا المجرم المتآمر؟". لم ينتظرْ جواباً. قال له:"لنْ تأخذَ أكثر من ربع ساعة وتنتهيhellip; مجرم".
الدخول إلى قصر النهاية، مرحلة جديدة. كلّ المراحل منقطعة عن بعضها وإنْ بدتْ متصلة. وهذا سرّ رعبها. ينتهي هنا هاجس الراوية، إلى غير رجعة. وعيه بالأشياء ثاقب. حاسّة البصر تطبع كلّ شكل، وإشارة، وحركة مهما دقّت، وحاسّة السمع تسجّل كلّ نأمة. يقول الراوية:"دخلتُ مع الضابط صالوناً فسيحاً مستطيل الشكل، يبدو أنّه المدخل الرئيسي للقصر، وكان مزدحماً، ففيه شباب مسلّحون بأعداد غفيرة وحركة دائبة، وأجلتُ نظري يميناً ويساراً وإذا بمنظر غريب يتمثّل في وقوف بعض الناس ووجوههم إلى الحائط، بأزياء مختلفة، فمنهم مَنْ يرتدي البجاما، ومنهم الدشداشة، ومنهم الأفندي والمعقّل، وقد رفعوا أيديهم إلى فوقhellip;تفصل بين الواحد والآخر أربعة أمتار تقريباً
وبجانب كلّ واحد من هؤلاء شابّ يحمل رشّاشة في حالة الاستعداد، ويمنع أيّاً منهم من الالتفات إلى الخلف، أو يُنْزل يديه إذا ما تململ من التعب، أو حاول أن يدير وجهه قليلاً، تعاجله ضربة من كعب رشّاش فيعود إلى وضعه الأوّل مواجهاً الحائطhellip;"
عدسة العين تلتقط التفاصيل. ثمّة بشر مسلوخة عنهم آدميّتهم. وبشر بينهم وبين الموت مسافة شبر وفتر. ما من نوع ثالث. حومة افتراس بالكامل.
في هذه المرحلة، تدخل حاسّة السمع بشكلٍ رئيسي. تدخل كذلك حاسّة الشمّ. ومع حاسّة البصر يتشكل أكبر ثالوثٍ للرعب. الإنسان تفترسه حواسّه. أين المفر إذا كنت محاصراً من داخلك؟
طبلة الأذن مستنفرة، وسندانها في أعتى ارتجاف.
يقرأ أحدهم أسماء ستة أو سبعة أشخاص، وما هي إلاّ لحظات، " فإذا بصوت الرصاص يمزّق السكون بصوته الهادر منطلقاً من مجموعة من الرشّاشات تصمّ الآذان وتخلع القلوب. كان الرصاص المنهمر ليس بعيداً عن المكان الذي نحن فيه. إنه قريب. إنّه في الطابق الأسفل، وأمامنا في الحديقة استمرّ هديره أكثر من ثلاث دقائق ثمّ خفتْ حدّته وصار متقطعاً إلى أن سكتhellip;سكتتْ زخّات الرصاص، وبعد لحظات سمعتُ إطلاقات من مسدس، بين لحظة وأخرى، فعلمتُ أنّها رصاصات الرحمةhellip;"
يأتي بعد ذلك صوت الصحّاف في الراديو، وكأنّه صدى لصوت الرشاشات:"إنّ وجبة جديدة من الخونة
قد لقوا جزاءهمhellip;إنّهم خونة قد ذهبوا إلى مزبلة التاريخ بالخزي والعار". وقبل ذلك كان الراوية يقوا:"أشمّ رائحة الدم، مخلوطة برائحة البارود تملأ الجوّ برائحة الرصاص"
تتقلص الحياة إلى مفردات قليلة:قراءة أسماء، زخّات رصاص، مزبلة تاريخ، دماء، بارود. تتقلص الحياة أكثر
حينما يقول الراوية:"وأخذ الشاب يقرأ الأسماء وعيني معلّقة بفمه"، في مرحلةٍ تالية تعلّقت بنطق الآسم، ثمّ بالحرف الأوّل من الآسم. "كنتُ أعدّ الأسماء آسماً بعد آسم، وكنتُ أتوقّع سماع آسمي فإن أخطأه المنادي أو تخطاه، قلتُ في نفسي إنّ آسمي سيجئ وراء هذا الآسم دون شكّ، ونادى على سبعة أسماء أو ثمانيةhellip; كانت أسماع كلّ منا متعلّقة بالحرف الأوّل من الآسم، فمنه يُعرف المعنيّ والمطلوب تنفيذ حكم الإعدام فيه"
الحياة بكاملها تختزل بحرفٍ واحد. بكلّ موجوداتها ومخلوقاتها متوقفة على حرف واحد.
ما بين مناداة ومناداة، ما بين زخّة رصاص وزخّة رصاص، ما بين مزبلة تاريخ وأخرى، يتداعى العقل الباطن:"وكانت أسعد اللحظات تلك التي عدت فيها إلى طفولتي البريئة، والدنيا من حولي ضاحكة مبهجة، محاطاً بحنان الأبوين، ورعاية الأخوة، والأعمام والأقرباءhellip; وفي الساعة الثانية صباحاً "هدأت حركة الحرّاس وراحوا يتثاءبون" فقد أُعدم مَنْ كانوا موجودين في الغرف المجاورة. لم تَدُمْ الهدأة تلك إلاّ لحظات. وقع أقدامٍ كثيرة يقترب وتدخل
مجموعة من الشباب. هل جاء دور الراوية؟ راح الراوية يقرأ مع نفسه:" كلّ نفس ذائقة الموت"، فشعر باطمئنانٍ روحيّ. الراوية يُقاد إلى زنزانة أخرى. الزنزانة دامسة. لا يزيد طولها عن المتريْن، وعرضها عن المتر والنصف. الراوية الآن مخلوق آخر. مثانته الممتلئة لا تهادن، وقضاء حاجته كارثته.
في هذه الزنزانة الخالية من أيّ رأفة تتوالى الصور التي لم يستطع الحرّاس أن يرصدوها مهما أُوتوا من تدجيج: " قفزتْ أمامي صورة أهليhellip;حضرت أيضاً صور أخوتي وأخواني وزوجتي وأطفالي، وأكبرهم لا يتجاوز عمره الثماني سنوات وأصغرهم عمره سنتان"
هذه هي المرة الأولى التي يستحضر فيها الراوية أفراد عائلته، هل استدرجهم ليودعهم؟ أم ليستنجد بهم في وحدته؟
الظلام في هذه الزنزانة لا يجلب النوم. الوساوس لا تنقطع.
في هذه اللحظات التي تعطّلتْ فيها حاسة البصر بفضل الظلام العميم، استنفرتْ حاسّة السمع. حاسّة السمع تلتقط أربع لغات مرّةً واحدة. أوّلاً لغة البوابة الحديدية. لها صوتان فقط. عند الانفتاح ويعني الخروج قضاء النحب، وعند
الانغلاق ويعني مَنْ ينتظر.
اللغة الثانية رنين التلفون. اقتصرتْ على جملة واحدة: " هلو .. نعم سيّدي..نعم سيّدي". ثمّ ينُادى على سبعة أو ثمانية أشخاص. تفتح بعدها البوابة الحديدية، وبعدها زخّات رصاص، وبعدها:" إلى مزبلة التاريخ"، على موجات الأثير.
وقع أقدام الحرس لغة ثالثة. أخطر اللغات في المعتقل. يقول الراوية:"انتبهت على وقع أقدامٍ تقطع الدهليز ذهاباً وإياباً، خطوات (بسطال) ثقيل تضرب الأرض بقوّة بوقعٍ رتيب، ورحتُ أعدّ الخطوات التي تقترب منّي وتبتعد، لمعرفة طول الدهليز، ولا أدري لِمََ كان اهتمامي لمعرفة طوله، وتوصلتُ إلى أنّ طوله يزيد عن الخمسين متراً"
أمام هذه اللغات الثلاث وقفت لغة رابعة عاجزة. اللغة الرابعة فضلة وعاجزة. اللغة البشرية فضلة وعاجزة.
صرخ طفلٌ في زنزانة مجاورة. صرخةُ الطفل لغة عالمية بكل معيار. أمّه تستنجد:"أريد ماء قليلاً حارّاً للطفل"
الطفل يصرخ. صرخة الطفل لغة عالمية. ساد الصمت. ثمّ صرخ الطفل.الأطفال الرضّع لا يكذبون، وصراخهم أصدق الصدق. في زنزانة أخرى رجل يستنجد بتوسل، يستنجد بذلّ يريد أن يقضي حاجته. يا لله: اللعنة على كلّ معدة وما أكلتْ. هل وصل الصمم البشري إلى هذا الحدّ!
قال الحارس للأمّ:" أسكتي نامي ما من ميّ "(ماء). أيْ ليمُتِ الطفل.
وقال للذي يريد أنْ يقضيَ حاجته:" خرّي ( إخرأْ ) على روحك ماكو طلعه يعني ماكو طلعه".
يتكرر الروتين: "مناداة أسماء، بوّابات حديدية تفتح، زخّات رصاص، وجبة أخرى من الخونة ذهبت إلى مزبلة التاريخhellip;".
لم يبقَ إلاّ الراوية.
يقول الراوية:"سمعتُ ضوضاء، وأقداماً كثيرة تدبّ في الدهليز، وتقف عند باب زنزانتي، فتساءلتُ هل تبدّل الأسلوب؟ وأين رنين التلفون؟ وهل سيأخذون الآخرين وجبة واحدة؟
امتدّت يدٌ من فتحة صغيرة في أعلى باب الزنزانة، وجاء فعل أمر:" خذْhellip;خذْ زقنبوتك هل أنت أطرم" ( الزقنبوت: السمّ. والأطرم الذي لا يسمع). وما كان الزقنبوت سوى "خبز يابس كالحجارة"، ومعه سمع الراوية صوتاً من الدهليز ينادي "هذه آخر وجبة لكم، كلوها هنيئاً مريئاً".
هكذا بتواصل ينقطع وقع الأقدام ولا ينقطع، يقترب ويبتعد. أرجوحة موت. بات لوقع الأقدام لغة متورمة جديدة. سرعتها لغة. بطؤها لغة. قربها قيامة، وابتعادها تشييع.
ربط الراوية بعفوية حاذقة مصير الإنسان بوقع الأقدام. لعبة تفتت الأعصاب.
حاول الراوية أن يكسر كسرة الخبز بالأسنان. لم يقوَ أبداً.
المثانة لا تهادن. يقول الراوية:" وأخيراً توصّلت إلى الحلّ الأمثل، وهو أن أُضيف إلى ماء الزنزانة ماء مثانتي، وهذا ما فعلتُ، فما حيلتي، وما عساي أن أصنع، واسترحتُ يعدها كأني أزحتُ جبلاً عن كاهلي"
يقول الراوية:"بدأ الصوت ينادي الأسماء، وذكر الآسم الأوّل، وذكر الآسم الثاني، فقلت أنا الثالث، ومرّ الثالث، فقلت الرابع، ومرّ الرابع ومرّ الخامس حتى السابع، وانتهى النداء. غضبتُ لأنّ آسمي لم يَرِدْ. أين آسمي؟ ولِمَ كلّ هذا التأخير؟ ولماذا هذا العذاب؟ ألَمْ يُؤتَ بي إلى هنا للإعدام؟ وهذه الوجبات تتلاحق وجبة بعد وجبة، فمتى يجئ دوري؟ hellip; أنا ميت منذ الأمس وما حياتي إلاّ فضلة وزيادة"
لم يطُلْ انتظار الراوية. ها هو الباب الخارجي يُفتح، وأقدام مسرعة تدبّ في الدهليز، وتقترب من زنزانته، وتقفْ
يُقتاد الراوية.
يتعرّف الراوية على سماء صافية وشمسٍ مشرقة. يتعرّف على زُمر من سَكَنة الزنازين. كان عددهم سبعة عشر بمختلف الأزياء. صُفّوا يطابور، واحداً بعد الآخر بمشية عسكرية، وهم محاطون بالرشاشات. أُخِذوا عن عمد ليمرّوا بساحة الإعدامات، أو حديقة الموت. يعرّفنا الراوية على حديقة الموت:" ساحة الإعدامات هذه، حديقة كبيرة تقع أمام مدخل "قصر النهاية"، يغطيها العشب. مستطيلة، يبلغ طولها حوالي سبعين متراً وعرضها أربعين متراً. اخترق طابورنا الحديقة، ورأيتُ كما رأى الجميع، أجساداً متناثرة تفترش الأرض، هي جثث الوجبة الأخيرة التي تمّ إعدامها منذ حينhellip;كانت لأشخاص بأعمار مختلفة، وملابس متباينة، يفترشون الحديقة بأوضاع مختلفة، فهذه جثّة جندي يرتدي الملابس العسكرية وبرجله بسطال وينام على ظهره، وقد اتجه بوجهه إلى السماء، وكان وجهه واضحاً وغير مغطّى بعصابة، وبالقرب منه تضطجع جثّة على وجهها، وصاحبها يرتدي الدشداشة وحافي القدميْن، وهذه جثّة تبعد عن الجثّتيْن قليلاً لشخص ينام على جنبه، متكوراً وقد أدخل رجليه في بطنه، وضمّ يديْه إليهما، وأدخل رأسه في صدره، وتلك جثّة أخرى تبعد أمتاراً بوضع آخر، إذْ كلّ ينام أو يموت على الجنب الذي يريحه، وهذا أمر لا دَخلَ للجلاد فيهhellip;"
من حديقة الموت، إلى صالة، فالمحكمة الخاصّة ورئيسها طه الجزراوي. نطق الجزراوي أوّل ما نطق بـ "إسمعوا أنتم مشتركون في المؤامرة القذرة، إعترفواhellip; أمامكم ربع ساعة. مصير الذي لا يعترف سيكون مثل مصير هؤلاء الذين رأيتموهم في الساحة. هل سمعتم؟" ثمّ التفت الجزراوي إلى أحدهم وأمره بتوزيع الأوراق. أنكر الراوية خطّياً اشتراكه في المؤامرة، أو علمه بها. بعد ذلك جاء شخص يسأل عن عنوان كلّ واحد منهم. الراوية يعرف المحلّة ولكنّه يجهل رقم بيته. فإذا بذلك الشخص يصيح بعصبية:" أين نأخذ جثّتك هل نرميها بالشارع؟".
مع الموت يصغر القاموس. "نعم سيّدي.. نعم سيّدي " أسوأ تكرار في تأريخ البشريّة.
رأس ممتلئ بوقع الأقدام، مثانة منتفخة عن آخرها بأكبر جبل داخل الإنسان.
" أين نرمي جثّتك، هل نرميها بالشارع؟
الموت قاب قوسيْن. أصبح الموت قاب قوسيْن. مع ذلك فهاجس الحياة لا ينقطع حتى النفس الأخير.
وصف جورج أورول، مرّة شخصاً وهو يساق إلى المشنقة. كان أورول على يقين من أنّ شعر يديْ هذا الرجل
ينمو كالمعتاد. أظفاره تنمو كالمعتاد. مما أثار استغراب أورول أن هذا الشخص تفادى أثناء السير بقعة موحلة أمامه حتى لا تبتلّ أو تتوسخ قدماه.
مفارقة فوق الطاقة. كيف تُفَسّر؟
كذلك الراوية . ما يزال ذلك السؤال المفزع يرنّ في رأسه:" أين نرمي جثّتك، هل نرميها بالشارع ؟ رغم ذلك فهو الآن منشدّ إلى شئ لا علاقة له بالموت أو الحياة، ولا حتى بالجوع أو الشبع. يسرد الراوية الحدث كما يلي:" نظرتُ في ساعتي لأعرف الوقت، فإذا بزجاجتها منْزوعة من مكانها. نظرتُ إلى الأرض فوجدتُ زجاجة الساعة بالقرب من قدمي. هممتُ أنْ ألتقطها، ولكنْ جاءني هاتف أنْ لا أفعل. فما الفائدة من الزجاجة، فالساعة تؤخذ مني حتماً بعد إعدامي، ولا بـدّ أن تؤخذ الساعة من دون زجاجة، وتركتُ الزجاجة في مكانها على الأرض، وتشاغلت عنها بموضوع آخر. ثمّ عدتُ إلى التفكير في الزجاجة، ورحتُ في حيرةٍ هل ألتقطها من الأرض، أم أتركها في مكانها؟
وهممتُ ثمّ عدلتُ أيضاً، وهكذا بقيت في صراع بين إقدام وإحجام، متردداً بين الالتقاط والترك، إلى أن حسمت الأمر، وبحركة سريعة التقطت زجاجة الساعة ووضعتها في جيبي"
يُفَسّر هذا المقطع المربك بعدّة تفاسير ويبقى حتماً بلا تفسير. الراوية أصبح كلاعب شطرنج ستيفان زفايج، يتصارع مع نفسه. ما أهمية زجاجة الساعة، وقد قتل جلاّدو الراوية الزمن برمّته؟ لماذا أصبحت حركة التقاط الزجاجة وهي حركة عادية، بهذه الجسامة؟ أم أنها يا تُرى حيلة العقل الباطن بالانشغال في شئ تافه لتفادي الانشغال بالموت؟
لأسباب تكتيكية عليا (والراوية من كبار القوميين)، أُجّل موت الراوية. يُطلق سراحه بكيفية ما.
الراوية الآن على الرصيف خارج "قصر النهاية"الأشجار وكذلك حركة السابلة والعربات تذكّر يشجر الخابور مورقاً ما من أحد حزين على آبن طريف. وابن طريف على الرصيف خارج "قصر النهاية"، أشبه ما يكون في غيبوبة. حواسّه متنمّلة:" بقيت واقفاً على الرصيف متسمّراً لا أريد أن أتحرّكhellip;أريد أن أشعر بحريتي المطلقة.أريد أن أمارسها. فأنا أقف الآن على الرصيف بملء حرّيتي، إذنْ فلاقفْ ما شئتُ من الوقت".
مرّت أربع وعشرون ساعة فقط منذ توقيفه، غير أنّ الراوية استحال فيها إلى أشكال غريبة، بالكاد تمتّ للإنسان بصلة.
الحياة خارج "قصر النهاية" أشبه شئ بالنشور يعد الموت.
شعر الراوية بحاجة إلى البكاء، حاجة الطفل ساعة يخرج من الرحم. هل ستغسل الدموع المشاهد التي محقته؟ أم أنها الوسيلة الوحيدة للتعبير عن بشرية الإنسان:"وشعرت بحاجة إلى البكاء.. كيف أبكي، والناس من حولي، فماذا تقول عنّي؟ أ مجنون هذا يحدّث نفسه ويبكي؟"
بدأ الكتاب بهاجس وطيرة، ثم غرفة محامين خالية من سكّانها وينتهي بزنزانة شرّ ما فيها الأصوات.
بدأ الكتاب بالراوية وهو يأخذ ابنه غسان إلى الطبيب، وينتهي بالسجينة سعدية و رضيعها في الزنزانة. صرخ وصرخ وما من ماء . هل مات؟ لا يهمّ!
بدأ الكتاب بالراوية وقد اقتيد بسيارة أمْنٍ مخفوراً، وها هو الآن داخل سيارة أجرة، فاقد الوعي إلاّ قليلاً. صاح السائق:"أيّ شارع في الصليخ أستاذ.. نحن في الصليخ"
كيف الدخول إلى البيت.. الفرح المفاجئ له مفعول الكارثة في بعض الأحيان.
هرعت إليه العائلة شيباً وشباناً وأطفالاً. تكدست عليه القبل. والراوية مذهول:" كأني مخدّر"
يقول الراوية:"أنظر في وجوههم، أفتش عن أمّي، فإذا بها مقبلة بمشيتها الثقيلة، حاملة في يدها القرآن، ورفعت يديها إلى السماء، وراحت تدعو، ولم أتمالك نفسي، فارتميت على صدرها، واختلطت دموعنا، وعلا نحيبها، وبكى على بكائنا الجميع".
وَقَعَ الفرح على ابن خال الراوية وقعاً أذهله فأفقده صوابه، فراح وهو سمين يقفز من شدّة الانفعال فوقع على المدفأة النفطية، وانجرحت رجله. لقد أنساه الفرح ألم الجرح، وراح يلطم على رأسه، دون شعور، وراح الجميع بين بكاء وضحك".
عند هذا الحدّ من البكاء واللطم، يبلغ الكورس العائلي ذروته في الانتشاء.
تهاوى الراوية على المقعد. "يتفحّص الوجوه. إنها شاحبة لم تعرف النوم والراحة، التفّ حولي أطفالي الأربعة أتحسس وجوههم وأمسح على وجوههم".

قد تكون هذه خاتمة ناجعة لأصعب فصول تلك المسرحية، ذلك لأن حاسّة اللمس تظهر لأوّل مرّة في الكتاب.
حاسّة اللمس لا ريب، أقوى قرون الاستشعار حين يفيض الحنان، وحين يبلغ الضعف الإنساني مداه.
لكنّ الراوية لم يصدّق النهاية بعدُ، فطلب الراديو. ما يزال يبثّ مارشات عسكرية. أعلن الصحّاف عن وجبة جديدة من الخونة تمّ إعدامها. عدّد المذيع الأسماء. تردّد في أذن الراوية من جديد الصوت نفسه:" وهذه وجبة أخرى من الخونة تذهب إلى مزبلة التاريخ ويعقبها بقهقهة عالية.
المارشات، نواقيس الخطر، المزابل، أين نرمي جثّتك؟
إعترفْ.
أمامك ربع ساعة فقط.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف