كتَّاب إيلاف

يحكى أن...

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

شوارع بغداد

لو لم تكن ظروفه الخاصة اقوى من رغبته؛ لما سافر الى بغداد؛ ليعبر ساحات المعارك والمجازر والمذابح الوحشية؛ وهو في طريقه الى بيته في محلة الدهانة في الرصافة؛ هكذا قال لي ونحن في طريقنا من مطار فينا الى فندقه المتواضع في دوبلنج.
لقد حدثني طويلا؛ عما يجري في العراق؛ وهو يؤكد: ان كل ما نشاهده على الفضائيات او ما نقرأه علــــــــى المواقع والصحف؛ ما هو الا مجتزءات يسمح بها المحتل وجمعه؛ لمصالحه واغراضه وتوقيتاته. ثم ان ما نشاهده من خراب ودمار في الطرق والعمائر والمعامل والمدارس والمستشفيات ايضا؛ ما هو الا نماذج مبسطة لما حل بالعراق من هدم ودمار لمدنه وطرقه ومواصلاته البرية والنهرية وحتى قراه واريافه. واضاف؛ لقد مررت باجمل شوارع بغداد؛ مثل عرصات الهندية؛ وكرادة خارج؛ و السعدون؛ والمنصور ومحيط الكاظمية وشارع مطار المثنى وكرادة مريم والحارثية والقادسية وحي الجامعة... الخ؛ وانا في طريقي لزيارة الاقرباء والاصدقاء قبل العودة؛ فماذا شاهدت؟!! طرقا ليست هي تلك التي تعودت التنزه بها؛ طرقا سحقها الاحتلال بدباباته ودروعه وعرباته المتوحشة؛ واقتلع اشجارها وحدائقها وحولها الى تلال تجثو على سطوحها المدافع المهيئة لقتل العراقيين المذعورين المرعوبين الفارين الى بيوتهم قبل ساعة منع التجوال؛ ويا لمنع التجول الذي دخل عيد ميلاده الرابع على بركة الحرية والديمقراطية!!! ثم اضاف: سألخص لك تلك المأسا ة بما قاله لي سائق التاكسي الذي طلبت منه ان يوصلني الى ساحة الخلاني في الرصافة؛ حيث اجابني: سآخذ منك مضاعفا؛ سألته لماذا؟ قال اولا ان هذا الطريق لم تترك فيه الدبابات موقعا معتدلا ميسرا؛ والثاني انه ضمن المواقع الخطرة؛ اذ ان بغداد اليوم مقسمة الى (خطرة جدا؛ وخطرة؛ وعلى الله!!!) فسألته وما هي مناطق على الله؟ قال: انها ضواحي بغداد البعيدة فهذه اما ان ترجع منها سالما او نادما او لا ترجع منها ابدا......

قلت لصاحبي : سأروي لك حكاية من الماضي تقترب في جوهرها مما رويته مع الفرق الشاسع في السبب والاتجاه: ـ روى لي والدي المرحوم خليل عزمي قائلا؛ كنت متصرفا للواء ديالى عام 1935؛ وكان همنا ان نبذل قصارى جهودنافي تحسين صورة اللواء من جميع النواحي العمرانية والبلدية؛ وحيث ان ميزانيتنا كانت ضئيلة الى حد بعيد؛ فقد كنا نستعين بتبرعات الموسرين من كرام ابناء ديالي لتأمين الانفاق على تلك الامور الملحة. كانت الحكومة تأكد على تحسين الطرق وتبليطها؛ وبخاصة الزراعية منها او تلك التي تقع في المناطق الحدودية كحدود قضائي خانقين ومندلي وما عليها من قصبات متماسة كقصر شيرين وقرتو ونفط خانة...الخ لهذا فقد بذلنا المستحيل لاكمال الطرق الواقعة ضمن الخطةالمقررة خلال ستةاشهر اي قبل قدوم موسم الشتاء؛ لقد اكملنا اكثر من 90 بالمائة منها وبمبالغ زهيدة لم تؤثر على ميزانية اللواء.
علما بان ذلك التبليط كان يتم يدويا وبواسطة (المشاجب) الخشبية.
كان فخامة ياسين الهاشمي رئيس الوزراء معروفا بالمتابعة الجدية الحازمة وبخاصة من خلال جولاته التفقدية لجميع الوية العراق؛ وكان من ضمن جولته في تلك السنة؛ لواء ديالى يصحبه فيها بعض الوزراء والمسؤولين الآخرين؛ وما كاد يصل الى بعقوبة ويتفقد المدينة و دوائرها حتى امر بالانطلاق نحو الحدود الشرقية لتفقد جميع القرى ونقاط الحراسة. كان السائق يسير في طرق مبلطة باعتدال؛ ولكن ما كدنا نصل الى قره تو حتى مررنا بشارع قصير لم يستكمل تبليطه بعد اذ بدى على السيارة بعض الاهتزاز؛ فما كان من الهاشمي الا ان اطلق احدى دعاباته القليلة جدا بقوله (هذا اشلون طريق....يبين احنا لو ما عدنا حكومة؛ لو الحكومة غافية ) وضحك ساخرا وهو يشير الى نفسه والينا فضحكنا جميعا وفهمنا ما اراد التصريح به؛ اي اراد القول ما عسى الحكومة ان تكون؛ والسيارة تحمل رئيس الوزراء ووزير الداخلية ومتصرف اللواء .
وبايجازفقد كان القصد من تلميحه الذكي بتلك العبارة غير المباشرة ليس هو التأنيب بقدر ما كان ايحاءا لنا بأن نسأل انفسنا؛ اذا كان رئيس الوزراء يتفقد ويتوقف عند مثل هذه الامور الصغيرة؛ فماذا عساه يفعل مع متطلبات القضايا الاساسية الهامة؟!!

المراقبة والمحاسبة

قبل فترة من الزمن كنت اتابع برنامج الاعلامي الكبير حمدي قنديل (قلم رصاص)الذي يقدمه بنجاح من فضائية دبي؛ وكان قد استضاف الدكتور حسن خريش الذي كان بشغل سابقا رئاسة لجنة الرقابة الفلسطينية اي قبل الانتخابات التشريعية الاخيرة؛ لقد كان الموضوع الاساس في تلك الحلقة يدور حول التحقيق في بعض جوانب الفساد الاداري؛ وقد اجاب الدكتور خريش بما مفاده : (حينما كنا نضع ايدينا على بعض مخالفات الفساد لبعض الاشخاص؛ ونقدم الدليل على تصرفاتهم غير القانونية؛ مطالبين باتخاذ الاجرآءات العقابية بحقهم؛ كنا نرى العكس؛ حيث نجدهم قد رقوا في اليوم التالي ال مناصب ارفع...)

لقد سبق لي ان تحدثت في حكاية سابقة عن الارتكاب والمرتكبين (الحرامية) حينما كان الفساد المالي في(العراق الجديد) يدور في حدود الملايين؛ اما وقد استشرى وتجاوز المليارات؛ في سباق النهب المارثوني المحلي والعالمي؛ فان الحكاية التالية قد تكون فيها عبرة ودرس لاؤلئك النهابين الذين جعلوا من خزينة الدولة مصدرا ثابتا من مصادر الدخل لهم ولأسرهم.

لقد كنت اتحدث بهذا الموضوع المخجل مع مدرسة متوسطة متقاعدة قضت 30 عاما من حياتها في تدريس طالباتها المثل العليا والعبر والحكم القويمة وتعليمهن معنى النزاهة والسلوك الحسن؛ على قاعدة (ابدأ بنفسك فانهها عن غيها...) و (وانما الامم الاخلاق ما بقيت...)؛ لهذا لم تستطع ان تدخر(وزوجها الكاتب في دائرة البريد) اكثر من مبلغ متواضع اشتريا به نصف مشتمل(في السطوح)لا تتجاوز مساحته ستين مترا مربعا في منطقة شعبية نائية.لقد علقت تلك المدرسة الكريمة على ذلك الحديث بقولها؛؛ هناك حكمة لا اتذكر صاحبها تقول (استمر في اعطاء الحبل للطماع؛ اذ سيشنق نفسه به) والآن سأروي لك حكاية ذلك الوالي الحكيم والشرطي الخبيث اذ ربما تصل من احد قرائك الى حرامية (النهضة الحديثة) الذين يعنيهم الامر فيأخذ بعضهم منها عظة قبل فوات الاوان.

كان في العهد العثماني شرطي (جندرمة) اسمه (حقي ــ ابو اسماعيل)؛ شديد القسوة على الباعة الجوالين واصحاب الدكاكين والحمالين؛ مما اضطر المتضررون ان يشكوه الى الوالي؛ فما كاد الوالي يستمع اليهم حتى امر بترفيع حقي الى رتبة عريف؛ فدفعه هذا الترفيع الى التمادي في تصرفاته الشديدة؛ عندها اضطر هؤلاء الكسبة البسطاء مراجعة التجار الكبار للتوسط لهم عند الوالي لعله يستجيب لهم نظرا للمكانة التي يتمتعون بها؛ زار اؤلئك التجار الوالي وشرحوا له حالة اؤلئك البؤساء تفصيلا؛ الا ان الوالي اصدر قراره بترفيعه الى رتبة رئيس عرفاء؛ فلما وجدوا ان كل ذلك لم يجد نفعا وان رئيس العرفاء ابا اسماعيل راح يمارس تصرفاته بشكل اعتى؛ وجد التجار من الضروري (وقد اهينت كرامتهم) مراجعة رئيسهم (شاهبندر التجار) و بعض كبار اعيان ووجهاء بغداد؛ فلعل الوالي سيستجيب لالتماسهم؛ فكان لهم ذلك؛ اذ ذهبت تلك الصفوة الى الوالي وقدمت اليه شكواها بتفصيل اوسع؛ فما كان من الوالي الا ان نادى على رئيس الحرس وبحضور؛ وقال له (لقد قررنا ترفيع رئيس العرفاء حقي الى رتبة ملازم) فما كاد علية القوم يسمعون بهذا القرار؛ حتى غادروا المكان خائبين وهم يلعنون الساعة التي التمسوا الوالي فيها؛ فلما اصبح حقي ملازما راح يصول ويجول ويصعد من اعتداءاته ورشواته حيث تجاوزت صغار الكسبة الى التجار والصناعيين وارباب الاعمال الاخرى؛. مرت على الوالي مدة طويلة ولم يراجعه احد بشأن (الملازم حقي) فوجد ان الوقت قد حان لتطبيق ما خطط له بحق ذلك المرتشي الاحمق؛ فأصدر ( فرمانا) قرر فيه انزال رتبة حقي الى شرطي عادي وذلك لسوء تصرفاته وسلوكه ونهبه ورشاويه؛ على ان يطلى وجهه باللبن الخاثر ويمتطي حمارا من الجهة المعاكسة؛ ويدور به الحرس في جميع المحلات التي عاث فيها فسادا من الصباح حتى المساء ليصبح عبرة لمن اعتبر. ولما نفذ الامر حرفيا وانتهت تلك الفترة المقررة ؛ لم يستطح حقي ان يتحمل ما آل اليه مصيره؛ فصعد الى اعلى منارة جامع سوق الغزل ورمى بنفسه بين الناس منتحرا.

الملك فيصل الاول والجراد

قال لي صاحبي؛ حينما كنت في بغداد مؤخرا؛ وجدت ان اغلب الضرورات الاساسية التي يطالب بها الناس؛ لا تجد لها آذانا صاغية؛ كالامن؛ الكهرباء؛ الماء؛ الغاز؛ الحصة التموينية؛ رفع النفايات؛ ضمان الحرية الفردية الخاصة .... الخ ولكن الذي ازعجني ايضا هو تلك الاوامر العشوائية التي تصدر من هنا وهناك بصراخ هستيري مرعب:
(ارفع الصبات الكونكريتية من هنا وضعها هناك؛ اوقف سيارة النقل العسكرية امام هذا الزقاق؛ امنع الناس من المرور الى السوق من هنا؛اطرد النساء المتجمهرات امام محطة الغاز.... الخ) ومن مكملات تلك الاوامرالاتي: ( اذا لم يتفرق هؤلاء.... استعمل ايدك؛ استعمل العصا؛ استعمل الصوندة؛ استعمل حزامك... الخ).كان صاحبي هذا منفعلا وهو يتحدث عن تلك الحالة المزرية التي وصلت اليها البلاد؛ قلت له سأروي لك حادثة قديمة تختلف من حيث الجوهر ولكنها تلتقي بالصيغة؛... وهي كالاتي:

اخبر كبير الامناء صفوت باشا العوا؛ الملك فيصل الاول؛ ان مدير شرطة البادية التقى بموظفي دائرة الزراعة و اعلمهم بان اسرابا من الجراد غادرت مواقعها وهي قادمة باتجاه حقول الزراعة في المنطقة الغربية؛ فلما سمع الملك بذلك الغى مواعيده و طلب التحرك فورا نحو المنطقه مع عدد كبير من افراد الجيش والشرطة وطلاب الثانوية لمساعدة ابناء العشائر هناك في المكافحة قبل ان يلتهم الجراد مزروعات الحبوب الاساسية؛ وفي فترة قصيرة من الزمن جرت الاتصالات الضرورية و استكملت الاستعدادات؛ فقاد الملك الحملة؛ وبعد ساعات من النقل المتعب؛ وصل الجميع الى تلك المنطقة الواسعة؛ حيث شاور الملك الخبراء الزراعيين ثم اصدر اوامره باتخاذ ما رآه مناسبا من استعداد تبعا لخبرته السابقة في شؤون المكافحة حينما كان في الحجاز. بعد نصف ساعة من الزمن بدأت اسراب الجراد بالهجوم؛ فطبقت الخطة وعولجت بنجاح؛ الا ان الجراد حشد صفوفه وهاجم المنطقة بقوة عنيفه؛ فأخذ المحتشدون يتصدون لتلك الموجات الواسعة بما لديهم من (غتر ـ كوفيات )؛ فما كان من الملك فيصل الا ان رفع مسحاته وهو يصرخ باعلى صوته (يا اخوان.. المكافحة بالمساحي.. مو بالغتر) فما كان من احد الفلاحين البسطاء الا ان اجابه بعفوية لاتعرف اسلوب مخاطبة الملوك بقوله (يا معود ليش بقت بيها مساحي يا فيصل افندي!!). واليوم أليس من حق احدهم ان يصرخ في بغداد باعلى صوته (ليش... يقت بيها موانع كونكريتيه يا..... افندي) ولك حرية اختيار الاسم الذي تجده مناسبا ليحل مكان النقاط.

الكرامة ... لقطة صغيرة

في كانون الاول من عام 1929 عينت حكومة الانتداب البريطاني السر فرنسيس همفريس مندوبا ساميا في العراق؛ فاقام حفل استقبال في دار المندوبية في الشواكة من الكرخ على نهر دجلة؛ ووجهت الدعوة الى عدد كبير من شخصيات العراق يوم ذاك لحضور الحفل.
كان السر همفريس يقف في صدر قاعة الاستقبال والى جانبه المترجم ثم كبار اعضاء المندوبية وعقيلاتهم؛ وكان المترجم يعّرف بالقادمين فردا فردا؛ ولما تقدم القائد العسكري والمؤرخ طه الهاشمي مصافحا المندوب السامي؛ قال المترجم معرفا (طه باشا الهاشمي اخو ياسين باشا الهاشمي رئيس الوزراء المعروف) فما كان من طه الهاشمي الا ان سحب يده من يد المندوب السامي فورا اعتزازا بكرامته وهو يقول (لست نكرة لكي اعرّف بأخي ياسين) وخرج محتجا؛ ولم تنفع معه كل الاعتذارات التي ابداها الدبلوماسيون البريطانيون علنا.وتناقلت مجالس بغداد هذا الموقف المشرف بكثير من الاكبار والتقدير. وللمقارنة بين مواقف مثل اؤلئك الرجال وبين ما آلت اليه الحال؛ يراجع كتاب بريمر (عامي في العراق) ففيه نماذج مشينة للاهانة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف