جلسات الحمار الوطني إلى أين؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سلطة برأسين. سلطة بجيشين. سلطة بمعدة خاوية. سلطة بنصف عقل. سلطة أفضل منها سنواتُ الاحتلال. حيث كنا محتلين، وكانت لنا مزايا وحقوق الشعب المحتل. أما الآن، فلدينا سلطة تحت احتلال. وبرلمان تحت احتلال. وميلشيات تحت احتلال. وتحوّل صراعنا، من صراع مباشر مع المحتل الغاصب، تجيزه لنا كل قوانين ومواثيق وأخلاق الدنيا، إلى صراع لا أخلاقي على رقعة شطرنج، بلا سيادة، نعرف أن كل خيوطها، ما زالت، تحت يد إسرائيل.
فتنة داخلية، تنذر بحرب أهلية. وميلشيات لفتح وحماس، تتقاتل على موقع هنا، وناصية طريق هناك. وجوه مقنعة لمسلّحين بجميع أنواع الأسلحة المحمولة. وفي كل مفترق وزاوية، ثمة العشرات منهم. عشرات يقفون لبعضهم البعض على أهبة إطلاق النار. هذا تعرفه من لحيته الخفيفة أو الثقيلة، وذاك تعرفه من كوفيته السمراء، كوفية أبو عمار. فيما شعبهم، الغلبان الصابر، العائش في أقصى الفجيعة، خائف منهم، وغير واثق من أمنه الشخصي وحقه البديهي، في أن يسير ويتجوّل في الشوارع، ثم يعود إلى بيته سالماً. ففي أية لحظة، ممكن أن تنفتح أبوابُ الجحيم. وممكن أن يموت المرء، بصدفة حمقاء، ثم يأتي أحد الطرفيْن، إلى أهله (أهل الميت) فيعتذر! هكذا هي الصورة، بلا رتوش أو ماكياج. تخرج من بيتك، لا لك ولا عليك، وتذهب إلى عملك، لا لك ولا عليك، فإذا بك، وأنت (المواطن الصالح)، في لحظة ما، ربما تجيء أثناء عودتك إلى أطفالك، تصبح (المواطن السابق)، و(الرجل الذي كان حياً قبل لحظات)!
أصبحت قيمة الإنسان الفلسطيني، في بلاده فلسطين، مجرد رصاصة طائشة واعتذار! ولقد حدث هذا معي، ومع زملائي في العمل، ظهيرة يوم الاثنين الماضي، حين انتهى دوامنا الرسمي في الوزارة، وركبنا باصها، عائدين إلى البيت. وعلى المفترق المحاذي للشرطة، بالقرب من المجلس التشريعي وسط مدينة غزة، توقفنا منتظرين أن تخفّ عجقة السيارات، فإذا بالجحيم تندلع فجأة بلا سابق إنذار.
مسلّحان من عناصر الأمن الوقائي، يمرّان بسيارة سريعة، ويطلقان رصاصاً على القوة الخاصة التابعة لوزارة الداخلية، ثم يهربان. فترد عليهم تلك القوة، بمئات الطلقات، ويصيبنا ذعرٌ جمّد الدماء في عروق المواطنين المارّين والمنتظرين، رجالاً وأطفالاً وشيوخاً ونساء.
لم نستطع النزول من باص الوزارة الصغير، والهرب، كما فعل غيرنا، ممن أتاح لهم مكانهم في الدور، فرصة أن يفعلوا ذلك. وكذلك لم نستطع الاستلقاء أرضاً، فنحن محشورون في الباص، ولدينا راكبان زائدان.
استمرّ الموقف المرعب، لمدة سبع دقائق، ظنناها سبعة دهور. النار تئزّ وتطيش من حولنا، وتمرق من فوق رؤوسنا، وكلنا مذهول مصدوم، يحاول أن يختبئ خلف زميله، جاعلاً من هذا الزميل، متراساً من لحم، يقيه الموتَ الأكيد!
نجونا بالصدفة المحض، وقد كان يمكن أن يموت بعضنا أو كلنا بالصدفة المحض أيضاً!
زميلتان صبيتان أوشكتا على الإغماء. وحين صرختُ فيهما أن تنزلا إلى أرضية الباص، بكتا ذلاً ومهانةً وعجزاً، فلا وسَعَ في الحيّز الضيّق، كي تستلقيان! أما بقية الزملاء، ومئات المواطنين الموجودين في تلك اللحظة، فعلى الأرجح، لن ينسوا هذا اليوم الموافق الثاني والعشرين من شهر أيار 2006، من روزنامتهم الخاصة.
كان يوماً رأينا فيه لأول مرة، فيلمَ رعبٍ بالبثّ الحيّ والمباشر. بضعة أمتار فقط تفصلنا عن المتقاتلين. بضعة أمتار ليست شيئاً في عُرف الرصاص المتطاير.
حين عدنا إلى البيت، وفتحنا مباشرةً على الفضائيات، علمنا أن تسعة مواطنين غزيين أُصيبوا، في الاشتباكات المؤسفة. وأن السائق الخاص للسفير الأردني في الأراضي الفلسطينية، السيد خالد الردايدة، قد قُتل. كان الرجل الراكب سيارة من نوع (أودي) تحمل لوحة أرقام دبلوماسية أردنية، مارّاً بالصدفة. ولسوء حظه، أُطلقت عليه النار في رأسه، فحدث تهتك في نسيج الدماغ، ومات قبل وصوله للمستشفى.
رجل في الرابعة والخمسين من العمر، جاء إلى عمله الدبلوماسي في غزة، معتبراً هذا نوعاً من الشرف الخاص والعام، فهو بتواجده بيننا، يخدم أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق، ويؤدي واجبه تجاه مصالح الشعبين-التوأم.
جاء الرجل، وربما للحظة، فكّر في إمكانية استشهاده، برصاص المحتلين الغزاة. فلا شيء بعيد عن يد وإمكانيات الاحتلال. وكل ما يقع في نطاق السلطة الفلسطينية، من مبان وأفراد، من حجر وشجر وطير وبشر، معرّض للقصف والموت.
لكنني أراهن، أنه لم يفكر ولو لثانية واحدة، في إمكانية موته على أيدي فلسطينيين! كله إلا هذا، فهذا لا يصحّ، ولا يستسيغه عقلٌ ولا حتى مخيّلة!
ومع ذلك، مات الرجل، فأثبتَ " الواقعُ " أنه أكثر وأبعد وأعمق سرياليةً من أعتى مخيلة لفنان صعلوك!
لقد انتصر الواقعُ على الفنتازيا في فلسطين الحديثة! ففي بلاد العجائب والغرائب هذه، كل شيء متاح، من أصغر الجرائم حتى أكبرها. لكأننا حقاً نعيش مشهداً درامياً في أحد فصول (الأخوة كرامازوف). أو مشهداً مماثلاً في رواية (الإخوة الأعداء) لكزنتزاكس.
نعم : إخوة أعداء يتصارعون على سقْط سلطةٍ بلا سلطة، على فتات اللاشيء. بدل أن يتحدوا ويجتمعوا، ليتدبّروا حلاً لحصارهم المادي والمعنوي. وليفتحوا أفقاً أمام عتمة مصيرهم.
أعداء، وإن كانوا أخوةً، ولا نعرف أعداء على ماذا حقاً ؟
واليوم، تبدأ ثانيةُ أو ثالثةُ جلسات الحوار الوطني العتيد، في كل من رام الله وغزة. ومع أني غير متفائل البتة، إلا أني وكل شعبي، ننتظر على أحرّ من الرصاص، عودةَ الوعي والروح والعقل والآدمية والإنسانية لهؤلاء المجتمعين!
وإلا فهي الكارثة موشكة على الحلول!
الكارثة ونقطة على السطر.
فهل يفهم أخوتنا فداحة المرحلة التي يعيشونها؟ وهل يكونوا على قدر المسئولية التي وضعها أمانةً في أعناقهم، شعبُهم المعذّب؟ هل يضعون فلسطين، بالفعل لا بالشعارات الجوفاء، فوق مصالح تنظيماتهم جميعاً؟ لقد ملّ وطهق شعبنا، المحتلّ المحاصر، من ثنائية الرعب، المسماة "فتح وحماس". وإنه ليريد الآن، بلا تأخير، حلولاً وسطى بين الطرفين. وإجماعاً على قواسم مشتركة، وقبل وبعد ذلك، يريد أن يخرج الجميع برؤى سياسية واقعية معقولة، تجنّبه مغبة الحصار الدولي والعربي، وتجنّبه، قبل كل شيء، خوفه المزمن من وشوك وقوع حرب أهلية.
فهل يخرج علينا حوار المجتمعين بحبل خلاص، أم أن كل طرف سيظل قابضاً على موقفه ومتعصباً له، ولا يرى سواه في الساحة؟
نخشى، ولا نخفي التصريح بذلك، أن تتمخض جلسات الحوار الوطني الحالية، عن فأر، كما هي عادتنا التاريخية، في هذا النوع من الجلسات، طوال أربعين عاماً منصرمة. فقد كان أبو عمار، كلما ضاقت وتأزمت عليه أمور داخلية، دعا إلى جلسات حوار وطني، لا يحاور فيها أحداً سوى ذاته.
وعليه، فنحن نخشى الآن، من أن يتحوّل الديالوغ الوطني، إلى مونولوغ وطني. فتصحّ النكتة الفلسطينية الشهيرة في هذا الخصوص، ليكون الحوار الوطني، وبفضل جهابذة المناضلين والمجاهدين، حماراً وطنياً بامتياز!
بيد أن ثمة نقطة جوهرية لا يجوز التغاضي عنها في جلسات الحوار هذه، وهي أنه، ولأول مرة في تاريخ الفلسطينيين المعاصرين، يتعرّض وطنهم وشعبهم إلى إمكانية الخراب الجدية، وعليه، فلا بد من إنقاذهما- الوطن والشعب، قبل عضّ أصابع الندم بعد فوات الأوان.
لتتفقوا على ما تتفقون أيها الأخوة. حكومة إنقاذ. حكومة وحدة وطنية. حكومة تكنوقراط. أو العودة إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى، وانتخاب مجلس تشريعي جديد، ورئيس فلسطيني جديد.
كل ذلك مهمّ، لكن الأهمّ والأولَى بأن يعلو سلم الأولويات، هو أن تعرفوا وأن تحسّوا، بأن شعبكم الذي انتخبكم، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، شعبكم هذا، ولأول مرة في تاريخ الصراع الدامي، معلّقٌ الآن، في أعلى نقطة من المسرح، بلا شبكة أمان.
هذا هو الأهمّ، فبالإضافة إلى خطر وجودي خارجي، سياسي واقتصادي بالأخصّ، ثمة خطر وجودي داخلي باندلاع حرب أهلية، ستؤدي بنا، لو لم نفعل كل شيء في سبيل منعها، إلى الغياب عن الخريطة السياسية لهذا العالم. وربما العودة المشئومة، إلى حقبة سوداء من التاريخ، حين كان كل العالم يتعامل معنا، لا كقضية سياسية، ولا كشعب له حقوق، وإنما من منطلق إنساني، منطلق الشفقة والتبرعات وغوث اللاجئين!
اجتزنا يوم انتخابات نزيه وشفيف. وجاء الدور الآن، لكي تحكمنا آليات الديمقراطية الحقة، من أنظمة وقوانين، يجب أن تكون في خدمة الجميع، ولكن، قبل ذلك، يجب أن تسير على الجميع، وأن تظلّ فوق الجميع!