المأساة المصرية وترمومتر لينا الفيشاوي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وصلت مأساة الطفلة لينا الفيشاوي إلى نهاية سعيدة، بفضل القضاء المصري الشامخ، القلعة الصامدة حتى الآن، في زمن التصدع والانهيار المصري، تصدع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن قبل الكل تصدع الإنسان المصري، فأخيراً وبعد ثلاث سنوات من الانتظار على أبواب وفي قاعات المحاكم، وبعد العشرات من اللقاءات والمناظرات التليفزيونية، وبعد نقاشات مجتمعية ساخنة وصاخبة، أخيراً عثرت الطفلة لينا على والدها الذي كان أمامها طوال الوقت، لكنه اختار أن يتوارى عنها خلف أكوام كثيرة من القش، وخلف غلالات كثيفة من الضباب.
أزعم أن قضية الطفلة لينا هي أخطر ما دار حوله النقاش في مصر من قضايا، أخطر من قضية الديموقراطية وتداول السلطة، أخطر من قانون الطوارئ ومن قضية التوريث ومن تعديل المادة 76 من الدستور، أخطر من تفجيرات طابا وشرم الشيخ ودهب، أخطر أيضاً من الفتنة الطائفية بما فيها من عنف ودماء، أخطر من الفساد المستشري في مؤسساتنا حتى النخاع، هي أخطر من كل هذه الأمور المزلزلة لأي كيان، لأنها تنبت مباشرة من الجذر الذي أنتج لنا كل ما سبق ذكره من قضايا وبلايا، أيضاً تمثلت في مشاهد وفصول تلك المسرحية المهزلة، كل معالم المأساة المصرية.
القصة في بساطة هي زواج عرفي بين شاب وفتاة من صفوة المجتمع، انتهي بإنجاب طفلة واختفاء عقد الزواج العرفي، وتبرؤ الأب من الأم والطفلة، فيما أخذت الأم على عاتقها إثبات حق ابنتها في الانتساب إلى أبيها.
كانت هذه القصة ستكون تافهة بجدارة، لو تمت أحداثها في دولة ومجتمع سليم ومعافى، مجتمع يحكمه عقد اجتماعي يليق بالعصر الذي نعيشه، مجتمع يحترم الإنسان فيه ذاته، قبل أن يطالب الآخرين باحترامه، ولأن الأمور في مصرنا الحبيبة ليست أبداً كذلك، فقد جاءت القصة مثيرة ومصرية بامتياز، وأدى الأبطال والكومبارس أدوارهم أيضاً كمصريين بامتياز.
كان الأب الشاب مصرياً بامتياز، حين خان عهده مع الفتاة التي سلمت نفسها له ووثقت في تعهده الشفوي والكتابي، وكانت الفتاة كذلك مصرية حين قبلت على نفسها الحياة السرية، ولم تمتلك ما يكفي من الإباء والشجاعة بأن تصر على الحياة في النور، سواء انصياعاً لتقاليد المجتمع أو تحدياً لها.
كان الأب الشاب أيضاً مصرياً، حين تخلى عن خياره الخاص، انصياعاً لرأي والديه، اللذين هما ويا للحسرة فنانين، ومن المفترض أن يكونا في طليعة المجتمع التنويرية، فنحن على هذا النهج نربي أبناءنا، بداية من احتفال "السبوع" الذي نقيمه للوليد، ويتبادل فيه الأهل هتك أذنيه بعبارات: "اسمع كلام أمك وما تسمعش كلام أبوك"، "اسمع كلام أبوك وما تسمعش كلام أمك"، وعلى هذا النمط من التعاليم ينشأ الطفل ليكون ظلاً ذليلاً للكبار العارفين بكل ما هو صحيح ومقدس، ينشأ الطفل ثم الشاب والرجل، ليصير كياناً خاوياً، لا يصلح لمواجهة الحياة، بل لا يصلح أصلاً للحياة.
كان الأب الشاب مصرياً بامتياز حين لجأ أيضاً لمشايخ الإفتاء، واثقاً أن في صندوق باندورا ما يسانده في هروبه من تحمل مسئوليته، ويضمن له في ذات الوقت دخول الجنة، وكان المشايخ عند حسن ظنه في أدائهم المصري، توظيفاً للدين في خدمة السلطان والمال.
أما المجتمع المصري الذي نام أطول مما ينبغي في مياه التخلف الراكدة، فلم يعر الطفلة لينا أدنى اهتمام، فاحترام الطفولة والإنسانية أم غير وارد في قاموس الأخلاق والتقاليد المصرية العريقة، لكن الجميع راحوا يجرمون المرأة الأم، ويكيلون لها الاتهامات من زاوية الحرام والحلال، والطريف بل والمصري جداً أنني لم أكد أسمع لوماً أو تجريماً للرجل الأب، وللمراقب من أي مجتمع متحضر أن يفغر فاه مندهشاً من مجتمعنا، الذي يدعي أنه مجتمع الأخلاق والفضيلة، فيما يجرم طرف واحد على فعل لا يرتكبه إلا اثنان!!
القانون المصري أيضاً لم يكن أقل مصرية من سائر مكونات المجتمع، فهو حافل بالدهاليز التي يدخل فيها المتقاضي لينعم بالضياع، لا بالحصول على حقه، قانون مهلهل كسائر وكافة مؤسساتنا ونظمنا، خليط غير متجانس من المواد التي ينتمي بعضها للجمود البيروقراطي، وبعضها لحقوق الإنسان، والبعض الآخر لمعايير الحرام والحلال، هذا غير الثغرات الكفيلة بتمرير جمل من ثقب إبرة، والتي يجيد الكثيرون السير فيها، تلاعباً بروح القانون وهيبته، وانتهاكاً لمفهوم العدالة.
ولأن مصر رغم الحالة الحضارية والثقافية المتردية، لم تعدم بين الحين والحين أبطالاً، يحملون على كاهلهم رسالة إيقاظ المجتمع من غيبوبته، فقد ظهر على المسرح أبطال يجوز أن نصفهم بالمصرية، ولو لمحاولة تجميل وجه مصر، كان هناك د. الحناوي والسيدة الفاضلة زوجته، والدا الأم الشابة، ها هما زوجان قررا أن يواجها مأساة حفيدتهما بالشجاعة والمكاشفة، وليس كما درج المصريون بالتكتم والتزييف والخسة، لم يحاولا إغلاق الباب الذي يأتي إليهما منه الريح، جرياً على المثل المصري الأثير، قررا أن يخوضا الحرب بنبالة وشجاعة منقطعة النظير، أتصور أنهما وضعا نصب أعينهما ليس حفيدتهما فقط، وإنما أيضاً آلاف مثلها، وضعا أمام أعينهما المجتمع الغارق في سبات التخلف والقيم البالية، التي تسحق الإنسان والإنسانية، لم يتبنوا قضية وشعارات من تلك التي تداعب عواطف الغوغاء، كما يفعل المناضلون والمجاهدون من المتاجرين بالأيديولوجية والدين جلباً للشهرة والمال، كانت قضيتهما شائكة، ومقولاتهما مفاجئة ومذهلة، وكانا يعرفان بالقطع ما سينالهما من قذف أحجار، سواء من الجماهير المتحجرة والمتسممة عقولها، أو من كهنة الفضيلة والحرام والحلال!!
أظهرت المسرحية أيضاً أن صفوة مصر لم تعدم بعضاً من الأحرار المتحمسين للدفاع عن إنسانية الإنسان، كل تلك المظاهر يجوز لنا القول بثقة أنها كانت مصرية، فقط النهاية السعيدة للقصة، لا نملك إلا أن نقول أننا نتمنى أن تكون قصة مصرية معتادة ومتكررة في سائر معارك الحرية.
تحدثنا عن الجزء الظاهري من القصة، لكنها بالحقيقة قصة مصر والإنسان المصري، فهي تضع قوانيننا وأفكارنا وقيمنا، بل ونهج حياتنا كله، في مواجهة أمام موقع الإنسان المصري من مفاهيم حقوق الإنسان، وهي أهم ما يميز العصر الذي نعيشه.
اختلاف المجتمع وتضارب آرائه إزاء تقييمه لتصرف الأم الشابة أمر منطقي، فللمجتمع المصري قيمه الأخلاقية التي اعتاد العيش بموجبها، كما اعتاد التستر والتكتم على أي خروج عليها، ولقد خرجت الأم الشابة عن هذه التقاليد، كما انتهكت - وربما هذا هو جرمها الأكبر في نظر المجتمع - ميثاق التكتم غير المدون.
لكن عدم الاكتراث بمصير الطفلة لينا، بل والعبارات العدائية غير الإنسانية التي قيلت في حقها، مثل القول باعتبارها لقيطة، وبإلقائها في ملجأ للأيتام، وغيرها كثير من العبارات والتصريحات العدائية، والتي اقترف الكثير منها بعض ممن يعدون أنفسهم مفكرين في هذه الأمة، هذا الموقف يفضح الحالة المأساوية لحقوق الإنسان في ثقافة هذا الشعب، فلقد درجنا على نسبة انتهاك حقوق الإنسان إلى الحكام، رغم أن الحاكم مهما بلغ جبروته، ومهما كان عدد من يسخرهم لخدمته، فإنه لا يستطيع انتهاك حقوق شعب يؤمن بقدسية الإنسان، وليس فقط بقدسية نصوص تراثية، وقدسية القائمين على تفسيرها.
لقد ربح د. الحناوي والسيدة زوجته قضية حقوق حفيدتهما لينا، فهل يربحان قضية احترام الشعب المصري لحقوق الإنسان؟!
kamghobrial@yahoo.com