أدب القضاة (7)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
خيري العمري
تحتل الاسرة العمرية في الموصل الحدباء مكانة مرموقة بين عوائل هذه المدينة العريقة؛ فقد طلع على شرفاتها كثير من الساسة والادباء والشعراء والقضاة والفنانين والعسكريين والمربين... الخ وقد كان لي ان اتعرف على كوكبة لامعة من ابنائها النجب ومن بينهم الصديق الزميل القاضي الاديب خيري أمين العمري في اوائل الستينات من القرن الماضي. قبل ان اتعرف على خيري العمري شخصيا في الستينات من القرن الماضي؛ كنت قد قرأت له كتابه المشوق (شخصيات عراقية) ثم كتابه الممتع (حكايات سياسية ـ من تاريخ العراق الحديث) وجملة من مقالاته وبحوثه ودراساته التي اثبت فيها تضلعه في مجريات احداث العراق المعاصر؛ وكان يتوزع قلمه فيها على الوقائع تارة وعلى الشخصيات المؤثرة تارة اخرى.وكأي كاتبين متمرسين؛ تجاذبتنا علاقات متقاربة في الاتجاه والهدف من خلال النشر او حضور الندوات والمحاضرات والمجالس الادبية البغدادية.حتى كان ان انتخبت عضوا في مجلس ادارة نادي المنصور المشهور؛ واصبحت رئيسا للجنة النشاط الثقافي والاجتماعي فيه؛ عندها اشتدت اواصر التعاون معه وكان من نتيجة ذلك تقديم سلسلة من النشاطات والفعاليات؛ كالليلة الموصلية التي اعطت صورة صادقة عن تلك المدينة العريقة الباذخة في ادبها وفنها وشعرها؛ والاصيلة في تراثها الثقافي والاجتماعي؛ وعند رحيل السيدة ام كلثوم في عام 1975عملنا بكل امكانياتنا لتقديم ليلة مشهودة تليق بمكانة تلك الفنانة العظيمة شارك فيها عدد من صفوة المجتمع العراقي.اضاة الى ذلك قد قدمت تلك اللجنة النشطة جملة من الندوت الادبية والنية و الشعرية والمحاضرات شاركت يها نخبة بارزة من وجوه الثقافةالعراقية المعاصرة.
كان خيري العمري شعلة من نشاط وحيوية؛ لا تلتقي به في محاضرة او ندوة؛ الا وتجده بعدها في مناسبة اجتماعية او انسانية؛ كان قريبا جدا من الحزب الوطني الديمقراطي وزعيمه كامل الجادرجي؛ ولكن معارفه من الشخصيات النافذة التي كان لها تأثيرها البارز في الساحة السياسية بعامة كانوا يغطون مختلف التنظيمات والفعاليات العامة الاخرى ك حكمت سليمان ومحمود صبحي الدفتري؛ ومحمد حديد؛ وحسين جميل وفائق السامرائي وقاسم حسن وعبد الوهاب محمود وسعد صالح ومصطفى العمري ومزاحم الباجه جي والشيخ رضا الشبيبي وروفائيل بطي وعبد الجبار الجومرد وهاشم جواد.... الخ وقد افاد ـ كمؤلف وباحث ـ من هؤلاء وعشرات غيرهم من جمع وتحقيق وتدقيق ما كان لديه من معلومات وغربلتها؛ واستخراج المفيد منها خدمة للحقيقة التاريخية والاجيال القادمة.
لقد نشر كثيرا من نتاجه في صحف ومجلات رصينة متنوعة؛ داخل العراق وخارجه كالاهالي وصوت الاهالي والبلاد؛ والشعب ؛ والحياة؛ والاديب؛ والهلال والاقلام ودراسات عربية وآفاق عربية والتراث الشعبي والاقلام والجزيرة والبلد والاتحاد... الخ ولم تكن اهتماماته تنصب فقط على الادب والتاريخ والسياسة وحسب؛ بل كانت تغطي مساحة واسعة من التراث الشعبي؛ والغناء والموسيقى والفنون التشكيلية؛ ويا طالما اقام حفلات خاصة في بيته او في بساتين اصدقائه في الفحامة او في بستان آل الدفتري في الحفرية لشخصيات بارزة في القانون والادب والشعر تخللتها نشاطات شعرية وادبية وموسيقية و غنائية رصينة من تراث العراق في المقام. ومنها ذلك اللقاء الفريد الذي جمع الادباء و الشعراء نزار قباني؛ والدكتور مصطفى كامل ياسين؛وعبد الصاحب المختار؛ وبشير الخالدي؛ واسماعيل القاضي؛ ومحمد الروزنامجي؛ واكرم الوتري ومجموعة مميزة اخرى من المهتمين بالنشاطات الثقافية المختلفة حيث امتعنا الراحل نزار قباني بباقة من روائع قصائده المنتقاة التي كان يلقيها بينما الموسيقى الهادئة تشنف الاسماع عن بعد.
يحتفظ خيري العمري في مكتبته الخاصة بمئات الاشرطة والسلايدات والصور والجزازات المتنوعة والصحف والكتب والموسوعات الهامة؛ التي تؤرخ لمختلف جوانب عمله القانوني والادبي والتأريخي الى جانب هواياته المنوعة التي اشرنا اليها . وقد كانت تلك المكتبة الثرية رافدا مهما من روافدالمعرفة لكثير من الباحثين والمتتبعين و طلبة الدراسات العليا؛ حيث افادوا منه ومنها ؛ كما تشير الى ذلك كثير من رسائل التخرج الجامعية وكتب البحث المطبوعة على مدى التعاون والارشاد الذي قدمه الباحث العمري لطليعة مثقفة من الشباب العراقي.
بدأ خيري العمري حياته القانونية في اوائل الخمسينات؛ حينما تخرج في كلية الحقوق؛ حيث عمل في المحاماة؛ وانتظم في السلك القضائي كمحقق عدلي في حاكمية تحقيق الرصافة؛ نقل بعدها الى نيابة الادعاء العام؛ ثم عين مدونا قانونيا؛ واعيد بعدها الى الادعاء العام؛ لينقل منها قاضيا لمحكمة بداءة بغداد؛ وينتدب منها الى التدوين القانوني مع الاحتفاظ بصفة الحاكمية وبعد ان قضى مدة ة في منصبه هذا اعيد مرة اخرى الى محكمة بداءة الرصافة.في هذه المرحلة من ذروة النشاط الثقافي والقانوني؛ وبينما كان منكبا على عمله الواسع والمرهق؛ اصيب فجأة بنزف في الدماغ؛ نقل على اثره فورا الى المستشفى التخصصي حيث أجريت له عملية جراحية مستعجلة؛ استطاعت ان تنقذ حياته لكنها لم تستطع ان تعيد له كامل الحركة والنطق بالرغم من العلاج المتقن الذي أخذه في مستشفيات مصر المتخصصة. وبعودته الى بيته؛ استطاع معاودة قراْة الكتب الحديثة التي تهمه وكذلك الصحف والمجلات وما الى ذلك. كما راح يستعين بدفتر خاصالى جانبه بكتابة ما كان يريد التعبير عنه واطلاع الآخرين على ما كان يدور في خلده؛ وبخاصة اثناء انعقاد مجلسه الاسبوعي الذي كان يحضره العشرات من اصدقائه وعارفي فضله؛ ذلك المجلس الثقافي الذي ظل مستمرا على استقبال زواره تثبيتا لاواصر الصلة وتمتين العلاقة وتبادل الآرآء.
جاورت خيري العمري واسرته الكريمة في المنصور من الكرخ ؛ وارتبطت عائلتانا بروابط حميمية متينة ظلت متواصلة حتى بعد انتقالها الى بيتها الآخر قرب بارك السعدون في الرصافة. كما زاملته في رئاسة التدوين القانوني (مجلس شورى الدولة) في غرفتين متجاورتين وفي الهيئة القانونية الثالثة لمدة خمس سنوات؛ فوجدته جادا في العمل؛ حريصا على انجاز ما يعهد اليه من مهام في مجالات التدوين الثلاثة (التشريع؛ الرأي؛ الانضباط)؛وفي كل تلك السنوات لم اسمعه مرة متذمرا او شاكيا من زخم العمل وكثرته؛ كما لم اجده بعيدا عما يطرح من ارآء اثنا ء اجتماع الهيئة الخاصة او العامة؛ كانت مشاركته فعالة وجدية؛ بل كان حريصا على معرفة كل ما يتوجب عليه الاحاطة به معلومات حول الموضوع المطروح للنقاش ؛ وكان لمكنته اللغوية وسعة اطلاعه الثقافي الاثر المهم في اضافة التعديلات المفيدة على المادة المطروحة اثناء المداولات اليومية او فيما بعدها؛ وذلك من خلال مذكرات لاحقة توضح المداخلة وتغني وجهة النظر.
كان خيري العمري دمث الاخلاق؛ كريما؛ عفيفا في سلوكه ؛ ميالا الى اليسر المعتمد على الدقة والنص التشريعي والفقه القانوني الاصلح؛ لا اليسر الذي يعتمد الجانب العاطفي الآني ؛ ومما اذكره انني ترافعت امامه في نهاية عام 1979بعد ان احلت على التقاعد وانا في التاسعة والاربعين من العمر !!! وعدت الى ممارسة المحاماة مجددا ؛ وكان قاضيا لمحكمة بداءة الرصافة؛ في دعوى تعويض عن مواد كثيرة تعود الى شركة مؤمن عليها لدى شركة التأمين البحري العراقية.كانت وثائق الاضبارة ضخمة للغاية؛ وفيها مستندات باللغة الانكليزية؛ لايمكن البت فيها الا اذا ترجمت ؛ فطلب (وكيل المدعى)؛ تأجيل الدعوى؛ وأيدته (كوكيل للمدعى عليه) في طلبه الا ان القاضي العمري؛ اراد البت في الدعوى وعدم التأجيل؛ فقرر احالتها الى ثلاثة خبراء ؛ ثم طلب من كاتب الضبط الاتصال بهم قبل انتهاء الدوام الرسمي وتسليمهم الاضبارة لكي يبدأوا بمهمتهم فورا وذلك لاهمية القضية وضرورة االانتهاء منها باسرع وقت.
كتب خيري العمري عشرات الدراسات والبحوث في مواضيع سياسية وتأريخية وادبية منها : نقد ديوان خفقة طين؛ معركة السفور في العراق؛ ذكريات عن كامل الجادرجي؛ جريدة الاهالي؛ عندما جاء موند الى بغداد؛ ياسين الهاشمي؛ فهمي المدرس؛ ابراهيم صالح شكر... الخ وقد نشر من الكتب المهمة : شخصيات عراقية؛ حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث؛ يونس السبعاوي سيرة سياسي عصامي؛ الخلاف بين البلاط ونوري السعيد.......
تميز اسلوب خيري العمري بالسلآسة والوضوح والدقة المعتمدة على الحقائق والوقائع والتحليل الاستقرآئي ؛ وكان بستند في كل ذلك على الاتصال الشخصي المباشر والاستماع الى ذوي الخبرة والمعرفة بخاصة اؤلئك الذين عايشوا الحدث الذي يبحث فيه؛ كما كان يلجأ كثيرا الى استكتابهم من خلال اسئلة يعدها مسبقا تسهل عليهم الاجابة وتعينه على الكتابة... كل ذلك من اجل تأمين وثيقة تكون مصدرا معتمدا في توضيح معالم الشخصية او الحدث الذي يدور حوله لب الموضوع الذي يبحث فيه.
واورد في ادناه نموذجين مجتزأين من كتابين له يدللان على اسلوبه التعبيري الجذاب : ــ
(وقد يرد الى الذهن سؤال من هي اول امرأة عراقية؛ رفعت النقاب عن وجهها وخرجت سافرة ؟ والحقيقة ان الجواب عن ذلك ليس من البساطة بحيث يكفي ان نقول ان فلانة هي التي اسفرت في عام كذا دون ان ندعم هذه الدعوى بما يقيم البينة عليها. نعم ربما يمكن القول ان بغداد لم تخل قبل عام 1932 من عراقيات رفعن النقاب عن وجوههن؛ ولعل عقيلة (حكمت سليمان) من بينهن؛ ولكننا لا نملك ان نقول انها اول من أسفرت من نساء العراق؛ لا سيما وان اكثر نساء الريف سافرات....... (من كتاب حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث)
(لا اشك ان الملك غازي بسبب قلة تجربته وحداثة سنه لم يتمكن من ان يواصل لعب الدور الذي لعبه فيصل الاول في اللجوء الى السياسة الموازنة بين مختلف القوى السياسية التي كانت تؤثر في الاوضاع السائدة؛ ولاسباب يطول شرحها؛ ربما كان اهمها موقف دار الاعتماد البريطاني منه. الذي ينطوي على عدم الثقة به والاطمئنان اليه جعل عهده على قصره خصبا بالمتاعب. (من كتاب الخلاف بين البلاط الملكي ونوري السعيد)