قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عام 1804 توفي عمانويل كانط، في بلدة كونغسبرغ الوادعة، الواقعة شمال شرقي ألمانيا. قرنان ونيف مرّا الآن على ذكرى رحيل "الفيلسوف الهائل والإنسان الطيب" - كما وصفه المفكر والفيلسوف الليبرالي كارل بوبر. قرنان بكل ما جرى خلالهما من حروب واكتشافات ومآس وانتصارات. قرنان باعدا في الشقة الزمنية بيننا، نحن أبناء هذا العصر، بين الفيلسوف المعتزل في أواخر حياته. لكن، هل حقاً بعُدت الشقة؟ وهل حقاً بات كانط، بعيداً، مثل طيف، عن اهتمام ومشاغل الإنسان المعاصر؟ قد يبدو هذا الرأي، معقولاً ومبرراً نوعاً ما، عند الإنسان الغربي. فعمانويل كانط، صار جزءاً تاريخياً من إرثه المعرفي، جزءاً كلاسيكياً كما يصحّ القول. لكن ماذا عن كانط عند الإنسان العربي، هنا والآن، بتعبير عبد الرحمن منيف؟ إن هذه المنطقة التي هي موطن الديكتاتوريات في العالم، أشد ما تكون حاجةً، وفي هذه الحقبة بالأخص، لفيلسوف التنوير الأوروبي والعالمي. فهي منطقة لم تدخل بعد زمن كانط، ولا أفكار كانط ولا أطروحات كانط، التي اجترحها قبل قرنين ونيّف. كانط الذي علّم مواطنيه الألمان، وعلّم مواطني العالم كله، أفضل وأنبل ما توصّل إليه العقل البشري الخلاق، من أفكار عظمى، تُبنى عليها الحياة الفاضلة والمستقبل الزاهر. كانط الذي علّم البشرية جمعاء، "حقوقَ الإنسان"، و"المساواة أمام القانون"، و"المواطنة العالمية"، و"السلام على الأرض"، وكذا، وربما كان الأهمّ، "التحررَ من خلال المعرفة"، حسب بوبر أيضاً. فهذه المنطقة المصرّة على تخلّفها، والعائشة في ظلام القرون الوسيطة ما تزال، والتي تجهد الآن لتعيد أزماناً وأفكاراً غير قابلة للحياة، لم يصلها كانط ولا أصداء كانط بعد. إنها تحيا في زمن ما قبل كانط. زمن العنف الغريزي، واللا مواطنة، والانسحاق أمام السلطة، وغياب القانون. دول لا تستحق توصيف الدول. وملايين الأفراد، مجتمعون، لصدف تاريخية وجغرافية، ولكنهم ليسوا "شعوباً"، ولا بقادرين على صنع "مجتمع ذي عقد اجتماعي". إنهم كائنات ما قبل الدولة والمجتمع والشعب. كائنات، لو استشهدنا بعبارة جوفنال المأثورة، والتي يقال إن كانط، طالما استشهد بها هو كذلك، لتذكّرناها على الفور، وكأنما هي من كان يعنيها جوفنال حين قال (ليس أشد هواناً على النفس من أن تطاطىء رأسها للعار والخزي، وأن يدفعها حبُ التمسك بالحياة إلى فقدان أسباب الحياة). أجل: إننا نحن العرب، هم من ينطبق عليهم توصيف جوفنال الآن. فنحن، كالحيوانات، تدفعنا غريزة البقاء والتمسك برمق الحياة، إلى فقدان الأسباب الحقيقية للحياة. المواطن عندنا هو "كمّ مهمل" في نظر السلطة العربية. كم بلا حقوق، قابل للاعتداء عليه في أية لحظة، ودون مسوّغات حتى! فمتى يأتينا كانط لنجدتنا قبل أن ننقرض! كانط الذي أعاد مفهوم المركزية للإنسان. كانط الذي جعل الإنسان هو مركز هذا الكون، وجعل الكون يدور حوله، لا العكس ولا النقيض! لا العكس ولا النقيض، ما تعدنا أصوليّاتنا الطالعة، وكما توهم جماهيرها الشعبية الغارقة في البؤس المادي والعوز الفكري. دول مرّ عليها الآن ستة عقود، ومع ذلك، لم تصنع مجتمعاً مدنياً، ولم تؤصّل لحقوق المواطنة. وبدلاً من هذين، دفعت جماهيرها إلى خضمّ الكارثة، مفسحة المجال للأصوليات السوداء، أن تملأ الفراغ، وأن تعيد إنتاج ما لا يمكن إنتاجه. إن العرب، قولاً وفعلاً، بأمس الحاجة إلى كانط الآن. كانط فيلسوف التنوير الأكبر، ورجل الإنسانية الأعظم في الأزمنة الحديثة. وما لم تفعل هذا، فسوف تظل أسيرة تخلّفها وضحية ذاتها قبل أن تكون ضحية الآخرين. فمن لا يتحرّك يتجمّد. ومن لا يتقدّم يتأخر. ولا أحد سيقلع شوك الآخرين نيابةً عن الآخرين. هذا هو عصرنا، وتلك هي قوانينه المكتوبة وغير المكتوبة. أما الذهاب إلى الميتافيزيقا، واحتقار الخبرات الحسيّة، وانتظار فتوى من هذا الشيخ أو ذاك، فليس إلا مزيداً من الإيغال في تخوم الكارثة. إننا بحاجة إلى كانط، لا يوسف القرضاوي. بحاجة إلى رسّو لا سيد قطب، بحاجة إلى مارتن لوثر كينغ لا أسامة بن لادن. بحاجة إلى المثقفين العرب لا الأمنيين والعسكريين العرب. كل العالم يمشي مع مسار التاريخ إلا نحن فنمشي ضد مسار التاريخ. لذا ليس غريباً، بل طبيعي تماماً، أن يلفظنا التاريخ خارجه، وألا يأبه بنا. فنحن الضحية والجلاد معاً وفي عين الوقت. نحن الضحية، إذ سمحنا لجلادينا من الحكام العرب، بإهانتنا وتجويعنا وسلبنا كرامة الكائن الآدمي. ونحن الجلاد، إذ سمحنا، بعد ذلك، لحفنة من المعوقين فكرياً، أن تقودنا، كالخراف الصغيرة، إلى مرابع التهلكة. يقول ميخائيل فارشافسكي راثياً صديقه يسرائيل شاحاك (إن دولة إسرائيل لم تنجب، خلال نصف قرن من وجودها، كثيراً من الرجال والنساء العظام. لا في حقلي العلوم والآداب، ولا في مجال الأخلاق. أبطال إسرائيل هم الجنرالات الصغار، والسياسيون ذوو الأفق المحدود، والكتّاب المعاقون أخلاقياً. والشخصيات الفكرية والأخلاقية الحقة تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. وقد كان يسرائيل شاحاك ولا ريب واحداً من هذه القلّة القليلة، إلى جانب خصمه القديم يشعياهو لايبوفيتش). إسرائيل التي بنتْ لمواطنيها دولة راسخة ومجتمعاً مدنياً، وحقوق مواطنة وطيدة، وحقوق إنسان لا يتطرق لها شك، وحياةَ رفاه اجتماعي، هي هكذا في نظر فارشافسكي. فماذا نقول نحن العرب، عن دولنا، وهي تقريباً من عمر دولة إسرائيل، بعد ستة عقود على تأسيس هذه الدول؟ الأرجح أن المقارنة محبطة بل شديدة الإحباط! محبطة إلى درجة الموت، لولا بقية من أمل. فالدولة العربية، مسخت مواطنها، تحت حجج جمة، وبمسوّغات لا يحصرها حصر. تارةً باسم الوطنية، وأخرى باسم الاشتراكية، وثالثة باسم الوحدة العربية، وطوراً باسم تحشيد القوى لتحرير فلسطين ومواجهة المؤامرة وخطر العدو الخارجي. ونسي هؤلاء الدوغماءات، أن فلسطين تتحرر بقدر ما يتحرر المواطن العربي من فقره وجهله. وأنها تتحرر بقدر ما تتحرّر المرأة العربية من ظلم الذكور العرب. وأنها تتحرّر بقدر ما يكون لدول الجوار من اقتصاد عصري حديث، ومن قوة وفعالية وحضور في العالم الراهن. أما مراكمة الصدأ على الصدأ، والخطايا على الخطايا.. أما الهروب إلى الأمام، وعدم مواجهة المشاكل بحلول عصرية، فهو ليس سوى تخلّ عن مواجهة المسئولية، وبالتالي تخلّ عن فلسطين وحل قضية فلسطين. ففلسطين، القضية والشعب، بحاجة إلى دول جوار قوية متقدمة متحضرة، أو قريبة من ذلك. فحينها وحينها فقط، تأمل فلسطين بتحررها. لقد خرجت من بلادي المحتلة، لأول مرة، بعد منعي من السفر لمدة 23 عاماً، فذهبت لزيارة مصر والعراق. ولكّم هالني مقدار التخلف الذي يقاسي منه مواطن تلك الدولتيْن. إنه مواطن الحد الأدنى من كل شيء، إذا جاز التعبير. مواطن الحد الأدنى، أي مواطن يخوض حرباً مع الضروريات الأساسية لعيشه. فكيف لمواطن بهذه الوضعية، أن ينجد أحداً، وهو ذاته بحاجةٍ إلى نجدة! عدت من هاتين الدولتين الكبريين عربياً وإقليمياً، وأنا جد قانط وجد محبط مما رأت عيناي وجاست قدماي! عدت لأقول لأصدقائي ومعارفي، أن لا أمل حقيقياً أمامهم للتعويل على هؤلاء الناس. فهؤلاء ضحايا، ومستلبون ومغتربون، وليس من أدنى المنطق، أن نعوّل نحن الشعب الواقع تحت الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، على ضحايا مثلنا وعلى مستلبين ومغتربين! منذ تلك اللحظة، لحظة عودتي إلى بلادي، ألغيت من قاموسي، مسألة " العمق العربي والإسلامي، للقضية الفلسطينية "! فهذا قول من قبيل الأوهام والأحلام، ولا من سند له على أرض الواقع. إن مقولة " فاقد الشيء لا يعطيه " تصحّ تماماً معنا في هذا السياق. وليس معنى ذلك، عدم محبتنا للعرب المحيطين بنا، بل على العكس، فنحن كفلسطينيين، جزء لا يتجزأ منهم، وثقافتهم هي ثقافتنا، وفضاؤهم التاريخي هو فضاؤنا، وإنما المقصود أن المريض لا ينتظر نجدة أو غوثاً من ميت أو متماوت. هكذا هو الحال، حتى لو احتاج الأمر، إلى مبضع قاس أو بعض قسوة! وعليه، فحين بدأت الانتفاضة الثانية، وتعالت الدعوات الحماسية للتعويل على الشارع العربي، كتبتُ حينها أحذّر جماهيرنا البسيطة من الوقوع في وهم هذا التبسيط. فلدى الشارع العربي من المشاكل المستعصية الحلول، ما يكفيه ويزيد عن احتماله. مشاكل فقر مدقع. مشاكل بطالة مرعبة. مشاكل وضع اقتصادي منهار..إلى آخره. بينما نحن المنتفضون، على الأقل حين بدأنا الانتفاضة، كنا أفضل حالاً على جميع الأصعدة المادية وغيرها، من عرب المحيط، بما لا يُقاس. لكننا، في غمرة انفعالنا، وفي غمرة انقيادنا إلى قادة غير حقيقيين، أضعنا كل هذه الميزات، لنعود الآن، وقد صرنا أسوأ حالاً من حال العرب المجاورين! بل صرنا الشعب المتسوّل، بين شعوب هذا العالم، بما لا يخطر على بال عاقل أو مجنون.
لذا، ولمليون سبب وسبب، لا بد من كانط وإن طال السفر في مجاهل المأساة!