بين السدة والدفة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من التغيرات الجذرية في النظام العراقي الحديث هي أنه ليس هناك سلطة مطلقة لأحد، فأجهزة الدولة المختلفة لا تنسجم بالضرورة مع رغبات أو سياسات الحكومة وفي أحيان كثيرة لا تأتمر بأمرها، خصوصا وأنها حكومة ائتلافية مكونة من عدد من الأحزاب والشخصيات المختلفة غير المتجانسة التي تمارس السلطة على انفراد وبقدر محدود قد لا يتفق كليا مع سياسات أو رغبات رئاسة الدولة أو الوزراء. من ناحية أخرى فإن البرلمان هو الآخر يقيد من حرية الحكومة ويضيق مساحة تحركها ويحاسبها وبالتالي يقلص من سلطتها وهذه هي مهمته الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضا الجمعيات والأحزاب والنقابات والمجالس البلدية ومجالس المحافظات والمحافظون والمجالس البلدية ومديرو البلديات ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من الهياكل المؤسساتية الجديدة التي تمارس قدرا من السلطة يجتزأ بدوره من سلطة الحكومة المركزية. وهناك أيضا القضاء الذي تعلو سلطته على الجميع، أو هكذا نفترض، فلا يستطيع أي مسئول في الدولة، بمن في ذلك رئيس الدولة أو رئيس الوزراء والوزراء، أن يتجاوز على القانون لأن ذلك سيجرده، نظريا على الأقل، من سلطته الممنوحة له بموجب القانون نفسه، وإن تجاوز فإن هذا التجاوز سيجل ضده وسيحاسب إن عاجلا أو آجلا. ورغم أن السلطات القضائية لا تزال ضعيفة في محاسبة المتجاوزين والمجرمين، إلا أننا نتوقع أن تزداد قوة القضاء مع ازدياد تماسك الدولة وقدرتها على تفعيل سلطة القانون.
ولا ننسى سلطة وسائل الإعلام التي اُعتُبِرت السلطة الرابعة في الدول الغربية حتى في العصور السابقة للنظام الديمقراطي الحديث، لكنني أميل إلى إطلاق صفة "السلطة الأولى" على الإعلام الحر المحايد الذي يتمتع بمهنية عالية لأنه يخيف السياسيين والمسئولين والمواطنين العاديين على حد سواء ويتحكم بنشاطاتهم ويضطرهم للالتزام بالقانون ويشكل سلطة رقابية تحسب لها المؤسسات العامة في الدول الديمقراطية ألف حساب. وكثيرا ما تناقش الحكومات والمؤسسات العامة والخاصة ردود الأفعال المحتملة لوسائل الإعلام قبل اتخاذها قرارا بهذا الاتجاه أو ذاك، بل إن توقيت القرارات المهمة يرتبط أحيانا بمواعيد نشرات الأخبار في القنوات الرئيسية، كأن تسعى الحكومة مثلا لإصدار قرار ما ليكون مادة رئيسية ضمن نشرة أخبار السادسة مساءا مثلا، كي تكون له أهمية متميزة بين الأخبار وكي يحظى بتغطية في أخبار وتعليقات الصحف في اليوم التالي. ولا أعتقد أن أحدا يزعم أن الإعلام العراقي قد وصل إلى هذه المرحلة أو اقترب منها خصوصا مع محاولات السياسيين التدخل في وسائل الإعلام بل وتقديم "المغريات" بكل أشكالها لبعض المحسوبين على الإعلام كي "يبرزوا" محاسنهم الكثيرة التي لا ينتبه إليها الناس العاديون على ما يبدو، مما يستوجب "تنويه" أو "تنبيه" الإعلام لها وربما تركيزه عليها حتى يصدقها الناس عملا بمبدأ غوبلز في الإعلام!
ومن الضروري أيضا أن نتذكر السلطة المعنوية الكبيرة التي يتمتع بها رجال الدين في المجتمع العراقي إذ يتبعهم الناس في أمور دينهم ودنياهم أيضا. هذه السلطة لا تتعارض بالضرورة مع سلطة الدولة بل ترفدها بالقوة وتسير إلى جنبها في الظروف الطبيعية، رغم أن التطرف المسمى دون وجه حق "تطرفا دينيا" والغريب على تقاليد المجتمع العراقي، يحاول أن يؤسس لسلطة مستقلة عن الدولة بل متعارضة معها ومتجاوزة عليها. لكن هذا النفر قليل ويستمد قوته من قوى خارجية معادية لقيام مجتمع متطور حديث في العراق. شيوخ العشائر والوجهاء والمبرزون في المجتمع هم الآخرون لديهم سلطة على قطاع كبير من المجتمع وهناك الآلاف ممن يسمعون آراءهم، والشيء نفسه ينطبق على الأكاديميين والتربويين عموما.
هناك سلطة أخرى في العراق قد لا تخطر ببال أحد، ألا وهي سلطة مجموعات حماية المسئولين والسياسيين والمتنفذين التي يعتقد أفرادها أنهم فوق القانون ومن حقهم أن يغلقوا الشوارع ويعطلوا السير ويطلقوا النار في الهواء (نحمد الله على ذلك) لإخافة الناس وإرهابهم وإيقافهم لتسهيل مرور شخصية ما من منطقة لأخرى، وكذلك منع الناس من الاقتراب من مناطق معينة لوجود مقر لحزب ما فيها أو لمجرد أن المسئول الفلاني يمتلك منزلا هناك قد لا يزوره سوى مرة أو مرتين في الشهر. والمسئول هنا ليس بالضرورة الوزير أو وكيل الوزير أو القائد العسكري أو القاضي أو المدير العام، بل يتعداه إلى صغار المسئولين الذين يشعرون بالخطر من قوى الإرهاب والجريمة المنظمة. لقد غيّر الخوف من الإرهاب والجريمة مجرى حياة الناس جميعا وأصاب النظم والقواعد العامة بخلل كبير. ويجب أن نعترف أنه ما لم تتمكن أجهزة الدولة من ملاحقة الإرهابيين والمجرمين وكشف خططهم وإحباطها قبل تنفيذها فإنها ستبقى ضعيفة في نظر الناس وسيكون لهذا الأمر تأثيرات مباشرة وبعيدة الأمد على الأمن والاستقرار في البلاد. إن كل ما تقدم من مؤسسات تنفيذية وتشريعية ومنظمات ونقابات وجمعيات وشخصيات وقوى أخرى أساسية أو طارئة يمارس قدرا من السلطة التي تنازلت عنها الحكومة المركزية أما مضطرة بحكم التزامها بالقانون والدستور، أو بسبب انعدام القدرة على ممارستها، أو بسبب تساهلها في تطبيق القانون سعيا منها لإرضاء مجاميع محددة ومن ثم كسب أصواتها في الانتخابات. ومن أجل هذا الهدف تتنافس الأحزاب السياسية في ما بينها وتحاول إبراز أخطاء المنافسين من أجل كسب صوت الناخب، وهذا التنافس يحد أيضا من سلطة الحكومة.
وفوق كل هذا وذاك هناك القوات الأجنبية الموجودة في العراق والتي تمارس سلطات حقيقية في جميع النواحي. فالمسؤولية الأمنية لا تزال بأيديها لأن العراقيين لم يتمكنوا حتى الآن من تقديم بديل وطني متماسك ولاؤه للبلد وليس للطائفة أو الحزب أو المنطقة أو الشخص. وحتى نتمكن من تأسيس أجهزة أمنية متماسكة تضطلع بمهمة حفظ الأمن الوطني فإن ما تبقى من سلطة سيبقى بأيدي القوات الأجنبية المتوزعة في كل أنحاء البلاد. لم نتحدث بعد عن سلطة المال. فأهل المال في البلاد، أي بلاد، متنفذون وقادرون على عمل ما لا يستطيع آخرون أن يفعلوه خصوصا في ظل ضعف أجهزة الدولة، وقد تمكن بعضهم من خرق القانون والإفلات من سلطته وهذه أمور معروفة بكل تفاصيلها لمعظم العراقيين. أما الدولة فليس لها أموال بل ديون وتعويضات للدول الأخرى جراء حماقات صدام ومغامراته وجرائمه. فالعراق اليوم يمول من عائدات النفط المتذبذبة، ومن هبات الدول المانحة المتلكئة. ونحمد الله أن هناك اهتماما عالميا بالعراق بسبب اكتشاف العالم (متأخرا) معاناة العراقيين من جراء جرائم صدام وأعوانه. لكننا حتى الآن لم نستفد كثيرا من هذا التعاطف بسبب الانشغال في العملية السياسة والصراع على السلطة وعدم وجود مؤسسة عراقية متخصصة قادرة على تشخيص الدول والمؤسسات المانحة والمجالات التي يمكن أن تستثمر فيها المنح أو القروض المالية. علينا أن نستغل هذا الاهتمام والتعاطف العالميين معنا قدر ما نستطيع كي نحصل على أكبر قدر ممكن من المساعدات الدولية وتوظيفها في الإعمار والإصلاح الاقتصادي.
لنعد إلى عنوان المقال "بين السدة والدفة". أحد السياسيين العراقيين الجدد الحديثي العهد بالحكم والسياسة أصابته حمى التصريحات والكلام الكثير، فمؤتمراته الصحفية تستمر ساعات أحيانا، وهي عادة ما تتحول إلى محاضرات "متنوعة" المواضيع يجيب فيها على ما يحلو له من أسئلة. ويبدو لي أن صاحبنا لا يرغب بإنهاء "المؤتمر الصحفي" بل يسعده أن يستمر طويلا كي يبرز فيه كل قدراته الفكرية وإبداعاته اللغوية. في إحدى المناسبات بقي يتحدث حوالي 45 دقيقة بعد أن أعلن إنه سيجيب على السؤال الأخير. وفي مناسبة أخرى سئل عن موضوع وقال إنه لا يريد أن يتحدث عنه لكنه مع ذلك ظل يتحدث لمدة نصف ساعة عن ذلك الموضوع "الحساس" الذي لم يكن يرغب، حسب قوله، أن يتحدث فيه. في كل مرة يخرج علينا هذا السياسي ليتحدث عن "مواقفه الثابتة" التي لم تتغير عندما وصل إلى "دفة" الحكم، وأن وجوده في "سدة" الحكم هو بإرادة شعبية وأنه سيمتثل لهذه الإرادة ويغادر "الدفة" إن قرر الشعب عدم انتخابه!! لقد بتنا لا نسمع شيئا من هذا السياسي غير السدة والدفة رغم أننا بعيدون كل البعد عن أي دفة أو سدة لأن السلطة الحالية موزعة بين المجموعات الكثيرة التي ذكرناها في مطلع المقال ولا ننسى أن نضيف إليها المجموعات المسلحة التي "تتمتع" هي الأخرى بحصتها من السلطة إذ أخذت تقتل وتختطف وتنهب في ظل الفراغ الذي خلّفه ضعف السلطة المركزية. مجرد الحديث عن السدة والدفة لا ينفع أحدا والمطلوب هو العمل الجاد من أجل أن يكون هناك تناغم بين السلطات المتعددة ووئام بين "الدفات" و "السدات" الكثيرة بحيث تبقى متعددة وتسير بمسارات مختلفة ولكن تعمل بانسجام من أجل هدف واحد هو تقدم البلاد ورفاهية العباد. لم يعد هناك سلطة مطلقة لأحد، فقد ولى ذلك العهد إلى غير رجعة ولا أعتقد أن هناك من يريد عودته. هناك مقولة إنجليزية مأثورة تقول: "السلطة تُفْسِد (من يمارسها) والسلطة المطلقة تُفسِد على الإطلاق". لقد أثبتت تجارب الحكم عبر التاريخ صحة هذه المقولة فكل حاكم قابل للإفساد، والحصانة الوحيدة ضد الفساد هي إلزام الحاكم بمواد الدستور والقانون وعدم التساهل معه ومراقبته باستمرار (والحاكم هنا ليس بالضرورة شخصا واحدا). ونحن في العراق خير من يعرف سلبيات السلطة المطلقة بعد أن اكتوينا بنارها لعشرات السنين وقدمنا ملايين الضحايا في ظلها. نصيحتنا لكل من يضطلع بمهمة رسمية أن يتذكر أن تبوءه أي منصب ليس استحقاقا له وإنما تكليفا بواجب وأن بقاءه في المنصب مؤقت وعليه أن لا يسعى للبقاء فيه لأن مجرد سعيه هذا سيقود إلى إزاحته منه.
alkifaey@hotmail.com