العقلانية ملاذ الفلسطينيين الأخير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يجب أن تكون العقلانية هي ملاذ الفلسطينيين الأخير، لا الشعارات ولا العواطف. لا الإسلام السياسي ولا التعصب القومي العربي. فكل هذه الضروب النرجسية من الاعتقاد مهمتها فقط هدهدة الذات الجريحة، المقصاة تاريخياً، والمهزومة حضارياً، وليس إيجاد دواء شاف وكاف لجروحها وقروحها. لقد جرّبنا غير وسيلة في النضال من أجل استعادة حقوقنا كشعب يبحث عن تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة. وكل هذه الوسائل، خلال ستة عقود زمنية كاملة، لم تفض بنا إلى شيء ذي بال. ولم تأخذنا إلى منطقة تحقيق الحد الأدنى من أحلامنا الوطنية والشخصية. بل إن ما حدث عملياً وميدانياً على ساحة الصراع الدامي، هو أننا خسرنا ونخسر كل يوم، أكثر من اليوم الذي سبقه. فأين الخلل إذاً؟ ولماذا معظم حركات التحرر الوطني في العالم، بل كلها تقريباً، حققت أهدافها، على هذا النحو أو ذاك، إلا نحن الفلسطينيون؟ إلا نحن بقينا في محلّك سرّ، بل ونرجع القهقرى؟ ثمة أخطاء وخطايا بالطبع، تقف وراء هذا الفشل العارم. منها وأهمها، كما أرى، تعويلنا على الكفاح المسلح، ومن بعد : الجهاد المسلح. ففي هذه النقطة بالذات، تتفوّق إسرائيل علينا بما لا يُقاس. لذلك فالنتيجة الحتمية لصراع من هذا النوع وبهذه الوضعية، هي الهزيمة لنا، والنصر لخصمنا. وهو ما حدث وما زال يحدث بالفعل، دون أن تكون لنا فضيلة المراجعة والحساب الذاتي. كل يوم شهداء وضحايا، وكل يوم تزداد رغبتنا البدائية في الانتقام والثأر، وكأنّ هذا المسلك البشري، قادرٌ على إلحاق الهزيمة بإسرائيل! لم ننتبه على أن قضيتنا سياسية في جوهرها، وتحتاج إلى نضال سياسي سلمي في الأساس. بل ظللنا مأسورين في دائرة ردّ الفعل، لا الفعل، كما خططت ونفذّ ت إسرائيل، في صراعها الطويل والوبيل معنا. إن نزعة الثأر البدوية، هي أبعد ما تكون عن النضال السياسي، وعن بديهيات وآليات هذا النضال. لم نُحسن إدارة صراعنا مع عدونا، وإلا لكنا من زمان، انتهينا إلى حلّ ونفضنا أيدينا من المأساة التي طالت وكأنها المرض العضال، لا نهاية له إلا بالموت والعدم والفناء! جاء الفلسطينيون الوطنيون والقوميون، وأسسوا منظمة التحرير، ومارسوا، مختلف ضروب الكفاح المسلح، وتبعوا هذا النظام العربي أو ذاك، في سياسة المحاور عديمة النفع ووخيمة العواقب، فلم تتمخّض مسيرتهم الشاقة، سوى عن فأر أوسلو الشهير، وكانت اتفاقية أوسلو، هي محطتهم الأخيرة، أو فصلهم الأخير من مسرحيتهم المأساوية، ثم بعدها أُسدل الستار، لتنتهي مرحلتهم هم، وتبدأ مرحلة أخرى أنكى وأمرّ وأفدح، هي مرحلة الإسلام السياسي والأصولية الإخوانية والوهابية. فهذه، بعقليتها المغلقة، وبلا وجود الآخر في شرعها وشريعتها، وباستحضارها لماض ذهبي موهوم، وبمراهقتها السياسية، لن تصل بشعبها ولا بقضيته الوطنية، إذا استمرّت في الحكم، إلى إلا الهاوية. ونحن الآن في أول الهاوية. بل إن الشعب الفلسطيني كله، بحماسييه ووطنييه وملاحدته وليبرالييه وشيوعييه - فكلهم عملياً، وبحكم الضرورة الجغرافية، محشورون في مركب واحد - هو الآن في أول الهاوية. نقول أول الهاوية لا قعرها ولا وسطها، فثمة وسط لم يأت بعد، وثم قعر في الطريق! وما لم يلحق راكبو المركب أنفسهم، وينقذون ما يمكن إنقاذه من بقايا وطنهم، فإن القعر لقادم! ذلك أن هذا المركب الهشّ الضعيف أمام عتوّ البحر، أعجز على الوصول إلى برّ الأمان، اليومَ، منه في أي ماض سابق. أعجز، وبالأخصّ، لأن لدينا الآن، قوة سياسية، ستعيد الكرة من حيث بدأ المناضلون والساعون إلى تحرير شعوبهم وأوطانهم، لا من حيث انتهوا! أي أمامنا عقود من التجريب (وكأننا أصفار الأيدي، ومعدومو التجربة في هذا المجال!). ولكأنّ ستة عقود من المسير في درب الآلام لا تكفي لكي تُردّ لنا عقولنا! ولا تكفي لكي تقول لنا إن الخيارات العسكرية، وأياً كانت وتكون، غير ذات منفعة بالمطلق. البعض منا يفرح لأننا طوّرنا نماذج بدائية من ألعاب صاروخية، ويأخذه الوهمُ بأنها قادرة على تخويف إسرائيل! والبعض الآخر(تصوّروا!) لا يزال ينتظر الفاتح العربي، على ظهر جواده الأدهم. أو الفاتح الإسلامي الذي ربما يجيء هذه المرة من إيران أو الباكستان. أما النضال الشعبي السلمي، بطرقه الحضارية المتعددة والمبدعة، فلم يفكّر به أحدٌ من نخبتنا ولا من القاعدة الجماهيرية العريضة بالطبع. فكلا الطرفين، مُرنّخ في الثقافة والتربية الإسلامية والعربية الذاهبة إلى بلاغة العنف والسلاح. إن جزءً كبيراً من مأساتنا كفلسطينيين معذبين، ينطلق من ثقافتنا تلك، ومن صندوق طائرتها الأسود. فهي ثقافة لا مكان حتى على هوامشها للآخر، سواء المختلف معنا أو المؤتلف. لا مكان فيها للأقليّات. ولا اعتراف بهم وبحقوقهم. ثقافة درجنا عليها، فظننا بعد أن تشرّبناها، أن لا أحد في الكون سوانا، وأننا نحن مركز هذا الكون، وما الآخر، في حالة وجوده وتعيّنه، سوى مطرود في هامش الهامش. فكيف لمثل هذه الثقافة، وكيف لحامليها وبشرها من تحقيق أي شيء مهما بدا صغيراً ؟ لم يفكّر سوى أفراد قلائل في الشعب الفلسطيني، قلائل للأسف، في وجوب ممارسة النضال السلمي، كطريق لتحقيق أهدافنا الوطنية، مهما طال الطريق. بضعة أفراد، لم يلقوا تشجيعاً من أحد، ورفضهم ونبذهم المزاجُ الشعبي العام، فعادوا إلى منافيهم، مجترّين مرارات وخيبات أمل، لا يستحقونها، جرّاء سعيهم النبيل في هذه المنطقة المريضة من العالم. لقد كان واحدٌ من هؤلاء النبلاء، دكتور فلسطيني، قد جاء إلى الضفة الغربية، في عقد الثمانينات، وحاول أن ينشر ثقافته السلمية، من اعتصامات مدنية وغير ذلك، فما كان من إسرائيل ومنا - شايفين المفارقة ؟ - إلا أن جابهناه وجابهه الحكم العسكري الإسرائيلي، بأعتى الطرق الفظّة، حتى طرده هذا الحكمُ أخيراً، فعاد الرجلُ إلى أوروبا أو أمريكا، ولم يأت بعدها لزيارة بلده المحتلة فلسطين. للأسف أحاول الآن تذكّر اسم الرجل دون نجاح - وبهذه المناسبة، أودّ أن أُحييه من هذا المكان الليبرالي الإيلافي، وأودّ أن أشكره على كل ما فعله لنا نحن شعبه الذين لم نقدر وسيلته الجديدة في النضال إلا متأخراً. فتحية لهذا الرجل والتقدير عالياً أينما كان في شساع الدياسبورا الفلسطينية. حملَ الرجلُ لنا ثقافة لم نعهدها ولم نتعوّدها، لذلك سخرنا منه واستهزأنا به، سواء أكنا من الدهماء أم من النخبة! فذلك الزمان كان زمان العنف الثوري بامتياز. فكيف تنجح في تربته ثقافة اللاعنف يا ترى ؟ كان ذلكم من المستحيل حُكماً. وإني لعلى يقين الآن، في هذه اللحظة الغسقية من تاريخنا، بأنه يرقب المشهد من منفاه هناك ويتألم. مرة أخرى أستميح قرّاء إيلاف العذر، لأحييه ولو عن بعد، أما إذا كان من غير أهل هذه الدنيا، فالرحمة له في رقدته الأبدية وفي سلامه الأبدي. إن ثقافة اللاعنف تقوم على فكرة جوهرية أساسية، مفادها، واسمحوا لي بهذا الاجتهاد الذاتي، فحوى عبارة سقراط العظيمة : (أن تُظلم وتقاسي، خيرٌ من أن تَظْلِم). وعليه، فإذا ظُلمت، عليك بمقاومة ظالميك وجلاّديك، سلمياً وقانونياً، حتى لو كان هؤلاء غلاظ القلب والعقل مثل ساسة إسرائيل! بل حتى لو كانوا دمويين مثل ساسة إسرائيل المعوّقة أخلاقياً والمريضة نفسياً، كما يصفها بعض نابهيها من كبار الكّتاب. إن كارثتنا، أنّ ثقافتنا الدينية والوطنية، تستخفّ بهذا الطرح، وتُعنّف المؤمنين به، بل تضطهدهم، فلا يكون أمامهم إلا الاختفاء مثل أشباح عبروا خشبة المسرح وسرعان ما غادروها. ذات سنة موغلة في القدم، على الأقل كما تبدو لعين مزاجي الآن، طرحت هذا الموضوع - ثقافة اللاعنف والمقاومة السلمية - على حلقة من المثقفين الفلسطينيين في الداخل، فكان ردّهم التسخيف في أردأ الأحوال، والتحليل في أحسنها، إذ قال الحَسَنون، بأن هذه الثقافة شاذة ودخيلة على عموم ثقافتنا، ومنبتّة الصلة بسياقنا التاريخي. كان في الكلام تهمة ما موجهة لي، ولو على استحياء، بأنني صاحب مزاج يفتقر إلى الحسّ التاريخي، وإلى الإلمام العميق بتراثات هذه المنطقة! بل إنّ أحدهم قالها صراحةً، من أنني أعاني من مرض بعض المثقفين العضال، بتجريد القضايا من دمها الساخن الفوّار، وتنزيلها إلى برّاد " التجريد الذهني " - هذا التجريد الذي يقتل الحيّ ويحنّط الميّت! حسناً.. أتذكّر هذه الكلمات الآن، وبالأخصّ الآن، فأضع يدي على قلبي! لقد أخذتنا الدنيا، كلٌّ إلى حدة. ثم عادت بنا إلى لحظةٍ دامية، لحظةٍ كالنار (تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله). لحظةٍ ارتدّ فيها العنفُ، بعد خروج قوات الاحتلال من غزة، إلى الداخل. فالعنف لا بد أن يقتات على شيء ما، فإن لم يجده عند عدو، انقلب على عقبيه ووجده عند أخ وصديق وجار وابن عم! نسيَ جميع المثقفين الفلسطينيين، عاقبة ثقافة العنف، التي مجّدوها في أشعارهم ونثرهم. في بيانهم الإنشائي وخطابهم الأدبي والسياسي. والآن تجيء لحظة عنف أعتى وأغبى وأخطر وأكبر: عنف الأصولية الذي ليس من بعده عنف. عنف (من ليس معي فهو ضدي) فهو عدوي فهو مُحلل الدم فهو فريستي القادمة! لقد هيّأنا لهم، نحن المثقفين الوطنيين والفاعلين السياسيين، التربةَ والمناخ. جاءوا، فوجدوا أرضاً ممهدة، فساروا عليها، محتمين بمزاج الشارع الغوغائي في عمومه. والآن تغيب عنا آخر قناديل العقلانية، مبتعدةً، من وراء حجاب أو ضباب. عنف عنف عنف، ولا بارقة أمل في الأفق. الكلاشينكوف والإم سكستين هي القاضي وهي الحَكم. في أصغر خلاف عائلي وفي أهون مسألة بين الجيران. فمن هو السبب وما هو طريق الخروج من النفق الطويل ؟ عنّي، لا أجد حلاً إلا في البدء من الصفر، وفي تغيير المنهاج الفلسطيني والعربي، ونزع كل ما يدعو إلى التحريض على الآخر، فقط لأنه يختلف معك في الدين أو في الرأي. لنُعد إلى منابع ومرابع العقلانية الأولى، ولنبدأ، من هناك... لنبدأ من أثينا القديمة! فشدَّ ما تشبه حالتُها آنذاك، حالتنا الآن في فلسطين المعاصرة. فقد جاء على درّة مدن العالم تلك، حينٌ من الدهر، كانت فيه محكومة بالفوضى وانفلات الغرائز والعنف والتطاحن، فأتاها سقراط، وحَدسَ ما تحتاجه: (لقد أبصرَ ما كان يحتجب وراء نبلاء أثينا - والكلام لفردريك نيتشه - فهِمَ أن حالته، أنّ خاصية حالته (كعقلاني ورجل عقل وحوار وإقناع) لم تعد بعد حالة منعزلة. كان نفس النوع المنحط يتهيأ في صمت في كل مكان : أثينا القديمة كانت تقترب من حتفها. وقد أدرك سقراط بأن الكلّ كان بحاجة إليه... ففي كل مكان كانت الغرائز تغرق في الفوضى، وفي كل مكان كان الإنسان يشرف على المغالاة... لقد أرادت الغرائز أن تستبد.. حالة شرّ عام كان آنئذ قد بدأ ينتشر : لم يعد أحد يتمالك نفسه : كانت الغرائز تنتصب ضدّ بعضها البعض...) ولذلك كان لا بد من عقلانية وحكمة الفيلسوف، دواءً لداء أثينا.. وهكذا كان. فهل يتهيّأ لنا حكماء من أحفاد فيلسوف العالم العظيم ؟ لا نأمل كثيراً، ولكننا في أي حالٍ نحلمُ ومن حقنا أن نحلم..!