كتَّاب إيلاف

الخراب البشري في العراق (3-3)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"الانسان ذئب لأخيه الإنسان، والعالم هو غابة من الذئاب، وإذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب! لذلك ينبغي تنظيم المجتمع بطريقة عقلانية من أجل تحجيم هذه النزعة الوحشية الموجودة في أعماق الإنسان، ومن أجل التوصل إلى مجتمع مدني، متحضر". (توماس هوبز)

حقاً، إن ما يجري في العراق، هو تأكيد لما شخَّصه الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، قبل ما يقارب الخمسة قرون. فالجريمة المنظمة والعمليات الإرهابية ما كانت لتحصل لو كانت هناك حكومة قوية وحازمة تلجم الذئاب البشرية، وحريصة على تطبيق حكم القانون. ناهيك عن بلد نال الخراب منه مبلغاً لما يقارب الأربعة عقود في ظلم الإنسان العراقي ونشر الجهل ومحاربة الثقافة الإنسانية وترويج ثقافة العنف، كما مر بنا في الحلقتين السابقتين من هذا المقال. فلو كان المجرمون، يعرفون أنهم ينالون جزاءهم العادل و"يطرهم طر" على حد تعبير صدام حسين، لما تجرأوا بارتكاب جرائمهم بحق الأبرياء، ولما استهترت أحزاب ومليشيات إسلامية في البصرة بالتهديد بقطع صادرات النفط وحرمان الشعب من أهم مصادر معيشته. إنه الأمان من العقاب الذي كشف لنا النقاب عن حقيقة هؤلاء الذين يتسربلوا برداء الدين ويلهجون باسم الله وينهبون ويضطهدون عباد الله. لقد سقطت الأقنعة عن الوجوه الكالحة المتسترة وراء الإسلام، والإسلام منهم بريء. وفي هذه الحلقة الأخيرة أود بيان دور البعث في تخريب الإنسان العراقي وتحويله إلى وحش كاسر.

دور البعث في تخريب الإنسان العراقي
المعروف عن أيديولوجية حزب البعث أنها نسخة متطرفة من أيديولوجية القومية العربية، بمعنى أنها عنصرية، مضموناً وتطبيقاً، ظلمت العناصر البشرية الأخرى غير العربية، كما حصل في العراق وسوريا. كذلك تنزع هذه الأيديولوجية إلى الطائفية، وتعتمد على التمييز الطائفي وسياسة (فرق تسد) في حكم البلاد. ففي سوريا اعتمدت السلطة البعثية على العرب الشيعة العلوية الذين يشكلون نحو 20% من مجموع السكان، لاضطهاد بقية مكونات الشعب السوري، بينما في العراق اعتمد البعث على السنة العرب الذين يشكلون نحو 20% أيضاً. وهذا تم بتخطيط، فحزب البعث يعتمد على أقلية يغدق عليها بالامتيازات، المناصب والثروة، لتستميت في حماية سلطة الحزب واضطهاد الآخرين. ولو كان في العراق الشيعة العرب يمثلون 20% من السكان لصار اعتماد البعث عليهم في اضطهاد الآخرين كما الحال في سوريا. وهذه السياسة من أهم مكونات ومتطلبات أيديولوجية البعث. إضافة إلى المظالم والجور وشن الحروب الداخلية والخارجية، قامت سلطة البعث في العراق بتدمير النسيج الاجتماعي وتشويه أخلاقية الإنسان العراقي بشكل مبرمج ومخطط ومقصود، وذلك كما يلي:

العودة إلى البداوة
كما ذكرنا آنفاً، أن الثقافة الاجتماعية (culture) للشعب العراقي خاصة، والشعوب العربية عموماً، مزيج من البداوة والحضارة، حسب نظرية علي الوردي والتي لها جذور بنظرية ابن خلدون (البداوة والعمران). فالعراقي مزدوج الشخصية تتصارع فيه القيم البدوية والحضارية. ولكن مع الزمن كان الجانب الحضاري في نمو متزايد على حساب الجانب البدوي. ولو قدر للشعب العراقي أن يستقر في ظل حكومة متحضرة، لتخلص من هذه الازدواجية لصالح القيم الحضارية. ولكن لسوء حظ هذا الشعب أن تسلط عليه حزب البعث ذو الأيديولوجية التي تقدس البداوة، حيث زحفت ثقافة الصحراء والريف على المدينة. فمعظم قادة البعث من خلفية ريفية وعشائر بدوية، قاموا بإحياء القيم البدوية وتقليد حياة البدو في حياتهم اليومية. فترى البعض منهم نصب خيمة أمام قصره وربط أمامها جملاً، معتقداً أن هذه هي الطريقة المثلى للعودة إلى الجذور والأصالة العربية!! وحتى الفنون العراقية الأصيلة، الموسيقى والغناء والرقص، لم تسلم من الدمار البعثي، فقد تم تشريد الفنانين العراقيين الأصيلين، ليحل محلهم الطبالين والمداحين، وترويج الأغاني والفنون الغجرية (الكاولية) بدلاً من الفنون العراقية الأصيلة، وبذلك تم تدمير الذوق الفني لدى الشعب، إلى جانب تدمير الأخلاق والعقل والفكر والنسيج الاجتماعي. فنظام البعث كان أشبه بالطاعون الأسود على العراق بكل معنى الكلمة.
كذلك تم إحياء القبلية والأحكام العشائرية في حل المنازعات بين الناس فأعطى صدام حسين صلاحيات واسعة لشيوخ العشائر وأحال الشعب العراقي إلى اتحاد قبلي بين هذه العشائر، ونصب نفسه شيخ المشايخ. وبذلك فقد تم إعادة المجتمع العراقي إلى البداوة على حساب الحضارة. ونجد هذه النزعة متفشية في ليبيا أيضاً حيث يستقبل معمر القذافي ضيوفه من القادة الأجانب في خيمة نصبها في الصحراء خارج العاصمة، طرابلس، تيمناً بحياة الأجداد البدو. فليبيا تشبه العراق من ناحية البداوة إلى حد ما.

وليت الأمر قد توقف عند هذا الحد، ففي البداوة بعض القيم النبيلة الجيدة التي تلائم حياة الصحراء، مثل الكرم والصدق والشهامة والنخوة والدخالة والجيرة وروح الفروسية في احترام المرأة ونصرة الضعيف وعدم الاعتداء عليهما. كذلك هناك القيم السيئة عندهم مثل: الغزو والثأر ونزعة التغالب والقتل والانتقام وسرعة الغضب لأتفه الأسباب..الخ. فقضى نظام البعث على القيم الجيدة في البداوة وعمل على تنشيط وتضخيم ونشر القيم الضارة فيها، وفرضها على المجتمع العراقي. فالبدوي الأصيل يتصف بالفروسية، يستنكف الاعتداء على الضعفاء والنساء مثلاً، بينما البدو الجدد في العراق وخاصة الذين نجدهم في صفوف "جيش المهدي" والمليشيات الإسلامية الأخرى وفلول البعث، يبدون شجاعتهم الدونكيشوتية على النساء والأقليات الدينية وطلبة المدارس والجامعات والنساء السافرات والرياضيين وحليقي الذقون والعمال الفقراء وغيرهم من الناس العزل. وهذه هي شيمة البداوة الجديدة أو البداوة البعثية التي خلفها حزب صدام حسين.
والمعروف في علم الاجتماع، أن البدو هم ألد أعداء الدولة ولن يمنحوا ولاءهم لأية حكومة أو وطن أو دولة، وإنما للعشيرة والطائفة وشيخها فقط. ولهذا كان صدام يعي ما قاله مرة، أن الذي يحكم العراق من بعده سيستلمه أرضاً محروقة وخرائب بلا بشر. وهو يعني بذلك أن إعادة الشعب العراقي إلى البداوة فقد جعله غير قابل للحكم بدونه ungovernable.

تنشيط الغرائز البدائية والحيوانية
لم يكتف نظام البعث باحياء البدواة وإعادة المجتمع إلى ما قبل الحضارة، بل قضى على النزعات الإنسانية وأحيا النزعات البهيمية فيه. فالإنسان، وحسب نظرية داروين Darwin (أصل الأنواع)، هو حيوان قبل أن يكون إنساناً، إذ تطور بيولوجياً من الحيوانات الأخرى الأقل منه في سلم التطور، ويشترك معها بنسبة أكثر من 90% من الجينات الوراثية. ثم جاء فرويد ليكشف الجانب النفسي والعقلي للإنسان وسلوكه، فاكتشف العقل الباطن (اللاشعور). وقد شبه فرويد العقل بالجبل الجليدي، تسعة أعشاره غاطس في الماء، وعشره فقط الجزء المرئي منه وهو العقل الواعي. والعقل الباطن هو عبارة عن مخزن لكل الغرائز والنزعات العدوانية والخيرة والتجارب التي عاشها. وقد مر الإنسان البدائي بمرحلة طويلة جداً من الوحشية والهمجية استغرقت نحو 6 ملايين سنة. بينما عمر الحضارة في حياة الإنسان يمثل فترة قصيرة جداً في حدود 10- 13 ألف سنة، أي منذ خروجه من الكهف بعد العصر الجليدي الرابع قبل 13 ألف عام. لذلك فالحضارة هي قشرة خفيفة جداً تغطي الطبقات الجيولوجية الداخلية الأخرى من الهمجية المخزونة في العقل الباطن. لذا فيمكن في ظروف قاسية إعادة الإنسان إلى مرحلة الوحشية والهمجية.
والمتتبع لسياسة حزب البعث في تدريب فدائيي صدام وجيش القدس وغيرهم من منتسبي منظمات الحزب، يعرف كيف كان يجري تدريب هؤلاء على تنشيط النزعات والغرائز العدوانية والوحشية والهمجية فيهم والقضاء التام على النزعات الحضارية الإنسانية. وما يجري في العراق الآن من قتل عشوائي وجرائم وحشية ضد المجتمع، ما هو إلا تطبيق عملي للتربية البعثية ودليل على ذلك.

استعداد الإنسان للخير والشر
ومما يجدر التأكيد عليه، إن ما حصل من سلوك مدمر في العراق هو ليس خاصاً بالعراقيين بطبيعة الحال، بل صفة عامة تتعلق بسلوك الإنسان أينما كان إذا ما توفرت له ذات الظروف الموضوعية القاهرة في العراق. إذ تقول العالمة الأمريكية جوديث سترن (Judith Stern) في خصوص تعرض الإنسان إلى الأمراض وهل ناتجة عن عوامل وراثية أو عن تأثير البيئة عليه، فتقول: " أن الجينات الوراثية تعبئ البندقية، والبيئة هي التي تسحب الزناد". بمعنى أن كل إنسان لديه الاستعداد وراثياً ليصاب بهذا المرض أو ذاك، ولكنه لن يصاب به ما لم تتوفر له بيئة ملائمة تساعد على إصابته بهذا المرض. ويمكن تطبيق هذا المبدأ، على سلوك الإنسان ونزعة الخير والشر فيه. فالغالبية العظمى من البشر عندهم الاستعداد ليتحولوا إلى قديسين أو مجرمين، معتدلين أو متطرفين، أخيار أم أشرار، وذلك حسب البيئة التي يتعرضون لها، وبالأخص البيئة الاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية التي ينشؤون فيها. ويؤكد ابن خلدون هذه الفرضية قبل أكثر من ستة قرون، إذ يقول: "إن الإنسان ابن عوائده وما ألفه لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه في الأحوال حتى صار حقاً وملكة وعادة، تنزل منزلة الطبيعة والجبلة. واعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيراً صحيحاً. والله يخلق ما يشاء." ( المقدمة ص 125) . بالطبع هناك إستثناءات وشواذ، ولكننا نتحدث عن القاعدة. لقد خلق نظام البعث في العراق بيئة خصبة جداً لتحويل قطاع واسع من الناس إلى مجرمين.

دور الظلم في تدمير الإخلاق
أجل، إن ما يجري في العراق من أعمال عنف قد حصل في معظم البلدان التي تعرضت شعوبها إلى الظلم والاضطهاد. وهذا العنف في العراق لم يجلبه الأمريكان معهم، كما يدعي البعض ويحاول أعداء الديمقراطية والعراق الجديد الترويج له. بل هو صناعة محلية وذات ماركة مسجلة بحزب البعث!! فشعب تعرض لقرون إلى هذا الكم الهائل من الظلم والاضطهاد والذي بلغ الذروة في عهد البعث، لا يمكن أن نتوقع منه أن يسلك سلوك الشعوب المتحضرة والديمقراطية المستقرة.
اعترض عليَّ بعض الأخوة القراء بأنني أتغاضى عن الجرائم التي يرتكبها الأمريكان في العراق، وأركز فقط على الجرائم التي يقوم بها العراقيون. وهذا صحيح. والسبب هو أن الجنود الأمريكان في حالة حرب مع الإرهابيين والذين هم ليسوا من أبناء جلدتهم، ويمكن أن يقسوا ويذهب أبرياء بهذه العمليات الحربية. ولكنهم إذا أخطأوا، كما استشهد أحد القراء بأن وزيرة الخارجية الأمريكية نفسها اعترفت بآلاف الأخطاء، فإن المخطئين أو الذين اقترفوا الجرائم يحاسبون وفق قوانين بلدهم ويتلقون جزاءهم كما لاحظنا في قضية سجن أبي غريب. أما المجرمون العراقيون فإنهم يقتلون أبناء شعبهم وبدون أي ذنب وليس عن طريق الخطأ بل مع سبق الإصرار. لذلك فجريمتهم مضاعفة، إضافة إلى أني أبحث في الخراب البشري في العراق وليس في الخراب البشري في أمريكا أو أي بلد آخر.

والشعوب الأوربية الديمقراطية العريقة والمتحضرة لم تحقق هذا المستوى من الاستقرار والتقدم إلا بعد أن مرت بحروب أهلية وحروب عالمية طاحنة. وقد ذكرت مراراً أن مشكلة الإنسان تنبع من كونه لا يبدأ بالحلول الصحيحة إلا بعد أن يستنفد جميع الحلول السيئة والخاطئة ولن يتعظ بتجارب الآخرين. وهذه السياسة، ليست من باب "التجربة والخطأ TRIAL AND ERROR"، كما وليست مفروضة عليه من جهة معينة، بل هي نتيجة للعقل الاجتماعي لتلك المجموعة البشرية. وأفضل مثال لتوضيح هذه الفرضية هو القضية الفلسطينية، حيث رفض العرب جميع الحلول الممكنة منذ الثلاثينات من القرن الماضي إلى الآن. وآخر الحلول كان مشروع الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون، في كامب ديفيد عام 2000 ، فرفضه ياسر عرفات خوفاً من أن يناله مصير الراحل أنور السادات. وندم فيما بعد على عدم قبوله لذلك الحل الممكن. وبعد أن فشلت جميع المحاولات، جاء الرئيس محمود عباس موافقاً على حل كلنتون ولكن بعد فوات الأوان. وموافقة محمود عباس على الحل العملي الصحيح لا تعني أنه أكثر حكمة وتعقلاً من الراحل عرفات، بل لأن جميع الحلول الفاشلة التي تم تجريبها في عهد عرفات قد استنفدت، ولم يبق سوى الحل الممكن والصحيح. فتاريخ الشعوب عبارة عن سلسلة متواصلة من الأخطاء والحروب وسفك الدماء وأعمال العنف، ولم تلجأ إلى السلم والطرق الصحيحة في حل المشاكل والتعايش السلمي إلا بعد أن تستنفد جميع الوسائل والحلول الخاطئة المدمرة، وبعد أن تمنّى بالخسائر والهزائم. وهذا خاضع لمبدأ (الصراع بين الأضداد والبقاء للأصلح)، أي في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح. راجع مقالنا (هل للعقل دور في اختيار الحلول الصائبة؟ )

ما يجري في العراق، مرحلة لابد منها
كثيرون كانوا يعتقدون أن بمجرد سقوط النظام البعثي الصدامي سيتحول العراق إلى جنة عدن وبعصا سحرية. إن هذا الاعتقاد كان ناتجاً عن المعاناة القاسية التي عانوها من ذلك النظام الجائر، دون أن يفكروا بالخراب البشري والاجتماعي والاقتصادي الذي تركه حكم البعث، وكما حصل في بلدان مشابهة لظروف العراق.
إن ما حصل في العراق يوم 9 نيسان 2003 في إسقاط نظام الاستبداد الجائر وولادة نظام ديمقراطي، هو زلزال سياسي بكل معنى الكلمة وبأعلى درجات ريختر، بلغ تأثيره جميع بقاع الأرض. والزلازل السياسية لا تختلف عن الزلازل الطبيعية من حيث الضحايا. ففي جميع أنواع الزلازل والكوارث الطبيعية والسياسية، تذهب ضحايا أبرياء، أطفال ونساء وشيوخ وغيرهم، ولا فرق في هذه الزلازل بأن تنهار البيوت على رؤوس ساكنيها بسبب الهزة الأرضية أم بسبب سقوط صاروخ تائه عليها. إن العراق يمر الآن بأخطر مرحلة تاريخية، إنه عربدة التاريخ في أشد عنفوانها.
إن المرحلة المأساوية المؤلمة التي يمر بها العراق الآن هي مرحلة لا مناص ولا بد منها، كالقدر المكتوب على الشعب لكي يتخلص من ذله الذي دام قروناً عديدة. إن وجود نظام دموي قمعي جائر مثل نظام صدام حسين هو مخالف لقوانين حركة التاريخ ومساره والقوانين الكونية، ولم يكن ممكناً أن يستمر إلى ما لا نهاية، إذ كان لا بد له أن ينتهي بأي شكل من الأشكال.
وكان من المؤكد أنه ليس بإمكان الشعب العراقي إسقاط هكذا نظام قمعي مجرم بقواه الذاتية، لذلك كان من مشيئة التاريخ وفي عصر العولمة، أن يتدخل المجتمع الدولي بقيادة الدولة العظمى، أمريكا، لإسقاط هكذا نظام جائر وخلاص الشعب من الإبادة الجماعية. أما التداعيات التي حصلت بعد سقوط حكم البعث ففي رأيي لم يكن ممكناً تجنبها.
ولكننا لنفترض جدلاً أنه كان ممكناً تجنب هذه التداعيات فيما لو حصل التغيير بإحدى الطرق والوسائل الأخرى، كما يعتقد ويجادل البعض، وذلك فيما لو حصلت أحد السيناريوهات التالية:

السيناريو الأول: صدام يقوم بالتحولات الديمقراطية
كان ممكن تجنيب الشعب هذه الكوارث فيما لو قام صدام حسين بتغيير نظامه وإجراء التحولات الديمقراطية بنفسه تدريجياً، وذلك بأن ينتبه صدام إلى المخاطر الكبرى التي كانت تهدد الشعب بسبب سياساته العبثية، فيقوم بالصلاح السياسي بنفسه، وذلك بتخفيف القمع، ومنح الحريات للمواطنين خطوة خطوة، دون هزات سياسية عنيفة، وصولاً إلى إقامة النظام الديمقراطي بما فيه تعددية الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والمواطنة الصحيحة. ولكن من يعرف سايكولوجية صدام حسين وطبيعة نظامه القمعي وأيديولوجية حزبه المكرسة لسياسة الحزب الواحد والرأي الواحد، يتأكد أن تحقيق هكذا سيناريو من سابع المستحيلات كما يقولون. كما أثبت التاريخ عدم قيام أي دكتاتور بإجراء التحولات الديمقراطية بنفسه، ناهيك عن شخصية صدام السايكوباثية. لذا فهذا الافتراض نظري محض، وعملياً مستحيل، وذلك لأنانية الحكام المستبدين وقصر نظرهم وعدم اعتقادهم بأن سياساتهم الإجرامية ستقود إلى هذه الكوارث. فصدام حسين لم يخطر على باله مطلقاً أن نظامه سينهار تحت القصف الأمريكي وينتهي إلى مزبلة التاريخ. وكذلك بقية الأنظمة العربية المستبدة، لن تستفيد من الدرس العراقي لكي يجنبوا شعوبهم هذه الكوارث التي قد تحصل لهم في المستقبل، إن عاجلاً أو آجلاً.

السيناريو الثاني: إقامة نظام مستبد أولاً ثم التحول الديمقراطي تدريجياً
يعتقد البعض، وأنا منهم، أنه كان بالإمكان تجنب ما حصل بالعراق من تداعيات، لو أن أمريكا أقامت بعد سقوط النظام مباشرة، ديكتاتورية موجهة ومؤقتة في العراق بدلاً من تدشين نظام ديمقراطي ودون أي تحضير جيد. على أن تقوم هذه السلطة المفترضة بفرض النظام والضرب على أيدي العابثين بالأمن بلا شفقة وفرض حكم القانون بالقوة. إذ كما يقول جون لوك في الحكم المدني: "يبدأ الطغيان وإلحاق الأذى بالآخرين عندما تنتهي سلطة القانون، ".
أجل، كان المطلوب بعد إسقاط حكم البعث، فرض نظام "مستبد" في الظاهر مؤقتاً، للسيطرة على الوضع وبناء مؤسسات الدولة القوية وخاصة الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة والمجتمع المدني، ومن ثم البدء بتخفيف الضغط تدريجياً، وإقامة المؤسسات الديمقراطية، ومنح الحريات على مراحل وحسب ما يتحمله الشعب وحسب ما تسمح به الظروف الأمنية. وذلك أشبه بتخفيف الضغط في قدر الضغط وهي يغلي، بواسطة صمام الأمان أولاً، بدلاً من رفع غطاء القدر دفعة واحدة فيحصل الانفجار. فشعب تعرض إلى الظلم والعبودية طوال تاريخه قد فقد القدرة على ممارسة هذه الحريات بروح المسؤولية العالية عند توفرها له، ويسيء استخدامها ويلحق أشد الأضرار بنفسه وبالآخرين، مثل الطفل الذي تسلمه بندقية معبئة بالعتاد. فالمشكلة في العراق أنهم أزالوا الاستبداد وأعطوا جرعة عالية جداً من الحرية والديمقراطية دون أي تحضير مسبق لهما. وفي هذه الحالة يكون الغوغاء والرعاع المجرمون العتاة هم وحدهم المستفيدين من الحرية، بينما تخسر غالبية الشعب. فكما يقول برنارد لويس: "يجب معاملة الديمقراطية كالدواء، فالجرعة العالية قد تقتل المريض".

ولكن حتى هذه الخطة التي تبدو رائعة في رأيي، هي نظرية في المقام الأول، وسهلة في الكلام وصعبة جداً في التطبيق. فلو اتبعت أمريكا سياسة القبضة الحديدية منذ اليوم الأول من سقوط الفاشية، لاعترض العالم كله عليها واتهموها بأنها غير جادة بتحقيق الديمقراطية في العراق، فاستبدلت دكتاتوراً بدكتاتور آخر وأنها أسقطت نظام صدام حسين من أجل سرقة ثروات البلاد النفطية ليس غير، وكأن صدام كان قد منع النفط على أمريكا.

السيناريو الثالث: ماذا لو لم تتدخل أمريكا؟
أعتقد جازماً، أن عدم إسقاط نظام البعث في العراق من قبل أمريكا ما كان يمنع من وقوع هذه الفوضى فيه، بل كان مجرد يؤدي إلى تأجيلها فقط إلى فترة أخرى. فصدام لا يستطيع أن يعيش إلى ما لا نهاية، ولا بد أن يموت في يوم من الأيام في أحسن الاحتمالات. فلو مات صدام موتاً طبيعياً وهو في السلطة لحصلت هذه الفوضى بعد موته بشكل أسوأ. إذ ليس في العراق من يمتلك شخصية خرافية مرعبة كشخصية صدام حسين للسيطرة على الوضع وفرض الضبط والنظام على الناس وحتى على حزب البعث نفسه. والمثال السوري وموت حافظ الأسد بدون هزات عنيفة لا يمكن تطبيقه على العراق. فشعب العراق بما عرف عنه من عنف وسرعة الغضب، يختلف كلياً عن الشعب السوري، وكذلك الفرق في شراسة القمع بين النظامين، فالبعث العراقي كان أكثر قمعاً من توأمه البعث السوري. وبالتأكيد، فلو مات صدام موتاً طبيعياً وهو في السلطة، لحصل في العراق ما حصل في الصومال. وهذا يعني أنه لو انتهى نظام البعث بدون وجود قوات أمريكية وقوات دولية، لحصلت الفوضى والانقسامات حتى في داخل حزب البعث نفسه والقوات المسلحة ولظهر الألوف من لوردات الحروب، ونشبت حروب أهلية طاحنة بين جميع مكونات الشعب العراقي وحتى بين عشيرة وعشيرة، وصار العراق أثراً بعد عين.
لذا، فرغم بشاعة القتل العشوائي الذي يشهده العراق الآن، إلا إن وجود القوات المتعددة الجنسيات بقيادة أمريكا، منع وقوع الحروب الأهلية التي لو نشبت لأتت على الأخضر واليابس.

وبناءً على ما تقدم، أعتقد جازماً أن ما يجري الآن في العراق من فوضى، هو شر لا بد منه ومرحلة مؤلمة تعقب سقوط أي نظام جائر، وما كان بالإمكان تفاديها في جميع الأحوال، وإنه أهون الشرور المحتملة فيما لو سقط نظام البعث بطريقة أخرى وبدون تدخل أمريكي. وفي هذه الحالة، أرى أن التدخل الأمريكي هو في صالح الشعب العراقي.

الخلاصة والاستنتاج:
1- شعب العراق متعدد الأعراق والأديان والطوائف واللغات، تعرض إلى القهر والظلم والاستلاب ومختلف أشكال التمييز، العنصري والديني والطائفي لعدة قرون، والذي بلغ الذروة في عهد نظام البعث الصدامي. إن شعباً تعرض إلى هذا الكم من الظلم، لا بد وأن يتصرف بشكل غير لائق عندما يتحرر من النظام الجائر، خاصة وقد عمل الحزب الحاكم بتدمير أخلاق هذا الشعب وتفتيت نسيجه الاجتماعي والقضاء على القيم الحضارية وإحياء قيم البداوة فيه بجوانبها السلبية الضارة، وتسبب في قتل نحو مليونين وتشريد خمسة ملايين، بينهم عشرات الألوف من المثقفين وأصحاب الكفاءات وبذلك تم تفريغ البلد من العقول والجوانب الحضارية لصالح البداوة الجديدة.
2- أن ما يجري في العراق هو ليس حروب أهلية أو طائفية كما يبدو على السطح، بل نتيجة تدمير أخلاق الإنسان وإعادته إلى مراحل البداوة والهمجية بسبب تعرضه للظلم والإذلال، كما ذكرنا. فهذا القتل الذي يجري تحت غطاء طائفي، يجري الآن كذلك بين المليشيات الشيعية في البصرة وغيرها، وكذلك بين أبناء السنة العرب أنفسهم في المناطق السنية، كما ويجري القتل ضد النساء السافرات وحليقي الذقون ولاعبي كرة المضرب وغيرهم دون معرفة انتماءاتهم الطائفية. وكل هذه الفظائع لا يمكن تفسيرها تحت يافطة الطائفية، بل هي نتيجة الخراب البشري على يد حزب البعث وإعادة الإنسان إلى المراحل الهمجية.
3- لم يكن بإمكان الشعب العراقي تحرير نفسه من هكذا نظام جائر بقواه الذاتية، لذلك وفي عصر العولمة، كان من مصلحة هذا الشعب وإرادة التاريخ، أن يتدخل المجتمع الدولي لمساعدته في التخلص من أشرس نظام قمعي عرفه التاريخ. ومهما حصل من حوادث عنف بعد سقوط الفاشية، فهو أقل الشرور التي كان من المكن أن تحصل لو سقط النظام بدون التدخل الأمريكي. وعليه فإن المرحلة القاسية التي يمر بها الشعب العراقي هي مرحلة حتمية ولا بد ولا مناص منها، ومفروضة عليه تاريخيا وشر لا بد منه، كثمن باهظ يدفعه من أجل خلاصه من الذل الذي تعرض له لقرون.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف