غالب هلسا وهزيمة حزيران
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في مجال العلاقة بين الإبداع وهزيمة حزيران العربية عام1967م، يلاحظ متتبع الحركة الأدبية في الأردن أن هناك مفارقة مفاجئة وصادمة، هي أن أديبين أردنيين هما تيسير سبول وغالب هلسا (1)، كلاهما تعامل مع هزيمة حزيران تعاملاً أدى إلى النتيجة ذاتها، وهي الموت إنتحاراً. عند تيسير سبول إنتحاره شخصياً بعد ست سنوات من الهزيمة في عام 1974م. لقد تماسك هذه السنوات الست مُؤملاً أن يأتي (يوم تفرح فيه الحزينة) كما كانت تقول وتؤكد (أم عربي) في روايته (أنت منذ اليوم)، وعندما لم تكن نتائج حرب أكتوبر 1973م كما توقعها، وإعتبرها نكسة جديدة خاصة بعد محادثات فك الإشتباك على الجبهة المصرية، أمسك تيسير المسدس ليطلق الرصاصة القاتلة على رأسه، وكأنه يطلقها على جيل بأكمله ومرحلة بأكملها. أما عند غالب هلسا فقد كان طعم الهزيمة مختلفاً في تنويعاته، واحد في نتيجته. كانت الهزيمة عام1967م، وقبلها بسنوات قليلة كان غالب ومعه عشرات الطلاب والوطنيين، يستضيفهم نظام عبد الناصر في السجون المصرية ومعهم الوافدون وممثلون لكافة قوى الشعب، وكان النظام بهذا العمل يؤسس الخطوة الأولى نحو الهزيمة، لأن نظاما يتأسس منذ بدايته على معاداة الشعب بكافة قواه وطبقاته، فيعتقل الأخوان المسلمين مع الشيوعيين وأحياناً يعتقل الشخص الواحد بالتهمتين معاً، لا يمكن لمثل هذا النظام أن يقود إلى النصر، وفعلاً فقد عاش غالب ومعه كافة شخوص المرحلة هذه الهزيمة، بعد أن خرجوا من السجن بفترة قصيرة، خرجوا من السجن وهم منقسمين على أنفسهم،سواء في تقييمهم للنظام أو في رؤيتهم لمرحلة ما بعد السجن، وكانت شهور قليلة فإذا الهزيمة تداهمهم وتضرسهم ضرساً لا يملك أغلبهم الإنفكاك منها.
الغريب في الأمر أن غالب ظل يهرب من مرحلة ما بعد الهزيمة، متحاشياً كتابتها أو التعبير عنها طيلة اثنين وعشرين عاماً، من عام 1967 حتى عام 1989،حيث صاغ ملحمة السقوط والإنهيار في روايته الأخيرة (الروائيون ) _ 2_ وقبل رحيله عنا بشهور فقط،وإذا به في الرواية وهو بطلها وراويها (إيهاب) لا يتمكن من التماسك أمام هول الكارثة فينتحر بتناوله أقراص السيانيد، وهذا ما قصدته عندما قلت أن نتيجة الهزيمة ووقعها كان واحداً عنده وعند تيسير سبول، فتيسير انتحر بالرصاص بعد ست سنوات من الهزيمة، وعند غالب ينتحر بطله الذي هو معادلة في الرواية، بالأقراص بعد إثنين وعشرين عاماً و المفجع في هذه النهاية الروائية هو قرار غالب هلسا كروائي أن يصل ببطل الرواية إلى هذه النهاية الدرامية المعبرة.
ونحن أصدقاء غالب الذين عايشناه الشهور الأخيرة من حياته نعرف كم كان متوتراً في الأسابيع التي كان عليه فيها أن ينهي هذه الرواية. وقد تحدث معنا صراحة في هذه المسألة موضحاً أن سبب توتره شخص إسمه (إيهاب)، قبل أن نعرف أن بطل الرواية إسمه (إيهاب) وظل غالب يقلب المسألة على وجوهها كافة، ويدرس إحتمالات المستقبل المتعلق بموضوع الهزيمة التي سكت عنها وتهرب منها أكثر من عقدين من الزمن، فإذا بآفاق المستقبل كما رآها حالكة قاتمة، لأن معادلات الواقع العربي لا تفتح أية كوة أمام الأمل، فكان القرار الأخير لغالب الروائي أن ينهي الرواية بقتل بطلها (إيهاب) انتحاراً وهو بذلك كأنه يقتل نفسه، فإيهاب هو معادله الموضوعي في الرواية.. المفجع الآخر في النهاية الروائية هو أن غالب بقتله (إيهاب) كأنه كان يتنبأ بموته هو، وهذا ما حصل فعلاً فبعد شهور قليلة من قتله (إيهاب) روائياً، نقلناه إلى المستشفى دون أية مظاهر لعرض أو تعب يُنذر بالخطر، وما هي إلا أيام قليلة لم تتجاوز الأسبوع، حتى فُوجئنا بموته.. كنا نتحدث في اليوم السابق عن إخراجه من المستشفى، وذهب بعضنا ومعه الزهور لزيارته، فإذا بنا نجده قد لحق بـ (إيهاب)، نعم، لقد كان غالب يتنبأ بموته قبل شهور من موته، عندما قرر قتل (إيهاب) إنتحاراً.
إن رواية غالب الأخيرة (الروائيون) التي أنجزها قبل وفاته بشهور قليلة، هي الرواية التي كان يجب أن يكتبها غالب قبل عشرين عاماً على الأقل، أي قبل رواياته (الضحك) و(السؤال) و(البكاء على الأطلال) و(ثلاثة وجوه لبغداد) و(سلطانه)،لأنها كما أراها رواية الهزيمة، رواية حزيران الذي أصبح من أشأم الشهور في الأجندة العربية. في عام 1956 حدث العدوان الثلاثي على قطاع غزة ومنطقة سيناء وبورسعيد المصرية، ورغم الصمود الباسل في بور سعيد، ورغم إنسحاب قوات العدوان من بورسعيد وتلكؤ القوات الإسرائيلية، في قطاع غزة قرابة أربعة شهور ثم انسحابها، فقد أخفت القيادات السياسية آنذاك عن الجماهير العربية حجم الهزيمة الذي حدث في النتيجة، عندما إنتزعت إسرائيل ما ظل سراً حتى عام 1967م، وهو حقها البحري في المرور عبر مضائق البحر الأحمر في شرم الشيخ ذي السيادة المصرية متوجهة نحو إيلات. بعد هذه الحرب التي عُرفت في الخارطة السياسية العربية باسم العدوان الثلاثي وبدلاً من إعادة تقييم المرحلة، وإعادة بناء الجبهة الداخلية من جديد،زج نظام عبد الناصر آنذاك بالآف المعتقلين من كل المذاهب السياسية ومن كل الطبقات الإجتماعية في السجون خاصة حملة عام 1959، تلك الحملة التي عبر غالب هلسا عن بعض جوانبها في روايته (الخماسين) و (السؤال) بتنويعات مختلفة.
في هذه المرحلة، كانت بداية الجرح في نفسية غالب كروائي وكمناضل تقدمي، فهو ومئات غيره كانوا يعتقدون أن الوطن بحاجة لهم، وهم قادرون ومؤمنون بالتضحية من أجله، ولكن بدلاً من ذلك يواجههم النظام القائم بالسجن والاعتقال و بالقهر والتعذيب. وكان لابد لهذه السياسة القهرية، سياسة الإنفصال الكبير بين الحاكم وجماهير الشعب، أن تؤدي بعد ثماني سنوات تقريباً إلى الهزيمة- المسخرة عام 1967،تلك الهزيمة التي تنبأ بها (إسماعيل أحمد) الفدائي القديم الذي حارب الإنجليز ببسالة عام 1951، وأُعتقل مع الشيوعيين عام 1966، وصار كأنه واحد منهم، و تنبأ بها في رواية (الروائيون) عقب خروج كل شخصيات رواية (السؤال) من السجن. ففي تلك السهرة في شقة (مصطفى)، كان (إسماعيل) الفدائي القديم العنيد الصلب، هو الذي قال:"عايز أقول أن الجيش المصري مش حايصمد قدام إسرائيل أكثر من أسبوع ...ويمكن... أسبوع كثير.." ص129.
"ما عندناش جيش دا الجيش عزبة لعبد الحكيم عامر، مجرد عزبة. إنتو عايشين في الوهم" ص129.
وعلينا أن نتذكر أن كل الموجودين معه في السهرة أي (اللي عايشين في الوهم) هم زملاؤه الشيوعيون الذي كانوا معه في السجن. وعندما يستنكر هؤلاء الزملاء آراءه هذه. ويهبون للدفاع عن الجيش والسلطة يخاطبهم إسماعيل.. "رجعنا تاني لحكاية السلطة اللي بتعرف كل حاجة، وأنه إحنا قاصرين عن فهم مقاصدها العميقة؟ رجعنا تاني لتأليه السلطة وإعتبار الشعب عاجز ومحتاج لرعاية.." ص130.
إن الذين إستنكروا آراء أسماعيل هذه هم قصيرو النظر أياً كانت إنتماءاتهم السياسية، لأنهم كانوا يبحثون عن شرعية للحزب الشيوعي فقط، شرعية من نظام توهموا يوماً أن رئيسه عبدالناصرعضو في إحدى تنظيماتهم الشيوعية كما يقول إيهاب:" في الخمسينات كنت صغيراً... لم أكن كبيراً، ولكنني كنت أعي ما يدور حولي. إعتقدنا أننا حققنا كل شيء، في فترة العدوان الثلاثي على مصر كنا في معكسر للفدائيين قرب بحيرة المنزلة. كانت بطولاتنا تتجسد في الطرف الآخر من البحيرة في بور سعيد وكنا نعتقد أننا وقد وضعنا أيدينا في أيدي السلطة فسوف تتحقق الاشتراكية. كنا نحلم حتى جاءت إعتقالات ليلة رأس السنة عام 1959، ما فاجأنا هو الكراهية والحقد الذي عاملنا به عبدالناصر وأجهزته.كنا نعتقد أنه واحد منا, إحدى التنظيمات الشيوعية كانت تقول أنه كان عضواً فيها.. في ذات ليلة من يونيو إكتشفت إننا نكرر أحلامنا وأخطاءنا ذاتها التي كانت في الخمسينات" ص156. إن هزيمة مثل المسخرة التي حدثت في حزيران عام 1967، لا يمكن التعبير عن أهوالها وإنكسارتها الإجتماعية والنفسية، إلا بأسلوب السخرية الذي يجعل هذه الهزيمة شاخصة وماثلة وعارية تماماً هي والرموز التي خلقتها وأوصلتنا إليها. كيف تلقى(إيهاب) صاحب البطولة الرئيسية والخاصة في (الروائيون) أنباء بداية الحرب التي إنتهت بالهزيمة..؟
"كان الراديو يذيع برنامج(إلى ربات البيوت). كانت سامية صادق تشرح الطريقة التي تعد بها ربة البيت (دقية البامية). توقف الإرسال فجأة وإنطلق من الراديو مارش عسكري.. في تلك اللحظة إنطلق صوت المذيع يقول إن أعداداً كبيرة من الطائرات الإسرائيلية قامت بمهاجمة أهداف عسكرية داخل مصر, وأنه قد تم إسقاط أربعين طائرة.. توقف المذيع فعادت سامية صادق تشرح طريقة إعداد (دقية البامية),ص138.وهكذا بعد نقاش مرير بين الرفاق والأخوان وبعد مشادات عنيفة بين متحمسين للنصر الذي يتحقق على الأرض وبين متأكدين بأن النصر مستحيل، يرتفع صوت (إسماعيل) الفدائي القديم صديق الشيوعيين في السجن وبعده ليلخص الموقف بقوله:
"مع مقدمات زي دي النتائج معروفة" فيسأل إيهاب: يعني؟ فيجيبه: "الهزيمة" ص146.
ورغم ذلك ظل(إيهاب) يهرب إلى الكحول وأحلام اليقظة ولكنه عندما يفيق من الكحول والجنس، يصرح لـ "زينب" : "حنعيش أيام صعبة يا زينب" ص149. ويعود من جديد إلى أحلام اليقظة يوجه نداءات للجيش الإسرائيلي يطلب منه الإستسلام دون شروط، مُصراً على أن يضع (دايان) بالذات على خازوق.. وما هي إلا أيام قليله حتى أدرك هو وزينب أكثر من سواهما، أنهما هما من وُضعَا على الخازوق، وإن عمراً و(عالماً بلا أوهام) قد ابتدأ، إنه عالم ما بعد الهزيمة حيث سقط كل شيء حتى الأحلام. كيف تلقى إيهاب وزينب هذا العالم المفضوح،هذه الحياة التي تجلت على حقيقتها مُرة ومهزومة؟
لقد تعاملت أكثر من رواية عربية مع هزيمة حزيران، وطرحت العديد من الحلول الفكرية والروائية، إلا أن تعامل غالب هلسا معها في روايته (الروائيون) كان مختلفاً،إذ كان الأكثر تراجيدية وفجائعية. قدمت شخوص الرواية العديد من الحلول، فمنهم من عمل على توحيد الحزب الشيوعي للتوفيق بين الخط الصيني والخط السوفيتي، ومنهم من رأي أن الحل يكمن في العودة للجذور الماركسية، أما الشخصيتان الرئيسيتان إيهاب وزينب وهما المعبر الحقيقي عن إنطباعات غالب ورؤاه فقد كان ردهما مختلفاً: إيهاب هجر الكتابة رغم كل التشجيع من حوله ورغم قدراته التي تنبئ بكاتب كبير، واستغرق في الكحول والجنس بشكل محموم وكأنه لا يعرف في الدنيا ولم يجرب سوى معنى وطعم مفردتي "كحول" و "جنس". أما زينب, وهي الوجه- التوأم لإيهاب، فترمي نفسها بشكل كامل في بركة الجنس أينما وجدته مع إيهاب ومع غيره،مع ضباط المباحث والسواح. أصبح الجنس هدفا في حد ذاته بمناسبة وغير مناسبة سواء صاحبته اللذة والرغبة أم مجرد المجاملة،ومع الجنس تجرب ما تسميه (المتع الجنونية) من حشيش وأفيون وكل أقراص الهلوسة. وهنا لا بد من طرح السؤال: هل هذا الرد من (إيهاب) و (زينب) هو الرد المناسب على هكذا هزيمة؟ أعتقد أن موقف (إيهاب) و (زينب) هذا يحتمل العديد من أوجه النقاش والخلاف . فمن قائل أن الإحباط الذي سببته الهزيمة لا يمكن إحتماله إلا بهذا النوع من الهروب حتى وإن سماه البعض تهتكاً وانحلالاً وهذا هو رأي زينب،عندما تقول: "ما فيش رد على المجتمع الذي سطحنا وقتل كل شيء جميل فينا إلا بممارسة المتع الجنونية :المخدرات والدعارة" ص305. وهي تصر على التسمية، فعندما يصحح لها (إيهاب) ويقول لها :"عايزة تقولي الجنس" ترد عليه بوضوح "الدعارة بقول لك" ص305. وتواصل (زينب) خطابها السياسي، تدافع عن موقفها أو سقوطها كما سماه إيهاب، تقول: "...أنا إكتشفت الأكذوبة، في كل مرة بنبني أُسطورة بنصدقها بنكتشف كذبها، بنبني أُسطورة ثانية بنفس المعطيات بنكتشف كذبها، دائرة مفرغة بنيناها سنة الست وخمسين وسنة التسعة وخمسين. لمْوُنا كلنا وحطونا في المعتقل، في المعتقل أيدنا عبد الناصر، يقتلنا ونؤيده، كنا بنقول إنه يبني الإشتراكية وعلشان يبنيها كويس خلينا الأحزاب الشيوعية، وحرب السبعة وستين؟ خلال ساعات حانكون في تل ابيب؟ وإشتراكية (المقاولون العرب)؟ وسبعين في المية من الميزانية الحربية بتروح للسماسرة والمقاولين والمناطق الحرة.."
وهناك من تبني موقف ضرورة العمل وسط الجماهير. وتثقيفها عبر الندوات والإجتماعات السياسية، مثل (إسماعيل أحمد) الفدائي القديم وصديق الشيوعيين في السجن وخارجه، ويقنع (إيهاب) بهذا الموقف، ولكن لساعات قليلة فقط، لأن العملية عنده جدلية فـ(فشل السياسة أدى إلى فشل الرواية) وبالتالي هجر الأثنين معاً. إن عذابات (إيهاب) وإنهياراته بسبب الهزيمة- الفضيحة، إصابته بالعنّة فأصبح عاجزاً جنسياً، بعد أن كان الجنس وسيلته الوحيدة للتعبير هو وزينب. من أول الرواية حتى ما قبل نهايتها، إن العنّة عند إيهاب هي الإشارة الروائية الأولى لموته، ولكن الموت إذا تأخر مجيئه الطبيعي لمن يطلبه، فلابد من السعي إليه إنتحاراً، وقد بدأت الفكرة تنضج في لاوعي (إيهاب) فها هو في الصفحة ما قبل الأخيرة من الرواية يسأل (زينب) : "ما فكرت تنتحري؟" قالت بعصبية: " لأ... لأ" قال: "غريب". إن ما هو ليس غريباً عنده في هذه اللحظة، هو العكس تماماً أي الانتحار، ولكن الانتحار حالة تحتاج إلى شجاعة ورجولة، فما أن مسح دموع زينب حتى دعاها إلى السرير، فأحس أن إستعادة رجولته معها ومع إحساس زينب بالسعادة، "وقفت أمام المرآة تنظر إلى جسدها العاري. كان إيهاب يطالع جسدها العاري بدهشة ويتساءل: ما الذي فعله السواح وضباط المباحث بهذا الجسد؟ ". ولأن الإجابة على هذا السؤال، تعني الهزيمة فقد نهض إيهاب، وأخذ حبتي السيانيد من جيبه، وضعها في فمه وشرب كأس البراندي حتى آخره... وعندما عادت زينب من الحمام، أدركت من النظرة الأولى أنه ميت.
نعم كان لابد أن ينتحر (إيهاب)، لأن الهزيمة وعبر الرموز والأنظمة القائمة لافكاك منها، فهم ينهزمون ونحن نتحمل الألم والمسؤولية، قبل الهزيمة يقهروننا وكذلك بعدها باسم تحقيق النصر يزجوننا في السجون، ويقمعون حريتنا ويصادرون حتى أحلامنا، وأيضاً بعد الهزيمة، يمارسون نفس الأساليب بإسم تجاوزها، وهكذا ندور في حلقة مفرغة، تبدأ بالقمع وتنتهي بالقمع، فإذا نحن في (عالم أوهام)، نفيق منه على (عالم الهزيمة) الذي هو (عالم بلا أوهام) لنصل إلى (الجحيم) الذي هو موت إيهاب، الذي يعني موت جيل بأكمله.
لقد استغرب بعض النقاد (3) إطلاق غالب هلسا إسم (الروائيون) على ملحمته هذه، لإنه رغم وجود رواة عدة فيها، إلا أن الراوي الأساسي فيها الذي تتمحور حوله أغلب الشخصيات هو إيهاب بمعنى أنه كان ينبغي أن يسميها (الراوي)، وأرى أن هذه التسمية أيضاً غير ذات دلالة بالنسبة لأحداث الرواية وشخصياتها، فهي فعلاً رواية (إيهاب وزينب) أو رواية (الهزيمة كانت إسمها زينب). بعض الشيوعيين أغضبتهم هذه الرواية، إذ رأوا فيها نقداً حاداً وجارحاً وإهانة لحياتهم الخاصة وتسخيفاً لحياتهم السياسية، فمنهم من رأى أن هذا الإغراق في الجنس والكحول من قبل الشيوعيين (إيهاب) و (زينب) وسهرات الشرب الليلية من قِبل غالبية شخوص الرواية الشيوعيين، يظهر وكأن هؤلاء الشيوعيين لاشُغل لهم سوى الثرثرة والكسل نهاراً، والتنظير والكحول والجنس ليلاً، أما عن حياتهم وممارساتهم السياسية فقد أظهرتهم الرواية بأنهم دوماً كانوا على هامش حركة المجتمع، وأن مقياس مواقفهم أن يكونوا منسجمين مع النظام الناصري الذي رأوا فيه بانيا للإشتراكية، فحلوا الحزب الشيوعي ليصبح أغلبهم أعضاء في الإتحاد الإشتراكي العربي. فيما يخص النقطة الأولى المتعلقة بالحياة الخاصة للشيوعيين، كما عبرت عنها الرواية فإن سهرات الشرب والإغراق في الجنس بين (إيهاب) و(زينب)، كان موظفاً فنياً بشكل مقتدر دون أن يأخذ طابع التسطيح والإفتعال، فهاتان المسألتان كانتا نتيجة السجن وإحباطات المرحلة وما صاحبها من قمع بوليسي، ابتدأ في (الخماسين) وظل منتظماً متصاعداً حتى (الروائيون). إن العملية الجنسية بين (إيهاب) و(زينب) خط متواصل منذ خروجه من السجن ولقائه بزينب وحتى انتحاره في آخر الرواية، وكأن العملية الجنسية هي الموسيقى التصويرية المصاحبة للحدث والمعبرة عنه والمفسرة له بدون ابتذال وتصنع، فهما كمن ينتقم من نفسه ومن عجزه فيهرب إلى الجنس ملاذاً من الإحباط والقمع.
أما النقطة الثانية المتعلقة بالحياة والممارسة السياسية للشيوعيين في تلك المرحلة وربما بعدها، فإن الرواية ورغم تعاطفها مع الشخصيات الشيوعية، إلا أن فيها أيضاً نقداً جارحاً لتلك الممارسات، لأنهم فعلاً كانوا وظلوا على هامش حركة المجتمع، منقسمين على أنفسهم يحملون باشتراكية يبنيها لهم نظام العسكر البرجوازي، متناسين قمعه لهم، هذا القمع الذي لم يواجهوا مثله في العصر الملكي، ورغم إكتشافهم أن ما يبنيه النظام هو إشتراكية المقاولين العرب، ظلوا منقسمين تائهين بين (مطرقة الخط الصيني وسندان حل الحزب).
إن العناوين الرئيسية الأربعة لأبواب الرواية، تؤطر بشكل عام الحياة العامة لهؤلاء المناضلين في إطار الحركة الشيوعية في مصر، وتنسحب على نفس الحياة في الأقطار الأخرى، فهم من (السجن) إلى (عالم الأوهام الجميلة) ثم انكشاف المستور، فإذا بهم يعيشون (عالماً بلا أوهام)، وبدلاً من توحدهم ومواجهتهم المرحلة، صعوداً من إحباطاتهم نحو نجاحات جديدة، فإذا هم بإنقساماتهم وعدم مسؤوليتهم يدخلون الباب الأخير وهو (الجحيم) الذي كان هو الموت للجميع، معبراً عنه في آخر صفحة بموت (إيهاب) منتحراً..
إن رواية (الروائيون)، آخر الأعمال الإبداعية لغالب هلسا، تفرض نفسها من أهم الأعمال المكتوبة بفنية عالية، مسجلاً ملحمة الإنكسار والهزيمة، وهي مرحلة جيلنا التي ما تزال مستمرة، ورغم شبح الإنكسار والهزيمة فلدينا بصيص من أمل ونور، فأما أن نرتقي به صعوداً ووصولاً إلى النصر، وما أن نظل تائهين منقسمين بين (مطرقة الخط الصيني وسئدان حل الحزب)، بمعنى منقسمين بين مطرقة التنظير والأوهام وسيادة الفرقة والتشرذم، وفي هذه الحالة لا محالة من أن تكون نهاية كل منا، نفس نهاية (إيهاب) أي الموت إنتحاراً، أو تصفية على يد الآخرين. سوف يكتب النقد كثيراً عن هذه الرواية، وسوف يختلف النقاد كثيراً حولها، إلا أنها ستظل أجمل وأكثر تعبيراً عن الهزيمة التي تقتل الجسد والروح.
هوامش:
1.غالب هلسا، الروائي والكاتب الأردني المعروف، توفي في دمشق يوم18/12/1989.
2.(الروائيون) آخرعمل روائي له، صدر في دمشق عام 1989، قبل وفاته بشهور قليلة.
3.خيري الذهبي، مجلة الكاتب الفلسطيني، عدد 14،شتاء 1989.