كتَّاب إيلاف

الديمقراطية بين مناصريها الحالمين وخصومها الراديكاليين

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

واقع وآفاق تطور العملية الديمقراطية في العراق (2 من 2 )

الحديث عن مستقبل الديمقراطية في العراق يستدعي إلى الذهن حضور موقفين. الأول هو موقف ما يمكن تسميتهم ب"الحالمين" الديمقراطيين في العراق وخارجه. فهولاء كانوا يتوقعون، أو بالأحرى يحلمون، أن يجدوا، فور سقوط نظام صدام حسين، نظاما ديمقراطيا على غرار ما تعيشه الديمقراطيات الأوربية. وعندما لم يجدوا على أرض الواقع الجديد، بغيتهم انتابهم الهلع والقنوط واليأس. وبدلا من تعديل أو تغيير نظرتهم السابقة، وهي نظرة طفولية وميكانيكية بدون شك، فأنهم راحوا، وبطريقة لا تنقصها روح الاستعلاء والنخبوية، يضعون اللوم على الشعب العراقي، متهمين إياه بالجهل والتخلف، ثم شرعوا يقرأوون سورة الفاتحة على روح الديمقراطية التي ماتت، في رأيهم، ولن تقوم لها قائمة بعد الآن في العراق.
الموقف الثاني هو الذي يعبر عنه غلاة خصوم الديمقراطية، على اختلاف ألوانهم السياسية ومواقعهم الاجتماعية، ومنطلقاتهم الأيدلوجية، وبواعثهم في معاداة الديمقراطية. هولاء لا يلتقطون من كل المشهد العراقي القائم بعد التاسع من نيسان 2003 ، إلا نصفه الأكثر سوادا: الفوضى التي تعصف بكل مناطق العراق والاحتقان الطائفي الذي وصل، أحيانا، إلى حد القتل على الهوية، والفلتان الأمني والفساد المالي والإداري، وغياب سلطة الدولة وتلاشي هيبتها، والغلاء الفاحش. بالطبع، أن هذا الجانب المأساوي المريع ليس من صنع المخيلة، وإنما هو أمر واقع، وجحيم يتلظى بنارها العراقيون يوميا. لكن هذه القوى المناهضة للديمقراطية، في العراق وخارجه، لا ترى هذا الوقع، باعتباره مرحلة، أو لحظة تاريخية عابرة تحتمل النقيضين، أي، قد تزداد تدهورا مثلما قد يتم تجاوزها، والوصول إلى مرحلة جديدة متقدمة. هذه القوى ترغب وتسعى جاهدة إلى "تخليد" هذه المرحلة، وصولا إلى تعزيز أطروحتها العزيزة على قلبها والقائلة بأن النظام الديمقراطي لا يصلح للمجتمعات العربية/ الإسلامية، لطبائع متأصلة في هذه المجتمعات، أو أن الديمقراطية أكذوبة، أو هي في أحسن الأحوال، أمر أخترعه الغرب و يتعارض كليا مع تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا، وأن الولايات المتحدة تريد فرض هذا "الاختراع الغربي" فرضا، وزرعه داخل جسد المجتمع العراقي، أولا، وفي عموم المجتمعات العربية لاحقا، لهدم وتخريب هذه المجتمعات، وبالتالي فإنها محاولة محكوم عليها بالفشل، مهما كانت الظروف، ومهما تقادمت الأيام والسنين، كما يؤكدون. وللرد على هذه الآراء ومناقشتها علينا أن نذكر الأمور التالية:

أولا/ نظام صدام حسين الذي أسقطته القوات الأميركية، كان، امتدادا لمواصفات نظام الحكم العربي المعاصر السائد حاليا، والسابق. وقد استخدم صدام حسين، من أجل تثبيت سلطته، جميع "الأسلحة" "الشرعية": استخدامه لغطاء الشرعية الثورية في بداية الأمر، ثم شرعية الدين/ الحملة الإيمانية/، ثم شرعية صناديق الانتخابات، أو ما سماها "البيعة". وقد ترافق ذلك مع الاستخدام المفرط للقسوة من قبل صدام، واستخدامه للجزرة والعصا لتثبيت أركان حكمه، وأخذه الناس بالظنة ومعاقبتهم على الشبهة في أحيان كثيرة. وفي كل هذه الأمور فان صدام لم يخترع أمورا جديدة، وإنما أعاد استنساخ تجارب من سبقوه من الحكام، القدماء منهم والمعاصرين.

لكن ماذا كانت النتيجة؟
النتيجة هي أن حكم صدام حسين وصل، شأنه شأن معظم الأنظمة العربية الحاكمة، لكن بفوارق بسيطة تتعلق بالشكل والكمية وليس بالجوهر والنوعية، إلى طريق مسدود، وبات يواجه مأزقا حقيقيا، وعاش عزلة خانقة، بعد أن ظلت دائرة الحكم تضيق، ثم انحصر إصدار القرارات المصيرية الكبرى بيد أفراد لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، وينتمون إلى عائلة الرئيس نفسها . ولهذا، عندما سقط نظام صدام، فأن العراقيين لم يذرفوا، في أغلبيتهم الساحقة، و على اختلاف طوائفهم وقومياتهم وأعراقهم، بما في ذلك أطراف مهمة في المقاومة الحالية المناهضة للقوات الأميركية وللعملية السياسية الجارية، دمعة واحدة حزنا وأسفا عليه، رغم أن سقوطه كان بفعل تدخل عسكري أجنبي. وبأ مكاننا، تعزيزا لما نقول، أن نستشهد بما قاله الدكتور الشيخ حارث الضاري، أمين عام هيئة علماء المسلمين المناوئة بشدة، حاليا، للتواجد الأميركي وللأوضاع السياسية الناشئة عنه، بأن حكومة صدام حسين "أدخلت العراق، خلال مرحلة الخمسة وثلاثين عاما الأخيرة، في سلسلة من التهورات السياسية كان الخاسر الوحيد فيها هو الشعب العراقي"/ صحيفة القدس العربي بتاريخ 14/12/2005/ .

ثانيا/ التغيير الذي حدث داخل العراق في التاسع من نيسان 2003 لم يحقق نظاما ديمقراطيا، أي ما نزال بعيدين جدا عن النظام الديمقراطي المؤسساتي الشامل. وكل ما أنجزه التغيير هو، أنه "فتح الطريق" أمام قيام نظام ديمقراطي، ودشن بدء عملية ديمقراطية processus deacute;mocratique وهذه العملية ما تزال في بدايتها الجنينية، وتواجه مخاطر حقيقية، قد تطيح بها وتمحقها محقا، لكن هذه العملية انطلقت بالفعل وما تزال مستمرة حتى هذه اللحظة.
ويمكن تلخيص نتائج أو ثمار هذه العملية الديمقراطية، بإطلاق حرية التعبير، وازدهار الحياة الحزبية، وحرية الصحافة وتعدد المنابر الإعلامية، وحق التظاهر، وانبثاق نحو ثلاث ألاف من منظمات المجتمع المدني، والاعتراف، حتى لو أعتبره البعض منقوصا، بحقوق الأقليات، وقيام الانتخابات البلدية والنقابية، وتخصيص عدد من المقاعد البرلمانية للنساء. وترافق ذلك مع أجراء الانتخابات التشريعية التي قادت إلى ظهور البرلمان، وإصدار دستور دائم للبلاد، رغم أن بعض نصوصه ما تزال تواجه اعتراضات ومطالبة بتعديلها، من قبل قطاعات مهمة داخل المجتمع العراقي.
إن هذه الإنجازات ليست من صنع الأوهام، إنما هي إنجازات موجودة على الأرض، وهي إنجازات ديمقراطية بدون شك، وهي بداية لتأسيس ثقافة "الديالوغ" الديمقراطية التعددية اللامركزية، ورفض لثقافة "المونولوغ" الاستبدادية الوحدانية المركزية التي كانت سائدة، تاريخيا، داخل المجتمع العراقي، وداخل المجتمعات العربية الأخرى. وهذه الانجازات لم تستفد منها جهة عراقية واحدة، وإنما أيدتها أو شاركت فيها أو استفادت منها جميع القوى، الدينية، المدنية، العشائرية، المحافظة، الحداثوية، اليسارية، الليبرالية، بل وحتى تلك الجماعات العراقية المناهضة مبدئيا للديمقراطية، كالقوى العراقية الإسلامية المتشددة. فالمرجعية الدينية كانت رائدة في المطالبة بإجراء الانتخابات العامة. والتيار الصدري شارك في الانتخابات وأوصل ممثليه إلى البرلمان وشارك في الحكومة المنتخبة، سوية مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الفضيلة. والحزب الإسلامي شارك في الانتخابات ويشارك الآن في الحكومة المنتخبة. وهيئة علماء المسلمين لم يصدر حتى الآن من أمينها أو من أحد زعمائها، ما يرفض الديمقراطية، كأسلوب في الحكم. وحتى الجماعات الدينية المتشددة الرافضة مبدئيا للديمقراطية، نجحت في إيصال عدد من أعضائها إلى البرلمان، وفسرت مشاركتها بالقول: "نحن ننظر إلى الديمقراطية باعتبارها نظاما للحكم فيها مفردات توافق الإسلام... وما ننتقي من الديمقراطية هو جوهرها الذي يناسبنا ( مقابلة مع الشيخ علي باببر، أمير الجماعة الإسلامية الكردستانية، في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 02/6/2006 ). وعلى المستوى المدني، فأن العملية الديمقراطية شارك فيها العرب والكورد والتركمان والمسيحيون والصابئة واليزيديون وشيوخ وأفراد العشائر، مثلما شارك فيها العلمانيون والديمقراطيون والمحافظون المتشددون، والذين أيدوا العملية السياسية منذ انطلاقتها، والذين كانوا قد تحفظوا عليها أو قاطعوها سابقا. أما النساء فقد شاركن وخصصت لهن مقاعد بعينها في البرلمان. وهذه العملية الديمقراطية ارتضتها غالبية الشعب العراقي، بما في ذلك الجهات العراقية التي ما تزال تناهض، بقوة السلاح، الوضع الجديد. والدليل على ذلك هو، نجاح الانتخابات الأخيرة. فهذه الانتخابات ما كان لها لتنجح لو لم تتم الموافقة عليها من قبل الجماعات العراقية المسلحة المناهضة للوضع الجديد، خصوصا في المناطق العراقية التي تشهد اضطرابات واسعة. بل أن تلك الجماعات قامت بإعلان شبه هدنة عسكرية لتأمين إتمام الانتخابات بنجاح. صحيح، إن العمليات المسلحة المناهضة للسلطة السياسية الحالية ما تزال قائمة حتى الآن، لكن ذلك، في الغالب الأعم، ليس بسبب مناهضة "الديمقراطية" بحد ذاتها، أي كأسلوب في الحكم. العمليات المسلحة ما تزال مستمرة، سعيا لإزالة ما يراه القائمون بها والمؤيدون لها، صحا أو خطأ، غبنا قد حدث، سواء كان هذا الغبن طائفيا أو يتعلق بتوزيع الثروة القومية، أو بتوزيع مناصب الدولة أو تهميش بعض قطاعات من المجتمع، أو تخلصا من الاحتلال الأجنبي.
ثالثا/ الحقيقة الثالثة هي، أن هذه العملية الديمقراطية بدأت بعد سقوط نظام صدام وليس قبله. وهي بدأت، بعد الاحتلال الأميركي للبلاد وليس قبله. بل هي بدأت بمبادرة وبأشراف القوات الأميركية المحتلة. هل في هذه الحقيقة من مفارقة؟ نعم، إنها مفارقة كبرى وشديدة الإيلام. وهي مفارقة من شقين.
الشق الأول هو، أن الاحتلال الأميركي سيظل جرحا عميقا في الذاكرة العراقية وإهانة للكرامة الوطنية. والولايات المتحدة الأميركية التي شنت الحرب على العراق واحتلته، إنما فعلت ذلك لضمان مصالحها، أولا وأخيرا، وقواتها المتواجدة حاليا على الأراضي العراقية، إنما تعمل لتحقيق أجندتها الخاصة بها. قد تقترب، وربما قد تتطابق هذه الأجندة في أهدافها، مع المصالح العراقية، لكنها تظل أجندة أميركية. وهذا الكلام يعني أن الولايات المتحدة لها أولويات إستراتيجية تعمل لتحقيقها، حتى لو قادها ذلك إلى إنقاذ نفسها و ترك العراقيين يواجهون مصيرهم المأساوي وحدهم. ونحن نتذكر ما قاله مرة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بأن القوات الأميركية في العراق لن تتدخل لو نشبت حرب أهلية. وهذا يعني أن الولايات المتحدة لن تتردد، إذا رأت في ذلك ضمانا لمصالحها، من معارضة، أو حتى التخلي نهائيا عن الخيار الديمقراطي الذي تقول انه هدفها المركزي الذي تسعى لتحقيقه في العراق والعالم العربي.

الشق الثاني في هذه المفارقة، نفضل أن نطرحه بصيغة سؤال هو: هل كان بإمكان العملية الديمقراطية أن تنطلق بشكلها الحالي، لو أن نظام صدام حسين سقط بفعل انقلاب داخلي كان قد نفذه قادة عسكريون، أو بفعل "انقلاب قصر"، أو بقيادة جهة سياسية عراقية واحدة أو عدة جهات متحالفة؟ الجواب الذي يقدمه تاريخ العراق وكذلك العديد من وقائع السنوات الثلاث الماضيات على سقوط نظام صدام، على هذا السؤال يقول، لا. كل التغيرات السياسية الكبرى التي عرفها العراق قبل 9 نيسان 2003 ، كانت تتم وفقا لثقافة وعقلية "البطل"، سواء كان هذا "البطل" فردا أو كيانا. وفي كل مرة ينجح فيها التغيير، فان "البطل" هو الذي يقطف ثمار التغيير، وهو الذي يستأثر بها، وهو الذي يرسم مسارات التغيير، وهو الذي يحدد كيفية توزيع ثمار التغيير. ولكن في كل مرة كانت الأمور تصل إلى طريق مسدود، لأن "العقد" الكبرى السياسية والدينية والطائفية والإثنية يتم التغاضي عنها، أو يتم تأجيل حلها، أو ببساطة يمنع الحديث عنها، تماما، ويتم التعامل معها باعتبارها "محرمات/ تابوات"، يقود الحديث عنها إلى "نسف مقومات الوحدة الوطنية"، كما كان يقال دائما. الآن، وبعد 9 نيسان 2003، تقوضت، ما نسميها، ثقافة "البطل" ومعها سلطة الرأس الواحد، وظهرت ثقافة "الأبطال" المتعددين ومعها سلطة الرؤوس المتعددة. وهذا أمر فريد من نوعه في تاريخ العراق. وبعد أن كانت بعض المواضيع تعتبر في عداد المحرمات وتثير الحساسيات، فأنها أصبحت شؤون يومية عادية ترد على ألسن الجميع. وهكذا، أمسينا نسمع الحديث عن الشيعة والسنة وأقاليم الوسط والجنوب، وفيدرالية كوردستان، بل واستقلال كوردستان، و"عائدية" مدينة كركوك، هل هي للكورد أو للتركمان أو للعرب، ودور رجال الدين في السياسية. وهذا كله ترافق مع نقد علني في وسائل الإعلام ضد قادة الدولة وزعماء الأحزاب.
هذه الأبواب ما كان لها أن تفتح على مصاريعها، وهذه القضايا ما كان لها أن تناقش لولا الأجواء الديمقراطية الناشئة في البلاد.
الآن، نتوقع أن يطرح بعض القراء بعض الأسئلة، وإن فعلوا فهم على حق في طرحها مثل: وهل البلدان بحاجة إلى احتلال أجنبي لخلق أجواء ديمقراطية؟ أي ثمن دفعه العراقيون لهذه التغيرات خلال السنوات الثلاث الماضيات، وأي ثمن أخر سيدفعونه في قادم الأيام، وعلى أي مرفأ سترسو سفينة العراق، وجثث العراقيين ترمى في الشوارع وتغص بها المستشفيات؟
قلنا توا، ونقول الآن، وسنظل نقول أن الصحيح والمنطقي والوطني هو، لو أن هذا التغيير كان قد تم بأيدي عراقية، ومن دون احتلال أجنبي. لكن هذا لم يحصل، ولهذا فما نقوله يظل في خانة الأماني التي لا تقدم ولا تؤخر من الأمر شيئا. نحن نتحدث عن أمر وقع وانتهى. والسؤال المطروح هو، هل تتعارض أو تتقاطع العملية الديمقراطية الجارية، مع السعي للتخلص من الاحتلال؟ الجواب هو، لا. فكلما ترسخت المسيرة الديمقراطية وحظى جميع العراقيين بفرص متكافئة وحقيقية للتعبير عن مواقفهم ومطالبهم، وتقلصت مساحة الاختلافات بينهم، فأنهم سيقتربون من التوافق حول أكثر المشاكل تعقيدا. وقد أثبت تجربة السنوات الثلاث الماضيات استحالة تفرد واستئثار جهة عراقية واحدة في تقرير مصير البلاد. وهذا نوع من النضج السياسي، يحسب للديمقراطية وليس ضدها. وتشكيلة الحكومة الأخيرة التي ضمت جميع أطياف الشعب العراقي، وكذلك تشكيلة البرلمان الذي خرجت من رحمه الحكومة، دليلان واضحان على ذلك. وإذا تخلصت الحكومة من حال العرج التي تعاني منه، وتم اختيار وزيرين للداخلية والدفاع يحظيان بالإجماع، فأن ذلك سيمنح العملية الديمقراطية نفحات جديدة من الأوكسجين، ويشجع على السير في طريق التخلص من المخاطر التي تعيق سير العملية الديمقراطية، وهي مخاطر نلخصها كالأتي.

الأخطار التي تهدد العملية الديمقراطية
إن ما يهدد العملية الديمقراطية الجارية هما خطران، داخلي وخارجي. الخطر الداخلي يكمن في التعامل مع الديمقراطية بطريقة انتقائية. أي عندما تتنقي هذه الجهة العراقية أو تلك، من الديمقراطية، جانبها الانتخابي فقط، وتتعامل مع الانتخابات كعملية إحصاء سكانية تثبت عن طريقها وزنها العددي. والديمقراطية تنتكس عندما يصبح ولاء مؤسسات الدولة المدنية والأمنية لجهة عراقية، بعينها، بعيدا عن الولاء الوطني. والديمقراطية تتراجع عندما تنتقي هذه الجهة أو تلك، من الديمقراطية، جانبها السياسي وترفض مستحقات الديمقراطية على المستوى الاجتماعي/ الثقافي. والديمقراطية لا تتقدم إلى الأمام إذا لم تستأنف الحياة الاقتصادية دورتها الطبيعية ويعاد تشكيل طبقات وفئات المجتمع بشكل طبيعي. والديمقراطية لا تترسخ إذا لم تتم معالجة حالات الفساد الإداري والمالي. والديمقراطية تزدهر إذا ترسخت الأوضاع الأمنية، وتوطدت ثقة الفرد بنفسه وبالدولة وبالأخر المختلف الذي يشاركه في الوطن. والديمقراطية ستذبح من الوريد إلى الوريد إذا ظلت المليشيات على نشاطها، وظلت قوانينها فوق قوانين الدولة، فهذه المليشيات ستظل الحطب الذي تستمد منه الحرب الأهلية وقودها. وهكذا، فأن الديمقراطية عملية لا سقف زمني لها، ولا حد تتوقف عنده. إنها تظل سائرة ما دامت الحياة تسير، تتباطئ مرة، وتغذ السير مرة آخري، ويجرى عليها تعديلات هنا، وإضافات هناك، وفقا لما يستجد من ظروف. فكل عملية ديمقراطية، وفي كل بلد من بلدان العالم، لها ديناميتها الخاصة بها.
هذا في ما يخص الأخطار الداخلية. إما الأخطار الخارجية، فأهمها تدخل دول الجوار في الشؤون الداخلية العراقية، وكذلك، بل وقبل ذلك، وجود مجموعات دينية راديكالية مسلحة، كتنظيم القاعدة، تنشط داخل العراق. وعندما نؤكد على تنظيم القاعدة، فلأن هذا التنظيم ما يزال ناشطا بقوة في العراق، ويعمل وفقا لرؤيا استئصالية عدمية، كونية مفتوحة على الزمان والمكان، أي بدون أهداف محددة. والديمقراطية بالنسبة لهذا التنظيم ليست سوى "جريمة"، مهما كانت الجهة المشاركة فيها والمستفيدة منها. فقد رفض الدكتور أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، مشاركة حركة المقاومة الإسلامية، حماس، في الانتخابات الفلسطينية، وطالب قادة حماس "بعدم الجلوس في المجلس التشريعي الفلسطيني مع علمانيين... (لأن) الإسلام يعتبر هولاء العلمانيين مجرمين". وإذا كان هذا هو موقف تنظيم القاعدة إزاء حركة حماس، وهي منظمة إسلامية فازت بأغلبية مطلقة في البرلمان والحكومة، فكيف سيكون موقفه مع الديمقراطية العراقية التي جاءت ببرلمان عراقي يضم الشيء ونقيضه؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف