ولا كلمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم نرَ في صحيفة "النهار" تاريخ 7 حزيران، سواء بنسختها الإلكترونية أو الورقية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عدد 8 حزيران النسخة الإلكترونية، أي ذكر لخبر حفظ القاضي سيعد ميرزا لملف "المقبرة الجماعية" التي عُثر عليها بالقرب من بلدة عنجر اللبنانية قبل نحو سبعة أشهر. سبب حفظ الملف هو "إنتفاء الدليل على وجود جرم جزائي بعدما تبين أنها مقبرة عادية لمن سكن المكان منذ أكثر من 350 عاماً." الخبر تصدر الصفحات الأولى أو ظهر بارزًا في صفحة المحليّات اللبنانية لصحف لبنانية وعربية. من هذه الصحف التي تسنى لنا قراءتها بطبعتها الإلكترونية، "السفير"، "الأنوار"، "الحياة"، وموقع "إيلاف".
إن المقبرة، كما نشرت "السفير" نقلاً عن تقرير القاضي ميرزا: "مقبرة عادية، اعتمدها من توالى على الإقامة في البلدة من المسلمين لدفن موتاهم من الأجنة والرضع والحوامل والفتيان والفتيات والشبان والنساء والكهول والشيوخ والمسنين، منذ بداية القرن السابع عشر وحتى أواسط القرن العشرين وأن ليس بين الرفات من يعود تاريخ وفاته إلى ما بعد عام 1950، وأن لا دليل على وجود مقبرة جماعية لرفات توفي أصحابها بعد هذا التاريخ." كل هذا استنادًا إلى تقرير وضعه مختبر هولندي تبرع بفحص الرفات. هذا هو الخبر الأول والمهم.
الخبر الثاني والأهم هو عدم نشر النهار هذا الخبر. أهمية ذلك تكمن في الدرس الأول الذي يدرسه طلاب الإعلام والصحافة في سنتهم الأولى عن تعريف الخبر: "إذا عض كلب رجلاً فهذا ليس خبرًا. أما إذا عض رجل كلبًا فهذا خبر." حين نُبشت المقبرة، اعتبرت النهار ذلك خبرًا فوق العادة. هذا غيض مما فاض على صفحاتها آنذاك:
بيار عطاالله: النهار 5/12/2005 "أكبر المقابر في تاريخ "العلاقات الأخوية": روايات الشهود تكسر ليل الجرائم"
علي حماده - النهار 5/12/2005: "مقابر جماعية في عنجر: صورة حية لما كنا فيه"
بيار عطاالله: النهار 7/12/2005: "بررت السلطات السورية اكتشاف المقابر الجماعية قرب مقر قيادتها السابق في عنجر، بأنه من بقايا "الحرب الأهلية" في لبنان وساندها في هذا الرأي بعض من أرادوا طمس هذه القضية أو التعتيم عليها لغاية في أنفسهم. لكن هذه التبريرات تنقضها المعطيات الآتية:..."
مي عبود ابي عقل : النهار 7/12/2005: ""ذاب الثلج وبان المرج".
جبران تويني: النهار 12/12/2005: "مقابر عنجر الجماعية مسؤول عنها النظام السوري وحده. وهي جريمة في حق الإنسانية وتستدعي تحركاً دولياً فورياً وتحقيقاً موسعاً ومحكمة ومحاكمة دوليتين، بمعزل عن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما سيؤدي إليه التحقيق الدولي في ما اعتبره المجتمع الدولي عملاً إرهابيا."
إذا كان تعريف الخبر هو الدرس الأول الذي يتعلمه الطالب في أية كلية للصحافة، فإن التأكد من مصدر الخبر وموثوقيته وضرورة التأكيد العلمي والمخبري في قضايا الأدلة الجنائية "قبل" نشر الخبر كحقيقة هو الدرس الثاني. بل إن الصحافي في الغرب لا يحق له أن يكتب أن شخصًا "قُتل" حتى ولو شهد جريمة قتله بنفسه، قبل أن يصدر بيان رسمي عن الوفاة من جهة مخولة. كما لا يحق لصحافي أن يطلق صفة "مجرم" على أي شخص حتى لو شاهده يقتل شخصًا آخر بيديه، قبل أن يصدر الحكم قضاءه، وهلم جرًا.
كنا نتوقع أن تنشر النهار اعتذارًا من قرائها، فالدرس الثالث في كلية الأعلام يقول إنه على المؤسسة الصحافية التي تحترم نفسها أن تعتذر من قرائها إذا نشرت خبرًا مغلوطًا. في لبنان الوضع يختلف طبعًا، لا سيما إذا كنت صحيفة السلطة والضارب بسيفها.
إن المقتطفات التي نشرناها أعلاه هي لبعض كبار صحافيي النهار، وليس للمبتدئين منهم، وهذا يستدرج سيلاً من الأسئلة نضعها بتصرف "النهار" وسواها من دور الصحافة، وكذلك نقابات الصحف والمحررين في لبنان والعالم العربي: إذا كانت هذه حال "كبار" الصحافيين في واحدة من "أعرق" الصحف في العالم العربي، فما هو حال الصحافة عامة؟ وما هو الدور الذي تلعبه بعض الصحف في إثارة الأحقاد والغرائز فور التقاطها مادة يمكن استخدامها في إثارة الأحقاد والغرائز؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟ وبأي شكل؟ وما هو التعويض المطلوب من مثل هذه المؤسسات الإعلامية حين تُتَرجم الأحقاد المثارة أعمالاً جرمية مثل قتل العمال أو حرق خيامهم مثلاً؟ توقعنا أن تعتذر "النهار" ومحرروها الكبار، فإن لم يكن، فتقوم بنشر الخبر على أقل تعديل. ولا كلمة!
نعود إلى مدرسة الصحافة. هناك ما يسمى في الغرب "بالصحافة الصفراء"، وتعرفها دائرة معارف Wikipedia بأنها "كلمة تحقير وازدراء تُنعت فيها بعض وسائل الإعلام التي ينحط مستواها عن المستوى المهني للصحافة المحترفة، وتصبح مؤذية للمبادئ والأخلاقيات التي تقوم عليها الصحافة الاحترافية." وتضيف دائرة المعارف أن هذا التعبير يستخدم لوصف وسائل الإعلام التي تطغى فيها "الانتهازية" و"الإثارة" بل وحتى "البروباغندا" و"الجنغويزم" Jingoism، على التغطية الواقعية للأخبار. أما تعريف "الجينغويزم" حسب ما تقول الموسوعة فهو "الوطنية الشوفينية التي يرافقها تشدد في المواقف."
هل خرجنا عن الموضوع؟ لا. نحن ما نزال في الأساس. والأساس هو التالي: البلد على كف عفريت، وهناك من ينبش مقبرة القرية ليستغل ذلك سياسيًا، فتقدِّم واحدة من أكبر الصحف في البلد نفسها كوسيلة "للإثارة" و"الإنتهازية" والبروباغندا، و... الجينغويزم ويستل "كبار" صحافييها أقلامهم فيصدرون الأحكام ويطالبون المحافل الدولية بالتدخل، ويحرضّون... قبل أن يصدر أي تقرير علمي عن الموضوع. وحين يصدر التقرير - الحقيقة يسكتون وبراءة الأطفال في أقلامهم.
هذا الكلام لا يجوز أن ينتقص لحظة من معاناة أهل كل من استبيح دمه في المجازر المتعددة التي شهدها لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية وحتى خروج الجيش السوري منه، ولا من معاناة المفقودين أو المخطوفين أو المسجونين سواء أكان ذلك في السجون السورية أم اللبنانية، ولا من الأخطاء السورية في لبنان، أو من الشراكات - الفضيحة التي قامت بين عدد كبير من السياسيين اللبنانيين والضباط السوريين، والتي يتحمل نتائجها اللبنانيون والسوريون اليوم، بل العكس. إن الصدق والموضوعية هما شرط ضروري للوصول إلى الحقائق، وليس استثارة النعرات في خدمة المآرب السياسية.
إن الاعتراف بالخطأ فضيلة. والنهار قد أخطأت، وكنا نتمنى أن يكون لديها جرأة من يتحلى بالفضيلة.
إلى جميع القراء الكرام،
أعتذر منكم ومن صحيفة "النهار" ومن موقع إيلاف على خلفية المقال الأخير "ولا كلمة"، والذي انتقدت فيه "النهار" بسبب عدم نشرها خبر حفظ القاضي سعيد ميرزا لملف "المقابر الجماعية" كما اعتقدت. لقد لفت نظري أحد القراء الأعزاء إلى ان النهار في الواقع قد نشرت الخبر يوم أمس تحت الرابط التالي: http://www.annaharonline.com/htd/KADAR060607-2.HTM
والذي هو رابط صفحة "قضاء وقدر." فيما يلي تسلسل الخطوات التي قمت بها قبل نشر المقال:
1. لقد بحثت عن الخبر على صفحات النهار بعد قراءته في "السفير" و"إيلاف" وغيرها من الصحف، فلم أجده لا على الصفحة الأولى، ولا في صفحة المحليات اللبنانية.
2. طلبت من صديقة لي في بيروت أن تبحث في النسخة الورقية عما إذا كانت النهار قد نشرت الخبر، فجاءني الجواب سلبًا.
3. انتظرت لغاية صباح اليوم وبحثت في نفس الصفحتين الأولى واللبنانيات عن الخبر فلم أجده.
4. بناء على هذا نشرت المقال.
إن هذا الحذر لم يكن كافيًا على ما يبدو لي اليوم، ولا يشكل عذرًا عن تقصيري في البحث في جميع صفحات النهار، بما فيها "قضاء وقدر" قبل نشر المقال، فاقتضى التوضيح والاعتذار.
أسامة عجاج المهتار