ملاحظات نقدية حول الموضوعات الغائبة عن النقاش
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مداخلة في الندوة الفكرية التي تعقدها حلقة أصدقاء محمد حرمه باهي بعنوان "الحداثة وانعتاق الإنسان: مفاهيم وضوابط" في الذكرى العاشرة لوفاته، المنعقد بمكناس [المملكة المغربية] يومي 10 - 9 يونيو 2006 . تقرأها نيابة عنه: أسماء الشرايبي
اختيار موضوع الحداثة وانعتاق الإنسان، مفاهيم وضوابط، لوضعه على مائدة النقاش في الذكرى العاشرة لرحيل رفيقنا محمد حرمه باهي، اختيار سديد، لا لأن باهي كان، مثل الكثيرين من أبناء جيلنا، مسكوناً بهم الحداثة، لكي لا أقول بوسواس الحداثة، منذ حرب التحرير الجزائرية وخاصة غداة استقلال الجزائر، عندما طرح اليسار الجزائري الاشتراكية على جدول أعماله كخيار سياسي واقتصادي واجتماعي.عندئذ تنادي الاتجاه المضاد للحداثة لتكفير الاشتراكية بما هي"مستوردة من موسكو وبكين".بل أيضاً وخصوصاً لأن الحداثة تطرح اليوم نفسها على جميع نخب وأمم العالم ليس كخيار له بدائل ممكنة، بل كضرورة لا بديل لها. ليس أمامنا اليوم خيار إما أن نكون حداثيين وإما أن نكون تقليديين؛بل إن سؤال حقبتنا هو متى سنكون حداثيين وكيف؟ العولمة الاقتصادية وثورة الاتصالات، والمتطلبات الخارجية لم تعد تسمح لنا بأن نلتفت إلى الوراء، إلى ماضينا مستنجدين بروح الأسلاف عسى أن تقدم لنا وصفة سحرية لمواجهة تشعب الواقع العالمي وواقعنا الخاص.من هنا أهمية فهم رهانات الحداثة وكيفية تكييف ذهنيتنا، وقيمنا، وقوانيننا، ومؤسساتنا مع متطلباتها وفهم - وهذا ذو أولوية قصوى في نظري - مدخلنا إلى الحداثة.هذا ما دفعني، رغم ظروفي الصحية، إلى إملاء هذه الملاحظات النقدية بعد اطلاعي على جدول أعمال ندوتكم الفكرية. الموضوعات التي غابت عن مائدة النقاش والتي بدت لي ذات أولوية لأن على تحقيقها يتوقف توفير الشروط الفعلية لدخولنا إلى الحداثة، وأيضاً لتوفير حظوظ كسب رهانها الذي يتطلب حكماً إصلاحات ديمغرافية، ودينية وتربوية حقيقية.الموضوعات التي ستناقشونها في ندوتكم هي ولا شك من صميم الحداثة.لكن الموضوعات المسكوت عنها تشكل، في تقديري، المرقاة لجدول أعمال ندوتكم؛ وأتمنى أن تحضر على مائدة النقاش في الذكري الحادية عشر لرحيل فقيدنا باهي. فما هي الموضوعات التي غابت عن النقاش؟ هي عوائق الحداثة في الفضاء العربي الإسلامي: غياب التحديث الديمغرافي، غياب تحديث الخطاب الديني [=التعليم، الإعلام، خطبة الجمعة والوعظ]، التي تشكل عوائق هائلة أمام تحديث الاقتصاد، وتحديث الفرد، وتحرير العقل من رق النقل، والعلم، والعلمانية، والتقدم، والحرية، و الفلسفة الإنسانية، والدولة الحديثة والأقليات من تكفير الخطاب الديني لهم جميعاً.
العائق الأول لظهور اقتصاد حديث، أو بما هو أدق، الشروع الجدي في تنمية شاملة ومستديمة هو قنبلة الانفجار السكاني. يتضاعف سكان أمريكا الشمالية مرة كل 100 عام، سكان أوربا كل 125 عاماً؛أما العالم العربي فيتضاعف سكانه كل 25 عاماً. لم تخرج الصين والهند من اقتصادهما شبه التقليدي، ومن المجاعات المستوطنة إلا بفضل التحديث والتحديد الصارمين للنسل بحيث تفوقت معدلات النمو الاقتصادي على معدلات النمو الديمغرافي، وهذا هو الشرط الشارط للحداثة.ليس للحداثة الاقتصادية وحسب بل وللحداثة ككل. إذا كان معدل النمو السكاني مثلاً 3.8 كما في الأردن فمعدل النمو الاقتصادي المطلوب هو الضعف + 1 أي = 8.60. والحال أن النمو الاقتصادي في الأردن لم يتجاوز 3.90. فكيف يتم سد العجز؟ بالاقتراض من السوق المالية الدولية بفوائد عالية. الاقتراض صحي إذا كان للاستثمار، ولكنه كارثي إذا كان لإطعام الأفواه الجائعة التي أنتجتها قنبلة الانفجار السكاني!
القراءة الحرفية للنص الإسلامي المؤسس - وهي القراءة السائدة - تحرم وتجرم تحديد النسل عبر الفتاوى والتعليم وخاصة الديني. علماً بأن التعليم في جل البلدان العربية معظمه ديني مثلاً في مواد اللغة، الأدب، التاريخ، وأحياناً الرياضيات. وتعرفون ولا شك واقعة أو نكتة :الخطان المتوازيان لا يلتقيان إلا:بإذن الله! ولا عجب في ذلك. في مجتمعات تقليدية أو شبه تقليدية كمجتمعاتنا كل شيء دين. حتى الدخول إلى المسجد بالرجل اليمني، وإلى المرحاض بالرجل اليسرى... وهذا ما جعل الوعي الإسلامي الجمعي رافضاً لمطلب الحداثة الأول: حصر الدين في المجال الخاص كخيار فردي وليس كإلزام جمعي.
الحداثة الاقتصادية اسمها اليوم اقتصاد المعرفة؛ وهو اقتصاد محكوم بقوانينه الخاصة، وبتدبير وتنظيم عقلانيين. ما يعوق إقلاعه هو قنبلة الانفجار السكاني والمحرمات المضادة للتنمية الاقتصادية مثل المحرمات الغذائية والكسائية، وتحريم الفائدة، التي تمت مضاهاتها بالربا، وتحريم عمل المرأة أصلاً أو عملها مختلطة مع الرجل، وفرض بناء المساجد في أماكن العمل والجامعات لإقامة الصلوات في أوقاتها على حساب الوقت المخصص للعمل. رغم أن الإسلام أباح أداءها في غير أوقاتها للضرورة؛احترام الوقت الحديث ضرورة قصوى. باختراع الساعة في القرن السادس عشر بدأت البشرية تدخل الحداثة بوضع الوقت في خدمة التقدم، الذي هو الهدف المركزي للحداثة.الخطاب الديني يحشو جماجم المسلمين شباباً وشيبا أناء الليل وأطراف النهار بهذه المحرمات المعيقة لدخول الحداثة.
منتوج وحامل الحداثة هو الفرد الحديث.من هو الفرد الحديث؟هو الإنسان الذي انعتق من رق الروابط التقليدية:العائلة التقليدية، القبيلة، الطائفة والأمة الدينية ليغدو قادراً على التصرف في رأسه يفكر به كيف يشاء، وفي فرجه يستخدمه على هواه في إطار القوانين الوضعية العادلة. إذا كانت المرأة ترجم حتى الموت بالزنا فذلك لأن المجتمع التقليدي مازال يعتبرها غير جديرة بالتصرف في فرجها الذي هو ملكية عامة للعائلة، للقبيلة، للطائفة وللأمة. الفرد الحديث هو أيضاً القادر على اختيار قيمه باستقلال نسبي عن المجتمع.فإيمانه خيار فردي بعد أن كان التزاماً جماعياً لا خيرة له فيه. الحكم بدق عنق المفكر الحر بتهمة الردة دليل على أن الخطاب الديني الإسلامي مازال لم يستبطن بعد حق الفرد في التصرف في رأسه كما كان الحال في العصور ما قبل الحديثة. وهكذا فالفرد إذا حدث ومارس حقه الذي اعترف له به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في تبديل دينه أو في عدم الأخذ بدين من الأديان يسميه الخطاب الديني مرتداً. الخطاب الديني في كثير من البلدان العربية والإسلامية والخطاب القانوني لبعض هذه البلدان مازال جاحداً لوجود الفرد، لا يعترف إلا بعضو الأمة التي إذا اشتكي منها عضو تداعت له باقي الأعضاء بالسهر والحمى:فهو يولد مسلماً ويموت مسلماً ولا شيء غير ذلك إلا حد الردة!.
انتصار العقل على النقل مثّل أحد المعالم الكبرى للحداثة في أوربا منذ ثلاثة قرون.والحال أن الخطاب الديني السائد مازال يكفر العقل وفي أفضل الحالات يعتبره مجرد خادم للنص الديني. وليس مصادفة أن تقديم المعتزلة للعقل على النقل لا أثر له في ثمانية برامج تعليم إسلامي اطلعت عليها باستثناء البرنامج التونسي!.
حظ العلم ليس بأحسن من حظ العقل في الخطاب الديني.نظرية التطور الضرورية لفهم وتمثل منطق الحداثة بما هي مسار تطوري لا يكتمل أبداً محرمة ومجرمة في الخطاب الديني. لذلك لا تدرس في الثانوي في أي بلد عربي. والأدهي من ذلك أن الأزهر أصدر سنة 2000 قراراً يمنع نشر أي كتاب عن نظرية التطور!.
العلمانية مرادفة في الخطاب الديني للإلحاد! تسعة على عشرة من الدارسين والمدرسين يعتبرون هذه المماهاة حقيقة لا تقبل النقاش. لا ديمقراطية بدون علمانية. أي بدون الفصل، الضروري، بين المؤمن والمواطن، هذا الفصل يعني المساواة بين الرجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم في حقوق المواطنة بدون قيد أو شرط. وليس مصادفة أن التفاوت بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم في الواقع والقانون، مازال معتبراً تفاوتاً جوهرانياً ESSENTIALISTE لا يرقى إليه الهمس في الخطاب الديني والقانوني معاً !.
التقدم الذي شكل هدفاً مركزياً للحداثة لا يهجوه الخطاب الديني، الذي لا يري فيه إلا إباحية وإلحاداً، واستعماراً ونهباً وحسب، بل إن الخطاب التقليدي المتظاهر بالحداثة يكيل له أيضاً الهجاء ألواناً تقليداً لخطاب الاتجاه الغربي المعادي للحداثة، الذي صاغه مثقفون متشائمون صدمتهم واقعة الحربين العالميتين، أو المحرقة، مثل أدورنو، أو صاغة الجناح الأصولي في الكنيسة الكاثوليكية، المجروح من الثورة الفرنسية، الذي رأى في التوتاليتارية السوفيتية والنازية إحدى تجليات العقل التنويري وما أنجزه من تقدم علمي وتكنولوجي. والحال أن التوتاليتارية الستالينية والفاشية مثلت انتصاراً مؤقتاً للاتجاه المضاد للحداثة، وللتقدم العقلاني إلى السلام، والازدهار الاقتصادي والديمقراطية التي تتمتع بها كل دول الاتحاد الأوربي اليوم، وقد تمتع بها، في السيناريو المتفائل، جل أو كل دول العالم في المستقبل. لكن لا ينبغي أن ننسي للحظة واحدة أن الحداثة، كالحياة ذاتها، وعد ووعيد. انتصار إحداهما على الآخر رهن، بين أشياء وأخرى، بمدى استبطان الوعي الجمعي البشري العام لغرائز الحياة ضداً على غريزة الموت، للسلام على الجهاد، ولحق الشعوب في تقرير مصيرها على الاحتلال، وللعدالة على الاستغلال، وللتضامن على الأنانية الجمعية، وللقرية الكونية على النرجسية القومية، وللقانون على قانون الغاب.
الحرية: تكاد ترد في مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي هو تلخيص مركز لقيم الحداثة الأساسية، الكفيلة إذا استبطنتها البشرية، خاصة البشرية الإسلامية التي يقود قطاع مهم منها ضد الحداثة جهاداً لا هوادة فيه، أن تنتشل النوع الإنساني الذي ورث في جيناته عن أسلافه قرود الشامبنزي، وهذا اليوم مؤكد علمياً، قانون الغاب، العنف والحرب، من همجيته العتيقة والعميقة. الخطاب الديني الإسلامي يكفر هذه الحرية ومعها باقي قيم حقوق الإنسان. الحرية الدينية، وحرية الضمير، المكفولتين بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يعتبرهما هذا الخطاب ملعونتين لأنهما تبيحان ردة المسلم عن دينه.
الفلسفة الإنسانية التي جعلت الإنسان الحديث صانع قدره، صانع مستقبله وصانع خيره وشره على السواء، يري فيها الخطاب الديني تطاولاً على القضاء والقدر وإحدى أمارات نهاية العالم!.
الحداثة السياسية، المتمثلة في الدولة المدنية الديمقراطية ومجتمعها المفتوح، المحترمة مبدئياً لحقوق الإنسان والتي تستمد شرعيتها داخلياً، من إنجازاتها ومن مصداقيتها الديمقراطية لدى أغلبية مواطنيها وتستمدها، خارجياً من سياسة عاقلة أكثر فأكثر، تقدم خيار التفاوض على خيار الحرب، والتكافل L, INTERDEPENDANCE مع المجموعة الدولية على استفزازها. وهذا ما تجسده الآن دول الاتحاد الأوربي ربما لأول مرة في تاريخ البشرية المكتوب؛ هذه البشرية التي لم تعرف خلال سبعة آلاف عام من الحرب إلا 375 عاماً من السلام الذي لم يكن في الواقع إلا هدنة بين حربين.
دولة الحداثة السياسية مرفوضة من الخطاب الديني، أسير الحنين إلى دولة الخلافة ومجتمعها المغلق، المحكوم بخليفة لا يعزله إلا الكفر البواح أو الموت. ويستمد شرعيته من تطبيق شريعة العقوبات البدنية ومن الجهاد إلى قيام الساعة، ولا يعترف بالفصل بين السلطات الثلاث، ولا يقيم وزناً لرأي رعاياه ولا يعترف بحقوقهم الإنسانية ويرغمهم، بالسيف والنطع، على التقيد بحقوق الله (العبادات). هذا الخليفة اسمه اليوم الولي الفقيه في إيران، أو أمير المؤمنين الملا عمر، أو حسن الترابي...إلخ.
تحديث وضع الأقليات الدينية، الطائفية والقومية، التي يعاملها الخطاب الديني ورديفه الخطاب القانوني كأهل ذمة أو طابور خامس، شرط شارط لدخول المجتمعات الإسلامية إلى الحداثة السياسية. هذه الأقليات التي أقصتها المجتمعات ما قبل الحديثة من السلطة السياسية تعوض ذلك بتفوقها في المجتمع الأهلي أو المدني:في الاقتصاد، في الثقافة، في العلم... لصنع "حداثة" عصرهم. يشهد على ذلك إسهام الأقليات المسيحية، اليهودية، الفارسية، الصابئة والسريانية في صنع الحضارة العربية الإسلامية. يشهد على ذلك أيضاً دور الأقلية المسيحية اللبنانية - السورية في تحديث العربية رغم سياسة "التتريك" العثمانية التي أقصتها من الإدارة... يشهد على ذلك دور كردستان كقاطرة لقيادة العراق إلى الحداثة:تمثل المرأة في برلمان حكومة فدرالية كردستان 25% من البرلمانيين وهي من أعلى النسب في العالم. تشكل هذه الأقليات، خاصة في المشرق العربي، العمود الفقري لنخب هذه المجتمعات. مثلاً: يمثل مسيحيو العراق بين 2.5 إلى 5 % من مجموع السكان؛ لكنهم يمثلون 20 % من المهندسين، 25% من الأطباء و 36 % من الصيادلة...وقد لا تختلف نسبتهم في البلدان الأخرى كثيراً عنها في العراق، هذه الأقليات التي تكابد حكومات تيوقراطية وثيوقراطية أو نصف ثيوقراطية من مصلحتها الموضوعية، وهي تعي ذلك، مساندة العلمانية والديمقراطية ومؤسسات وعلوم وقيم الحداثة... وباختصار تشكل الأقليات، النساء الواعيات والنخب الحديثة القوى الأساسية الحاملة لمشروع الحداثة في الشرق الأوسط.
تجاهل تحديث التصور الديني التقليدي للإنجاب "تناكحوا تناسلوا..." وهو حديث موضوع مأخوذ من العهد القديم "تناكحوا تناسلوا وعمّروا الأرض" وتحديث الخطاب الديني، خاصة التعليم والإعلام، كانت ثمرته المرة خلال نصف قرن 70 مليوناً من الأميين والجهلة المستهلكين للخطاب التقليدي المعادي للحداثة، وكذلك تكوين جيوش من التقنيين، والمهندسين، والفقهاء، وحملة الشهادات العليا المناضلين في صفوف الاتجاه المضاد للحداثة الذي يقوده اليوم الإسلام السياسي والإسلام التقليدي. وهكذا من دون تحديث الديموغرافيا والخطاب الديني سيظل مشروع الحداثة في أرض الإسلام معزولاً بين النخب ومرفوضاً من الجمهور العريض مما قد يؤدي إلى فرضه داخلياً و/أو خارجياً بثمن باهظ من الدمع والدم كما حدث في أوربا الغربية إبّان دخولها الحداثة، أو كما يحدث الآن في العراق وغداً ربما في باقي المجتمعات العربية الإسلامية التي مازالت منغلقة عن الحداثة.