مأتم الجزيرة وعرس واشنطن الزرقاويان...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وقاحة وهيستيريا
يبدو من المهم والضروري جدا أن تعود إلى نقطة الصفر كلما أردت الحديث عن موضوع حساس . وفي كل عودة عليك أن تكرر جملة من المبادئ والثوابت التي تنطلق منها، وتذكّر من يهمه الأمر بخلفية ودوافع الموقف الذي تصدر عنه، لئلا ترجم بتهم لا تعرف حتى الأبالسة من أين يأتون بها.
انطلاقا من ذلك، أجد من المهم التأكيد مرة تلو الأخرى على أني ضد أي حل أمني لقضية سياسية أو حقوقية؛ وضد اعتقال أي صحفي أو مراسل أو منع أي وسيلة إعلام من تغطية حدث ما، أي حدث، مهما كان حساسا، طالما أنه شأن عام ولا يدخل في باب الخصوصيات الإنسانية أو ينتهك حصانتها. وكنت، وسأبقى، أعتبر أي عمل من هذا النوع اعتداء سافرا على حرية الصحافة والصحفيين، وعلى مبدأ أساسي هو حق الناس في الوصول إلى المعلومات. ومن المهم الإشارة إلى أن اعتداءات من هذا النوع كثيرا ما تؤدي إلى عكس المراد منها تماما، بحيث يصعب عليك أن تصفها إلا بالغباء المطلق الذي يحول المخطئين والخاطئين إلى شهداء وأبطال وضحايا، فيكسبوا ـ بالتالي ـ مزيدا من التعاطف!
هذه المقدمة "المبدئية" المكرورة، والبليدة ربما، وجدتها أمرا لا غنى عنه بمناسبة الحديث عن الطريقة التي غطت بها "الجزيرة" خبر مصرع الزرقاوي اليوم، ومنع السلطات الأردنية مراسل القناة في عمان،الزميل ياسر أبو هلالة، من دخول مدينة الزرقاء لرصد ردود فعل أسرة هذا الإرهابي الخطير، وأبناء بلدته، على مصرع مواطنهم الذي تحول إلى أحد رموز الإرهاب والإجرام المروّع، ليس في العراق فقط، بل وفي بلادهم أيضا. فنقل هكذا ردود فعل أمر مفيد جدا لنعرف كيف يفكر الناس هنا، مع أن قناة مثل "الجزيرة"، وبسبب من موقفها الأيديولوجي، ربما لن ترينا إلا ما تحب لنا أن نراه؛ بل وقد تظهر لنا أن جميع مواطني الزرقاء إرهابيون وأعضاء في "القاعدة" وجماهير لفقيدها الكبير!
وإذا كنا بصدد الأردن وموقفه من "الجزيرة"، فلا بد لي من الإشارة هنا إلى أني ـ سواء بصفتي الشخصية أو بصفتي الاعتبارية في المنظمة الإقليمية التي أنشط لصالحها دفاعا عن حرية الصحافة والتعبير ـ طالما دافعت عن هذه المحطة في "مشاكلها" مع السلطات الأردنية في السابق. وهذا ما سأفعله دوما. ويعرف هذا الأمر جيدا ليس فقط الصديقة العزيزة دينا قعوار سفيرة المملكة في فرنسا، التي طالما تحملت برحابة صدر تحسد عليها نزقي وغضبي في نصرة هذه القضية وقضايا أخرى سابقة تتعلق بالأردن، بل ومكتب القناة في باريس أيضا. وقد شاركت في العديد من الاعتصامات دفاعا عن حرية المحطة حين تعرضت هي أو كوادرها للعدوان الأميركي أو المضايقات من حيثما جاءت . ويذكر هذا جيدا الزميل والصديق العزيز ابراهيم هلال، رئيس تحرير الأخبار الأسبق في "الجزيرة"، حين شاركنا سوية قبل ثلاث سنوات في ندوة بمدينة "ريسيوني" حول القناة بدعوة من مؤسستي Premio Giornalistico Telvesisivo و Ilaria Alpi الإيطاليتين . فقد دافعت عن القناة بمحاضرة تحت عنوان "الإعلام العربي ما قبل الجزيرة وما بعدها"، وقد أطرب دفاعي كلا من الصديق هلال وإدارة محطته. ذلك رغم أنها كانت قد أن وضعتني، ولا تزال، على القائمة السوداء بسبب موقفي من العراق وقضايا أخرى، كما أفهمني بعض العاملين فيها!
تأسيسا على ذلك،لا يستطيع إلا كل ظالم اتهامي بالصدور عن موقف متحيز ضد "الجزيرة"، رغم أن انحياز شخص مثلي، لا قوة وله ولا حيلة، لن يقدم في الأمر شيئا ولن يؤخر!
بالعودة إلى موضوع هذا المقال، ينبغي القول بوضوح إن الطريقة التي غطت بها الجزيرة مصرع الزرقاوي اليوم كشفت، أكثر من أي وقت سابق، عن وجه بشع وقبيح لسياسة إعلامية طالما استطاع القائمون عليها، وإلى حد بعيد، ستر ندوبه بقناع سميك من المهنية والكفاءة التي يصعب على الكثيرين من غير خبراء الإعلام الموهوبين الكشف عما يخفي تحته من بشاعة. وإذا كانت زلة اللسان، من وجهة نظر علم السلوك، مفتاحا لاستبطان حقيقة الموقف الذي يختفي وراء هذه الزلة أو تلك، فإن ما قامت به "الجزيرة" اليوم كان "زلة اللسان" التي تصلح أن تكون حالة معيارية تكفي بذاتها لوصفها بـ "وزارة إعلام الإرهاب الإسلامي"! ومن ناقل القول إن هذا الحكم القاسي يتعلق بسياسة إعلامية وليس بشخوص وكفاءة معظم كوادرها ومراسليها الذين أعتز بصداقة العديد منهم .
ما حصل كان فضيحة بالمعايير كلها . فمنذ صباح اليوم، وفور تأكيد مصرع الزرقاوي رسميا، قطعت المحطة برامجها وبدأت موجة بث مفتوحة لم تزل مستمرة حتى وقت متأخر من مساء اليوم، ساعة كتابة هذا المقال. وعلى مدار النهار لم يبق خبير عسكري، ولا باحث، ولا متخصص بشؤون الجماعات الإرهابية أو مفتي إرهاب أو محام مدافع عن هذا النوع من الشراذم والقتلة إلا استضافته المحطة ليدلي بدلوه في هذا الحدث ؛ كما لم يبق سؤال يخطر أو لا يخطر على البال إلا وطرحته القناة على ضيوفها بشأن الأثر الذي يمكن أن يخلفه مصرع الزرقاوي على مستقبل "المقاومة" في العراق، وربما مستقبل الشرق الأوسط والولايات المتحدة أيضا. ومن كان يشاهد "الجزيرة" دون أن يعرف من يكون الزرقاوي ( رغم أن الحماقات الأميركية وطبول "الجزيرة" لم تبق جنا ولا إنسا إلا وعرّفته بهذا الصنديد )، لربما ظن ـ ومن حقه ذلك ـ أن "الفقيد" هو المارشال جوكوف أو مونتغمري أو رومل ؛ أي أحد صناّع التاريخ العسكري وعباقرته، وليس ذاك المجرم الذي كان أهم ما أضافه لنظريات العلوم العسكرية هو ذبح النساء وقطع الرؤوس بالسيوف والسواطير أمام عدسات الفيديو!
فضيحة " الجزيرة "، وعارها أيضا، لم يتوقفا هنا، وإلا لكان بالإمكان العثور لهما على فتوى إعلامية حتى ولو في جعبة غوبلز . فما حصل عصرا يخرج عن كل عرف وذوق وأخلاق مهنية ليمارس الوقاحة بأكثر أشكالها صفاقة وسفورا. فحوالي الرابعة بتوقيت باريس، بدأت المحطة بث شارة خاصة شبيهة بتلك التي اعتادت على تصميمها وبثها عند وفاة بعض الشخصيات العربية ؛ أي شارة مصحوبة بموسيقا جنائزية حزينة !
كان الأمر على درجة من الاستفزاز والوقاحة واحتقار مشاعر ضحايا الزرقاوي، الذين لم تزل رؤوسهم تتدحرج في شوارع العراق، بحيث أني أنا الذي أبعد آلاف الكيلو مترات عن العراق لم أتمالك نفسي ولم أستطع كظم غيظي وغضبي. فبحركة لا إرادية رفعت سماعة الهاتف واتصلت بأحد الأصدقاء من مراسلي المحطة لأنبهه إلى أن الأمر وصل إلى درجة من الاستفزاز والعهر لا يقوى على تحملها أحد ... إلا إذا كان من طينة هذا المجرم . ويبدو أن الصديق أجرى بعض الاتصالات مع المعنيين ونبههم إلى ذلك، فكان أن أوقفوا بثها . لكن المأتم لم يتوقف، وظل يفصح عن مظاهر الحزن والأسى من خلال نبرات وأسئلة السيدة ليلى الشايب ونظراتها التائهة، فضلا عن أسئلة ونظرات ونبرات عدد من زملائها الآخرين!
في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، ومع بداية ساعات العمل الرسمي، كانت حلقات "الدبكة" و"الهوبرة" و"الشوباش" تملأ البيت الأبيض، وعلى رأس"الدبيكة" جورج بوش الذي لم يجد طريقة للتعبير من خلالها عن أسطورية هذا الإنجاز العسكري الباهر سوى اعتباره ملحمة من ملاحم "الجيش الأميركي العظيم"؛ الجيش الذي وصلت عظمته قبل بضعة أيام وحسب إلى ارتكاب مجزرتين مروعتين خلال أقل من يومين!
كرنفال المساخر الأميركية كان قد بدأ في بغداد قبل ذلك بساعات . ففي قاعة المؤتمرات الصحفية، وأمام عشرات الصحفيين، ظهر رئيس الوزراء العراقي وإلى جانبه السفير الأميركي شخصيا ليزفا للعالم هذا الإنجاز الباهر الذي حققه جيش عظيم ضد شخص واحد بعد ثلاث سنوات من المطاردة ! وبعد ذلك بقليل ظهر الجنرال كيسي مع صورتين للجنرال الزرقاوي وشاشة عرض راح يشرح عليها مضمون فيلم فيديو فضائي يصور الطريقة التي صفي بها:
لاحظوا! "طائر" إف 16" أطلقت الآن قنبلة زنة 500 رطل ! واستطرد منبها الحضور: انتبهوا! الطيار الآن يناقش الآن مع القيادة مدى دقة الإصابة، ويبدو أن الأمر يحتاج إلى قنبلة أخرى من الوزن نفسه ! أقل من ثانية وانطلقت القذيقة التي ظهر حتى من الفضاء الخارجي الدمار الهائل التي خلفته . ومع ذلك لم يتورع الجنرال كيسي عن عرض صورتين، في الآن نفسه، لوجه الزرقاوي المقتول لم يكن عليها من الآثار أكثر مما تخلفه حروق بسيطة تحدثها الألعاب النارية، رغم أن الدمار الذي أحثتهما القذيفتان قمين بتحويل ليس الجثث فقط، بل الإسمنت المسلح أيضا إلى رماد ! كانت إحدى الصورتين بالأسود والأبيض وقد ظهر فيها صاحبها كما لو أنه نائم بشكل طبيعي وفمه مغلق، بينما كانت الصورة الأخرى ملونة ويظهر فيها الفم مفتوحا قليلا والأسنان بارزة بوضوح والوجه متورما ومنتفخا على نحو لافت!؟ وقد نشرت الصورتان لاحقا في مختلف وسائل الإعلام .
لم يستطع الجنرال كيسي نفسه، ولا أي من الجنرلات الأميركيين الذين استضافتهم المحطات الفضائية، أن يجيب على السؤال المركّب الذي طرح مرارا: كيف بالإمكان أن يخرج وجه جثة سليما تقريبا من تحت أنقاض منزل مدمر بقنبلتين زنة كل منها 500 رطل!؟ ولماذا لم يتم إظهار الجثة كاملة !؟ والأهم من هذا كله: لماذا لم يقبضوا عليه حيا طالما أنهم كانوا على يقين من أنه موجود في المنزل!؟
بعيدا عن منطق المؤامرة، ثمة معلومات لدى أوساط فرنسية تؤكد أن الرجل كان معتقلا منذ يومين على الأقل، وقد جرت تصفيته خلال اعتقاله ! وأيا تكن درجة الصدقية التي تتمتع بها هذه الرواية، لا يمكن إلا أخذها على محمل الجد، خصوصا بعد أن ثبت تهافت وكذب الرواية المعروفة عن الطريقة التي اعتقل بها الزرقاوي الكبير ـ صدام حسين ! لكن هذه قضية أخرى ليس مكان مناقشتها هنا .
في الواقع إن ما حصل اليوم يلخص ويكثف على نحو عميق جدا ليس فقط الطريقة التي يشتبك في الإعلام الأيديولوجي في معارك دونكيشوتية تضليلية، بل وتجلي اشتباك منطقين أيديولوجيين في أوضح صورة للانحطاط ؛ منطقين يشكلان وجه عملة واحدة وقفاها: أيديولوجية شعبوية تصنع من الزرقاوي شهيدا للأمة، وأيديولوجية رامبوية ترى في صناعة الزرقاويين ، ثم قتلهم، شرطا لاستمرار عجلتها بالدوران . ومن حقنا، والحال كذلك، أن نتساءل عما إذا لم يكن من الأفضل لو أهدروا ثلاث سنوات للحيلولة دون ولادة دولة وظيفتها الوحيدة تفريخ الآلاف من الزرقاويين الشيعة يوميا حتى في أعلى هرم الدولة، بدلا من إهدارها في مطاردة زرقاوي سني سنفتقده من الآن فصاعدا.. معيارا للمفاضلة !
بروكسل 8 يونيو 2006