المثقفون والمدينة ومؤثرات الجوار الفكرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الأصول التاريخية للثقافة العراقية الحديثة (الحلقة الثانية)
المثقفون والمدينة
وكانت المدن التي كانت تمثل عنصر الانفتاح واستقبال الجديد، واقعة تحت تأثير طبيعة الموقع الجغرافي وانتماءات السكان العرقية والطائفية وشكل الأنشطة السكانية، لا سيما الاقتصادية منها، والتي تحدد وبشكل دائم شكل العلاقة مع المناطق المجاورة لها من ريف وبادية. ولا يمكن إغفال أثر العشائر على المدن الأقل شأناً على صعيد حجم السكان والسعة الجغرافية. وما يظهر عليها من مسحة مغلقة، تكاد تكون فيها روح الانفتاح شبه معدومة، لهيمنة آليات العلاقات القديمة عليها، والتي تعتبر أي جديد، ما هو إلاّ تهديد لوجودها ومصالحها (31). وعلى هذا كانت المدن العراقية تبدو على درجاته متباينة من المواقف إزاء الجديد، ويظهر ذلك واضحاً في رصد المواقف التي كان يبديها السكان في المدن الكبيرة كبغداد والتي تمثل المركز، والمدن الأخرى التي تمثل الأطراف. فيما كانت انتماءات السكان الدينية والطائفية تتحكم بشكل كبير في اتجاهات الميل لديهم وتحديد مواقفهم من السلطة القائمة (32). فهم أولاً مسلمون إذا تعرضت الدولة العثمانية المسلمة إلى خطر يهددها من قبل الغرب المسيحي. وفي ظل ظروف متباينة وغير مستقرة كهذه، انعكست تلك الأفكار والممارسات على النخبة المثقفة العراقية، التي وجدت أن المجالات المتاحة أمامها ضيقة أو تكاد شبه معدومة. وعلى هذا انحصرت جهودهم في مجال الدراسة الدينية واللغة والآداب، وتتركز الأنشطة وتحتكر من قبل الأسر العلمية التي قيض لها أن تتبوأ مكانة رفيعة في الحياة العامة على الأصعدة السياسية والاجتماعية، ولم تكن تلك المكانة تتحصل لهم لولا الخطوة الاقتصادية التي كانت تتمتع بها تلك الأسر، وتعدد مصادر الدخل لديهم، متى كانت أسر آل الشاوي والآلوسي والحيدري والسويدي والرحبي وغيرهم يرفدون الحياة العقلية بنتاجهم الفكري(33). ومن خلال مراجعة أصول العلماء الذين تصدوا لمعالجة القضايا الفكرية في العراق خلال القرن التاسع عشر، نجد ارتباطهم الواضح بجذور عائلية لها من الحظوة والمكانة الرفيعة في المجتمع العراقي. فآل الآلوسي ومنهم أبو الثناء محمود الآلوسي 1854 ومحمود شكري الآلوسي 1924 يرجعون بنسبهم إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتركزت جهودهم في مجال علوم اللغة والدين والفقه والحديث. وقيض لمحمود شكري المشاركة عام 1889 في مؤتمر المستشرقين الذين انعقد في ستوكهولم وتقديم كتابه إلى المؤتمر، المرسوم (بلوغ الأرب في أحوال العرب) (34). وحصوله على إعجاب وتقدير القيمين على المؤتمر. ومن العلماء من استند إلى عراقة أسرته ونفوذها السياسي كآل الشاوي والتي قدمت الأمراء والعلماء والشعراء. فكان منهم عبد المجيد الشاوي 1927 الذي درس على أبرز علماء عصره، وتحصل على أرفع المناصب الإدارية حيث عمل في دائرة تحرير ولاية بغداد ومحرراً في القسم العربي لجريدة الزوراء ومميزاً في دائرة ولاية البصرة، ووكيل متصرفية لواء العمارة 1905-1907 (35). ومن العلماء من استند إلى قوة عائلته المالية وسعة علاقاتها التجارية مثل عبد الواحد بن عبد الله بن عبد اللطيف باش أعيان 1919. وهناك من استند إلى مركزه الديني ودعم الإرساليات التبشيرية له مثل القس سليمان الصائغ والأب انستاس ماري الكرملي 1947 (36). ومن الأسر من كان سبب بروزها مستنداً إلى البيئة المحيطة فمدينة مثل النجف، بمكانتها الدينية (37)، وتركز الطلاب والمجتهدين فيها، قيض لها أن تقدم من الأسر العلمية؛ آل كاشف الغطاء وآل الشيخ راضي وآل الجواهري وآل القزويني وآل الجزائري وغيرهم (38). ولم تقدم لها الحياة الفكرية في العراق إن بزغ في سمائها من برّزته موهبته فمعروف عبد الغني الرصافي 1945 كان والده عريفاً في الجيش التركي (39). ومن المشتغلين في مجال الفكر والثقافة من كان يعمد إلى الاعتماد في تحصيل رزقه على مهنة أخرى يسد بها حاجاته، حتى أن العديد منهم، كانوا يشكون ضيق الأحوال وعسرها (40).
مؤثرات الجوار الفكرية
لم تخل الحياة الفكرية في العراق من مؤثرات الثقافات الأخرى، لا سيما اللغة التركية التي مهّدها الوجود العثماني في العراق، واللغة الفارسية بحكم الجوار وإقامة جموع من الطلبة الفرس في المراكز الدينية مثل النجف وكربلاء. إلا أن الرجحان كان للغة العربية بحكم الاعتماد في العلاقة القائمة مع وسط الجوار على الإسلام والاحتكام إلى القرآن الكريم. إلا أن الإجراءات التي رافقت حركة الإصلاح العثماني وإنشاء المدارس الرشيدة في مدن العراق الكبرى واعتمادها على اللغة التركية في التدريس، بالإضافة إلى اعتماد التعليم العالي الذي يفتح آفاق العمل في الجهاز الإداري على الأستانة. حتى غدت اللغة التركية هي المعتمدة في دواوين الإدارة والمكاتب الحكومة، إلا أن هذا الأمر، لا يعني أن اللغة العربية قد انحسر تأثيرها، بقدر ما اعتمدت على الجهود الذاتية للمثقفين العرب (41). ومن المهم الإشارة إلى أن اللغة العربية وبحكم الاتجاه نحو الدراسات الدينية كانت قد لقيت كل الرعاية من لدن الولاة خلال الحكم المماليك في العراق ولا أدل من الرعاية والاهتمام اللذين كانا يغدقهما الوالي داود باشا 1816-1831 على العلماء والمشايخ (42). مما أتاح الفرصة لبروز نشاط دافق للدعوات الدينية المجددة كالوهابية والنقشبندية والشيخية نسبة إلى الشيخ أحمد الأحسائي 1826. إلا أن هذه الدعوات وبالشكل التي ظهرت فيه، قد أسهمت في تعميق قوة الصراع بين مريديها وأتباعها، بحكم الاتجاهات التي حملتها تلك الدعوات وعدم ظهور بارز للحكومة في الوقوف بوجه الدعوات المغالية (43). وإذا ما كان الحال هذا ينطبق على فترة حكم المماليك، فإن حركة الإصلاحات المرافقة للتنظيمات العثمانية 1839-1856 والحركة الدستورية 1876-1908، لم تبرز آثارها الواضحة على قطاعات الحياة في الدولة العثمانية. ولم تساهم في دفع الحياة السياسية والحياة الاقتصادية والاجتماعية نحو الأمام، لانعدام الاتجاه الصميمي في التغيير (45). والواقع أن الحياة الفكرية عانت من الركود والتقليدية، بسبب التخلف الذي شمل معظم جوانب وقطاعات الحياة العامة. بالإضافة إلى شحة الإمكانات المتاحة والنقص الواضح في المدارس ودور العلم والمتعلمين. وعليه خضع النتاج الفكري لدائرة من التكرار والتقليد تكاد لا تنقطع (46).
عانت الحياة الفكرية في العراق من إهمال الطباعة، واعتمد المفكرون في نشر نتاجهم الفكري على المطابع الموجودة في المناطق المجاورة. حتى أن أول مطبعة ظهرت في العراق قد تأخرت إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث أنشأت مطبعة كربلاء الحجرية عام 1856 (47). وفي العام 1861 تم إنشاء مطبعة كامل التبريزي، إلا أنها كانت تعمل بطريقة التشغيل اليدوي (48). ولم يغفل المبشرون من دخول ميدان الطباعة حيث عمد الآباء الدومينكان إلى جلب مطبعة إلى الموصل عام 1859 (49). وقد ركزت المطابع إبان تلك الفترة على طبع الكتب الدينية والنشريات التجارية. وبتولي مدحت باشا منصب والي بغداد، عمد إلى جلب مطبعة حجرية اختصت بطبع النشريات والأوامر العسكرية (50). ومطبعة أخرى أطلق عليها اسم مطبعة الزوراء، والتي تم فيها طبع أول جريدة عراقية باسم (الزوراء) عام 1869. بالإضافة لاعتمادها في نشر المطبوعات الحكومية للجهاز الإداري العثماني (51). ولتوسيع عمل مطبعة الزوراء بواقع مرتين بالأسبوع، بعد أن كانت في عامها الأول تصدر لمرة واحدة في الأسبوع (52). وعلى صعيد النشاط الطباعي الخاص، عمد الشماس روفائيل مازجي الآمدي عام 1863 إلى تأسيس المطبعة الكلدانية في الموصل، إلا أن المطبعة لم يدم لها البقاء سوى ثلاث سنين بسبب وفاة مالكها. ويصف الدكتور خليل صابات حال الطباعة قبل مرحلة إصلاحات مدحت باشا، بعدم الاستقرار، لعدم إقبال الناس على اقتناء المطبوعات، أما المطابع التي تمكنت من البقاء، فإنها كانت تحصل على التحويل من جهات خارجية، بالإضافة إلى توفير الحماية لها، استناداً إلى نظام الامتيازات الأجنبية. أما المطبعة الحكومية التي أنشأها الوالي مدحت باشا، فقد توسع نشاطها حتى تم تدريب ثلاثين فنياً في مدرسة الصنائع لصف الحروف فيها (53). وبعد فترة ولاية مدحت باشا، توالى ظهور المطابع في العراق (54). وتمكنت من لعب دور مهم وفاعل في الحياة الفكرية، لطبعها عدد من الكتب إبان تلك الحقبة لأبرز المفكرين والعلماء.إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن عدد الكتب التي تم طبعها كان محدوداً، واتجهت المطابع نحو النشريات الإدارية وبعض الجداول الحسابية والوصولات التجارية.
31- د. وميض جمال عمر نظمي، الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية (الاستقلالية) في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1984، ص74.
33. حنا بطاطو ، العراق- الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1990، ج1 ص31.
33- كوتلوف، تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي منتصف القرن التاسع عشر 1908، ترجمة سعيد أحمد، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1981، ص 387.
34- توفيق علي برو، العرب والترك في العهد الدستوري العثماني 1908-1914، معهد الدراسات العربية العالمية، القاهرة 1960، ص13.
35- أحمد طربين، التاريخ والمؤرخون، المصدر السابق، ص132.
36- مير بصري، أعلام العراق، المصدر السابق، ص 85.
37- أحمد طربين، المصدر السابق، ص ص 134-135.
38- عبد الله فهد النفيسي، دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث، دار النهار، بيروت 1973، ص 47.
39- قصي سالم علوان، الشبيبي شاعراً، دار الحرية للطباعة، بغداد 1975، ص28.
40- مير بصري، المصدر السابق، ص 58.
41- محمد مهدي البصير، نهضة العراق الأدبية، المصدر السابق، ص 13.
42- د. عبد العزيز سليمان نوار، تاريخ العراق الحديث، المصدر السابق، ص ص 446-447.
43- عثمان بن سند الوائلي البصري، مطالع السعود- تاريخ العراق من سنة 1188-1242 هـ، تحقيق عماد عبدالسلام رؤوف وسهيلة عبد المجيد القيسي، دار الحكمة، الموصل 1991 ص 387.
44- د. عبد العزيز سليمان نوار، داود باشا والي بغداد، دار الكاتب العربي، القاهرة 1968، ص 308.
45- د. مهدي جواد البستاني، وثائق عثمانية غير منشورة عن المقاومة العربية في النجف أواسط القرن التاسع عشر، مجلة جمعية المؤرخين في العراق العدد 8، 1991، ص155.
46- د. يوسف عز الدين، الحياة الفكرية في بغداد 1749-1831، مجلة المجمع العلمي العراقي، ج2، المجلد الحادي والثلاثون، نيسان 1980، ص128.
47- شهاب أحمد الحميد، تاريخ الطباعة في العراق، بغداد 1976، ج1، أنظر أيضاً، د. يوسف فخر الدين، بواكير الحركة الفكرية في العراق، المصدر السابق، ص 172.
48- إبراهيم حلمي، الطباعة في دار السلام والنجف وكربلاء، مجلة لغة العرب، السنة الثانية، ج 7 عام 1913، ص 309.
49- روفائيل بطي، تاريخ الطباعة في العراق 1856-1926، مجلة لغة العرب، ج4، تشرين الأول 1926، ص 197.
50- عباس ياسر الزيدي، تاريخ الصحافة العراقية منذ نشأتها حتى سنة 1936، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة القاهرة 1975، ص14.
51- شهاب أحمد الحميد، المصدر السابق، ص 58.
52- جريد الزوراء، "بغداد"، العدد 84، 13 رجب الفرد 1287 (أيلول 1870).
53- د. خليل صابات، تاريخ الطباعة في الشرق العربي، ط2، دار المعارف، مصر 1966، ص 299.
54- جريدة الزوراء، العدد 193، 21 شعبان 1288، تشرين الثاني 1871.