أ ثر المكان العراقي في ثقافتي العامة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بعد الحلقة السابقة من سلسلة مقآلاتي (أدب القضاة 7) وردتني رسائل عدة كان من بينها واحدة نشرت بتاريخ (31 /5 /2006) يستفهم كاتبها عن تداخل بعض المحلات التي سكنتها؛ ملمحا مابين سطور رسالته الى مدى تأثير ذلك التشابك على مجريات الاحداث التي ذكرتها او التي سأذكرها لاحقا؛ من حيث المكان والزمان.
ولقد وجدت من المناسب التوسع في الموضوع من اطرافه الثقافية؛ لاجيب عن نقطة جوهرية ترتبط بموضوع اثر المكان العراقي على ثقافتي المعرفية عبر مسيرة الحياة بكل الوانها؛ وتطوراتها؛ وتعاقب مراحلها أي من حيث الامكنة التي لعبت دورا مهما في ثقافتي والازمنة التي مرت عليّ.
اذا عدت الى السنوات الاولى من عمري؛ اي في الثلاثينات من القرن الماضي؛ لاستطعت ان أشير الى بغداد كركيزة اساسية لسكنى الاسرة؛ اما الاقضية والمحافظات التي اشغل فيها والدي المرحوم خليل عزمي وظائفه الادارية والتي وعيت عليها بوجه التحديد؛ فقد كانت عبارة عن جولات طويلة الامد حينا واخرى قصيرته بحكم تابعية افرادها لرب الاسرة في حله وترحاله.
كان اول منزل نسكنه في الكرخ من بغداد بعد ولادتي ؛ هو بيت جدي لامي المرحوم عبد المجيد الكبيسي المطل على دجلة مباشرة؛ والمقابل للنادي العسكري القديم من جهة الرصافة. وحينما تجاوزت الخامسة من عمري؛ انتقلنا الى بيت مستأجر واسع في (الدهدوينة) يطل مباشرة على مكتبة (العرفان) على شارع (الجاريات). والجاريات هي عبارة عن وسائط نقل خشبية ذات طابقين تجرها الخيول وتسير على سكة حديد ما بين محطة الكرخ والكاظمية. ولما انتهى عقد الايجار انتقلنا الى بيت (شوشة) الذي كان يقع في منتصف الزقاق المؤدي الى سوق حمادة؛ ومنه انتقلنا مجددا الى بيت اوسع واجمل يقع على الشارع العام من محلة سوق الجديد لا يبعد سوى امتار عن (حنانش) اشهر بائع طرشي في الكرخ؛ وكان هذا آخر بيت نستأجره قبل استطاعتنا ان نتملك دارا شرقية البناء والديكور في زقاق صغير لا منفذ له من محلة جامع عطا وذلك عام 1939 لنجاور بيت جدي لابي المرحوم الحاج محمد الابراهيم.
وتبعا لذلك فقد تنقلت في عدة مدارس ابتدائية؛ كالكرخ؛ والزوراء؛ والشوكة ؛ و دار السلام ثم بعدها الى متوسطة الكرخ للبنين.وكنا في ذات الفترة الزمنية نتنقل من مدينة الى اخرى ايضا بحكم تنقل والدي في مناصبه فأنتقل انا الاخر من مدرسة في هذه المدينة الى مدرسة في مدينة أخرى ؛ وقد رجحت الاسرة بعد عدة تجارب ان تحتفظ ببيتنا في بغداد مهيأ لسكنانا في الحالات الحرجة التي يصادف فيها النقل مع قرب بدء الامتحانات المدرسية.
في بداية عام 1945 انتقلنا من الكرخ الى الاعظمية؛ حيث سكنا محلة السفينة اولا ومن بعدها شارع عمر بن عبد العزيزثم استقر بنا المقام في الزقاق المجاور له والموازي لشارع العساف. وبعد مراحل ومدارس متعددة في الاعظميةا و بغداد ا والمحافظات التحقت بكلية الحقوق عام 1950 وتخرجت عام 1954 .في منتصف عام 1963انفصلت عن بيتنا الكبير مكونا اسرتي الخاصة وعائدا الى الكرخ لاسكن في ثلاث محلات متفرقة هي (حي القضاة والمحامين ــ الحارثية 1963)؛ ثم حي المتنبي ــ المنصور(1966)؛ واخيرا (حي ا لجامعة 1978).
اما المدن الاخرى التي سكنتها واتذكرها جيدا فهي بحسب التسلسل المكاني والزماني كالاتي : كربلاء؛ بعقوبة؛ الديوانية؛ سدة الهندية؛ الكوت؛ الموصل؛ اضافة الى المدن التي جلت فيها مع والدي بحكم مهامه كقائمقام او محافظ او رئيس تسوية او مفتش اداري؛وهي االنجف الاشرف؛؛الصويرة؛ الناصرية؛ سوق الشيوخ؛السماوه؛؛الفلوجة؛ خانقين؛ كركوك؛ هيت؛ زاخو؛
سنجار؛بعشيقة؛؛تلكيف؛ العمارة؛ سامراء؛ البصرة؛ المشرح؛ بدرة؛ هذا بالطبع غير المدن والقرى التي زرتها بمفردي للسياحة والاصطياف من زاخو شمال العراق الى القرنة جنوبه .
و الان..حينما اجول بذاكرتي في كل تلك الاماكن؛ اسأل نفسي؛.... كم من الناس تعرفت عليهم من خلال كل تلك المحلات والمدن؛ وكم من التلاميذ والطلاب صاحبت؛ وكم من المعلمين والمدرسين والاساتذة الذين درست على ايديهم وتثقفت ونهلت من علومهم ومعارفهم؛ وكم من الشخصيات البسيطة او البارزة تلك التي تعرفت عليها كاصحاب المهن والحرف؛ والساسة ورؤساء عشائر؛ ورجال دين؛ والشعراء؛ والكتاب والفنانين والعلماء والفقهاء الذين تعرفت و جاست واستمعت اليهم وقبست من خزين ثقافاتهم ؛ واتحت لنفسي فرصة محاورتهم ومناقشتهم ومشاركتهم ينبوع عطائهم؛ فاستفدت وافدت في الحالتين.
ان كل هذا وغيره لا يعادل ما خزنته من تلك الثروة في عقلي و ضميري وذاكرتي ؛ من عادات وتقاليد ومعارف وصيغ حياتية واسعة و متنوعة...؛ كان عليّ هضمها جيدا وهو اختبار نفسي جاد يدخل في غربلة وتحليل حزمة متشابكة من محصلات كثيرة تتوزع على مراحل عدة من العمر بدءا من الطفولة التي تغلب عليها صفة العاطفة حتى مرحلتي النضوج ثم التكامل الذي يغلب عليه انتقاء ما هو نقي ومفيد لي وللآخرين؛ ونبذ ما هو ضار للجميع.
لقد منحتني تلك الاماكن المتباعدة او المتقاربة؛ حصيلة ضخمة من تنوع المفردات واللهجات الشعبية من مدينة الى اخرى؛ ومن قرية الى ثانية ؛ بل وزودتني بعادات حضرية او عشائرية تختلف التزاما من بقعة الى اخرى.. من حيث التسامح او الانغلاق؛ او من حيث التجريم او الاعفاء. فلقد حضرت ـ على سبيل المثال ـ مناسبات قبلية لفض منازعات عن طريق المصالحة؛ فوجدتها تختلف من حيث الشكل والمضمون في البادية الشمالية عنها في الفرات الاوسط؛ او الجنوب؛ او محيط بغداد .... الخ. كما لا انسى ما تعلمته من حرف يدوية كنت التقطها واحاول اتقانها من خلال متابعة العمال الفنيين وهم ينجزونها كالنجارة؛ والكهرباء؛ والبناء؛ ورتوش التصوير... الخ وقد كا ن لمتابعتي للفنون بحسب مواقع تداولها اثره في تقوية ملكتي في معرفة مصادر نتاجها وابداعها؛ فقد اصبحت وما زلت افهرس الغناء ــ مثلا ــ بحسب الكلمة او اللحن؛ فأنسبه الى مكانه الصحيح..
ولذا اجد اليوم ان محصلتي التهائية المكتنزة متأثرة بتنوع المكان وما يدور حوله من مختلف المعارف والثقافات الدراسية والشعبية المتداخلة؛ وان قواعدها متينة التكوين؛ صلبة الاسس؛ بحيث تمكنت بعد جهد جهيد ان ابقى على الاصول المتجذرة الكريمة في جوهرها؛ ونبذ(ما استطعت) من السلبيات المتراكمة التي لا تحقق التوازن الاجدى والاجدر بأي انسان سوي؛
اذ استطاع المهيمن الذاتي في داخلي؛ ان يتجه في نتاجه الشامل؛ نحو الجوانب الخيرة؛ فينتقي النماذج التي تقترب من توجهاته وهواياته وثقافاته المكتسبة؛ فيمنحها من ذلك الخزين المتشعب ما يكشف الستار عن كثير من الايجابيات التي تستأهل ان تكون في مرأى الدارسين الذين يبحثون عن مثل تلك النماذج التي تمنح الآخرين حسن العبرة والعظة .
حينما تصديت للكتابة عن بعض الشخصيات التي اخترتها بعناية وتمعن؛ عدت ادراجي الى كل تلك المراجع التي مرت بي واشرت اليها من قبل وبخاصة الامكنة التي رضعت من لبانتها؛ وكانت تلك العودة قد افادتني في التوقف اما م هذه الشخصية او تلك لكي احاول دراستها بامعان من خلال كل تلك الزوايا ؛ حيث وجدت عدم جواز دراستها بمعزل عن البيت والموقع الذي نشأت فيه والتحصيل الذي تلقته؛ والتقاليد والعادات الني تشربت بها ؛ ونمط الحياة الذي نهلت منه.... الخ ؛ لانها بجوهرها اسس مركبة لايمكن عزلها عن بعضها البعض؛ بخاصة وان المكان لعب دورا مهما في التكوين المركزي لبناء الشخصية تحت خيمة الزمان الذي استظلت به.
لقد وجدت ـ و بحكم ذلك التنقل الواسع ــ ان الذين كتب لهم السكن او التجوال في انحاء شتى من المواقع والبلدان وتعرفوا على الحياة من زوايا متنوعة ومتباينة هم اقدر من اؤلئك الذين قبعوا في مكان واحد لايبرحونه الا لماما؛.. على معرفة انماط شتى من سبل التصرف و التحليل والتعليل والوصول الى الرؤيا الاقرب الى الصواب. ذلك لان لان موسوعية معلومات الفرد ذاته تصبح اكثر شمولا في الثقافة والحصافة والفراسة والحكم على الامور من زوايا قريبة من الحقيقة.
وعليه : فان موجز جوهر الحديث المكثف يتبلور؛ في ان تنوع المكان يلعب دورا رياديا في رفد المبدع الحقيقي ــ بخاصة ــ والمتطلع الى توسيع دائرة نطاق ادواته؛ برصيد لاينضب من ملهمات الاعمال الخلاقة في اطار من الصواب المرتكز على قواعد متينة من واقع الحياة.