ست سنوات على رحيله: حافظ الأسد الحيّ فينا ومعنا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حين نقرأ كتاب سمير أمين الصادر في العام 1982 بعنوان "سوريا والعراق: من المشروع الوطني إلى الانخراط الدولي"، ورغم أن صدام حسين كان جديدا في السلطة آنذاك، يمكن أن نستخلص منه معادلة رياضية من الدرجة البسيطة تقول "النظام السوري ـ حافظ الأسد = النظام العراقي"، تعبيرا منه ليس عن تشابه النظامين في ظل كل من صدام حسين وحافظ الأسد فقط، بل ـ وهذا هو الأهم ـ إشارة منه إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه الفرد في إكساب وهلة من وهلات الزمن السياسي طابعا خاصا يصبح من المتعذر أن يرسمها المرء بمسطرة علم التاريخ الحديدية غير القابلة للإلتواء. وهو ما جسده الفيلسوف والمفكر الروسي بليخانوف على طريقته الخاصة حين راح ينقب عن أسرار سقوط النظام القديم في سرير لويس الخامس عشر (وليس السادس عشر) كي يرى " دور الفرد في التاريخ "، رغم يقينه الأكيد أن التاريخ لا يقيم في أسرّة الملوك، حسب التعبير الساخرللفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير.
في الواقع، وإذا ما أردنا الإنصاف بعيدا عن أي مشاعر ومواقف سلبية خاصة يمكن أن يحملها أي منا إزاء بشاعة الديكتاتورية وقبحها، يتوجب علينا التسليم بأن سوريا لم تعرف في زمنها السياسي خلال ألفي عام إلا ثلاثة من الحكام هم زنوبيا ومعاوية بن أبي سفيان وحافظ الأسد. أما الباقون فلم يكونوا أكثر من حلقات ربط انتقالية رخوة، غائمة المعالم وفاقدة الهوية، فيما بين مراحل راسخة لمشاريع سياسية واضحة الهوية. فقد كانت زنوبيا، بثقافتها الموسوعية التاريخية والفلسفية والسياسية واللغوية وشخصيتها الكاريزمية، أول من أدرك الأهمية الاستراتيجية لسوريا، ليس كملحق بالدول الإقليمية النافذة آنذاك أو كأهراء للقمح وحسب، وليس كإقليم جغرافي مجرد فقط، بل كـ " إقليم قاعدة " عربي يمكن أن يلعب الدور الذي لعبته بروسيا في التاريخ الحديث كقاطرة للوحدة الألمانية. ولعلها أول حاكم عربي يتحسس " عروبته " وانتماءه القومي محاولا تجسيده في مشروع سياسي، كما يمكن أن نلحظ من كتاباتها المخطوطة عن تاريخ الشرق. أما الثاني، معاوية بن أبي سفيان، فكان أول من ترجم مشروع زنوبيا القومي، رغم ملامحه الأمبراطورية التوسعية، ونجح في ما عجزت هي عن إنجازه بعد هزيمتها أمام جيوش أورليانوس في القرن الثالث الميلادي، وفشلها بالتالي في الانشقاق النهائي والحاسم عن الإمبراطوية الرومانية.
ولكن، ماذا بشأن حافظ الأسد؟
لم يحط بأي زعيم عربي في التاريخ المعاصر، بما فيهم عبد الناصر نفسه، قدْر من " الالتباس" أكثر مما أحاط بحافظ الأسد و شخصيته و " مشروعه السياسي". ويبدو ـ كما هو الأمر في العادة ـ أن من يتحمل مسؤولية ذلك هم مجموعة الصحفيين و " المستشرقين السياسيين " المنتمين لمدرسة في التفكير السياسي لم تعمل إلا على إعادة إنتاج أطروحة بليخانوف عن " دور الفرد "، ولكن بطريقة مبتذلة جوهرها مقولة " الشخصية الكارزمية ". وفي التعمق بحثا عن الجذور التي تنتهي إليها هذه " الإشاعة العلمية " سنجد أنفسنا وجها لوجه مع هنري كيسنجر الذي كان أول من فبرك هذه الأطروحة التي بدا أنها من " عدة الشغل" الضرورية للعمل الديبلوماسي في الشرق الأوسط. وبموجب هذه الأطروحة، يبدو التاريخ كما لو أنه "عمل روائي" من طراز إغريقي تصنعه سيروة أبطاله وتكويناتهم السيكولوجية وأقدارهم أكثر مما يصنعه "الفضاء الروائي" الذي يتحركون فيه. وربما سيكون من بواعث الصدمة اكتشافنا أن هذه "المسطرة" هي نفسها التي ستسخدم في احتساب الحجم الذي تشغله حتى شخصيات مثل بن لادن والزرقاوي وصدام حسين في الكتلة العامة للتاريخ ؛ تماما مثلما استخدمت من قبل في " فهم " شخصية مثل عبد الناصر والقذافي وغيرهما!
ما يدعم وجهة النظر هذه تلك "الإشاعة العلمية" الأخرى التي بنيت بالاستناد إلى الأولى، وهي أن حافظ الأسد نسخة عربية من بيسمارك، لا لشيء إلا بسبب ما لاحظوه من نزوعه الوحدوي العربي. وربما كان باتريك سيل، حسب ما أظن، هو أول من وقف وراء هذه الإشاءة التي تناقلها الآخرون عنه. وهي في الواقع أطروحة موازية لخرافة أخرى تتحدث عن أنه تجسيد عربي لـ " أمير ماكيافيلي"! والواقع إن السبب في كل هذا الأمر هو العجز عن فهم الظروف الخاصة التي تولد فيها شخصيات تاريخية من هذا النوع. وهذا الخلط العجيب يقارب المقولة الشعبية الدارجة "عند العرب كله صابون"! فالبيسماركية ليست تعبيرا عن النزوع الوحدوي بقدر ما هي تعبير دقيق وخالص عن المرحلة التي تكون الرأسمالية قد بسطت هيمنتها كليا على المجتمع بالترافق مع وجود دولة استبدادية إقطاعية واضحة المعالم لا يمكن برجزتها ودمقرطتها وتحديثها إلا " من فوق ". وهو ما تميزت به ألمانيا على نحو فريد وخاص بها دون غيرها من التجارب الأخرى. أما الماكيافيلية فهي التجلي السياسي العملي للأيديولوجية "اليعقوبية" في المرحلة التي تمهد لظهور البونابرتية. أي الممارسة السياسية للزعيم اليعقوبي (من طراز صلاح جديد و أحمد بن بلا، مثلا) في مجتمع تهيمن عليه الطوائف الحرفية ونمط الإنتاج الحرفي البسيط والطبقات الوسطى التي تشكل أكبر عائق في وجه الرأسمالية وبناء الدولة البورحوازية الديمقراطية الحقيقية، كما اكتشف ذلك بطريقة مدهشة وغاية في الذكاء ودقة الملاحظة المفكر الإيطالي الهيغلي بامتياز، أنطوني غرامشي، حين درس (في كتابه " الأمير الحديث "El Priacute;ncipe Moderno) مقولات نيقولا ماكيافيلي وهي تشتغل على الأرض نهاية القرن الرابع عشر في فلورنسا ؛ أي قبل أن يحولها صاحبها إلى مقولات سياسية " تعليمية " في " الأمير ". ولعل عدم إدراك هذا الحقيقة من قبل أغلبية الناس، يفسر الفهم الكاريكاتوري الشائع والمبتذل الذي يحتفظون به عن كتاب " الأمير "، والذي يصل إلى حد اعتباره مجرد مجموعة نصائح للملوك والقياصرة تعلمهم طريقة حبك المؤامرات في القصور وسبل الهيمنة الأيديولوجية على الناس والتخلص من الخصوم السياسيين!
والواقع إن هذا التشوش في تحديد هوية حافظ الأسد السياسية، وهوية مشروعه، ناجمة أساسا عن الخلط بين "المشروع " و " أدوات " تنفيذه. فمشروع حافظ الأسد كان في جوهره، سواء وعى صاحبه ذلك أم لا، هو تنفيذ ما عجزت عنه البرجوازية الوطنية التقليدية بسبب ضعفها والصراع (لا التكامل) بين أجنحتها الثلاثة: الصناعية والتجارية والزراعية، وبالتالي عجزها عن الإمساك جيدا بمفاصل الدولة وأجهزتها. وقد عبر هذا الصراع عن نفسه بمسلسل الإنقلابات العسكرية المتتالية التي كان كل منها، في حقيقة الأمر، ممثلا أصيلا لواحدة من تلك البرجوازيات. وحين نقرأ وثائق التاريخ سنكتشف بالملموس كيف وقفت الصناعة (ممثلة بقطاعها الأقوى: الغزل والنسيج) والتجارة (ممثلة بقطاعها الأقوى: أصحاب الوكالات الأجنبية) والزراعة (ممثلة بالرأسمالية الزراعية، وليس الإقطاع كما يتوهم البعض، لأن الإقطاع السوري كان صفي بشكل شبه نهائي في ظل الاحتلال الفرنسي) خلف انقلابات حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي. والواقع إن أجنحة البرجوازية السورية، لم تتوحد في تاريخها إلى في 28 أيلول / سبتمبر 1962 حين وقفت وراء الانفصال عن مصر ـ عبد الناصر والبرجوازية المصرية التي ابتلعت السوق السورية على مدار سنوات الوحدة، ومارست شكلا من أشكال الكولونيالية السافرة، سواء لجهة القمع الاقتصادي أو القمع السياسي.
كان من المفترض أن تقوم البرجوازية التقليدية السورية بوضع يدها على الفائض الإقتصادي الوطني من أجل الانتقال إلى المرحلة الثانية من عملية التنمية، أي ما ندعوه بالتراكم الموسع، الذي يشمل، فيما يشمل، القيام بثورة زراعية وإنشاء بنية تحتية قوية (سدود، مكننة، كهرباء..) وإنشاء مصارف تمويل ضخمة بدلا من " البيوتات " المالية التي كانت موجودة، والتي لم يكن لها علاقة بالعمل المصرفي الحقيقي. وهذه المرحلة، كما بتنا نعرف من التجارب التاريخية العالمية، لا يمكن يتم إلا عن طريق القطاع الخاص (حين تكون البرجوازية قادرة على ذلك بمفردها دون تولي الحكم بشكل سافر) أو عن طريق الدولة. ولأن الشكل الأول كان مستحيلا في سوريا، فقد كان على الدولة القيام بهذا الدور. وهنا جاء " البعث " إلى السلطة. والواقع إن " البعث "، وبعيدا عن الخرافة السائدة المتداولة عن أنه كان مشروعا اشتراكيا وما شابه ذلك، لم يكن إلا أداة البورجوازية الوطنية لتحقيق مشروعها. فقام البعث بالإصلاح الزراعي (الذي هو بالمناسبة من مهمات البورجوازية، على عكس ما هو شائع)، وبدء بإنشاء المصارف الضخمة المتخصصة للقيام بعملية التمويل، وبنية تحتية (سدود مائية، كهربة الريف.. إلخ). لكن الأمر لم ينجح بسبب هيمنة التيار اليعقوبي على السلطة (الفلاحون الصغار، الحرفيون، الضباط الصغار.. إلخ). وهو التيار الذي لا يلبث، فور توليه السلطة، أن يدخل في صدام مع البرجوازية الكبيرة بسبب عقلية " الدكنجي" (الحانوتي الصغير) التي تهيمن على تفكيره. وما من شك في أن " المسألة القومية أو الوطنية "، المعبر عنها بالصراع مع إسرائيل، كان دوما العامل الذي يبدو محركا للصراعات الداخلية بسبب حضوره الطاغي في الوعي العام. ومن نافذته كان يدخل " العامل الخارجي " كوسيط كيميائي غالبا ما تكون له الكلمة الفصل في تحديد الناتج النهائي للتفاعل.
خلال الفترة 1968 ـ 1970، كان من الواضح أن الصراع داخل الجناح اليعقوبي (صلاح جديد) و الجناح البونابرتي (حافظ الأسد) قد وصل مرحلة اسمها " استحالة الحكم ". وكان لا بد لأحدهما أن يحسم الصراع نهائيا، وليس مؤقتا كما كان يحصل عادة في إطار التسويات المرحلية بين أجنحة البورجوازية. وكان ميزان القوى يميل بشكل واضح لصالح التيار الثاني بفعل العوامل الخارجية، تحديدا، التي دخلت على الخط بقوة لمؤازرته. والمفارقة المذهلة أن القطبين الدوليين، موسكو من جهة وواشنطن ومعها بريطانيا بشكل خاص من اجهة أخرى، وقفتا صفا واحدا خلف هذا التيار. فموسكو كانت قد بلورت استراتيجية " إطفاء بؤر التوتر في العالم " من أجل أن توفر عصابة اللصوص في الحزب الشيوعي السوفييتي (النومنكلاتورا) الوقت والهدوء لنفسها كيما تكمل عملية الانتقال من " مافيا " إلى بورجوازية مافياوية! وقد عبرت سياسة " إطفاء بؤر التوتر " عن نفسها في مختلف أنحاء العالم: في أندونيسيا وقف السوفييت متفرجين، بل ومبتهجين، أمام قيام الأمريكيين بتنفيذ أكبر مذبحة في التاريخ، حين صفي الحزب الشيوعي الأندونيسي وفقد حوالي ثلاثة أرباع المليون قتيل من أعضائه. وفي اليونان كانت المخابرات السوفييتية تعمل إلى جانب دكتاتورية العقداء في مواجهة الحزب الشيوعي الذي كان يقود مع الاشتراكيين كفاحا شعبيا من أجل إطاحة الديكتاتورية. وحصل ما يشبه ذلك في مختلف أنحاء الكرة الأرضية. ففي سوريا، وهي موضوع حديثنا، وقف السوفييت بقوة مع زمرة خالد بكداش في مواجهة تيار رياض الترك خلال أزمة الحزب الشيوعي السوري. ووصل الأمر بهم إلى شن حملة تشهير ضد رياض لا سابق لها منذ العشرينيات، حين استخدم السلوك نفسه ضد مانابندرا روي Manabendra Nath Roy، السياسي والمنظر الشيوعي الهندي الشهير. فوصف رياض الترك في بيان رسمي صادر عن المقر " البابوي " الشيوعي في براغ بأنه عميل للإمبريالية وتحريفي.. إلى آخر قائمة الشتائم المعروفة.
في ذلك الوقت كان الأميركيون بدأوا جديا، كما يظهر، في بلورة مشروع سلام لمنطقة الشرق الأوسط (يأتي مشروع روجرز في هذه السياق). وكان تيار صلاح جديد المعارض الأبرز لذلك، وكان لا بد من إزاحته. والواقع إن العمل على إزاحة هذا التيار كانت قد بدأت منذ العام 1966 حين بدأت المخابرات البريطانية ترتب عملية الإطاحة به بالتنسيق مع الأمريكيين والسوفييت. وسيكون مدعاة للدهشة، بالنسبة للبعض، أن أول اعتراف بانقلاب حافظ الأسد في العام 1970 جاء من موسكو عبر ممثل المخابرات السوفييتية في سوريا (KGB) يوسف فيصل، مسؤول التنظيم في الحزب الشيوعي السوري آنذاك، والمنشق عن بكداش في العام 1985 بتوجيهات غورباتشوف والجهاز نفسه. وهو ما أجبر الحزب على سحب بيانه الذي كان قد أصدره قبل قليل ضد انقلاب حافظ الأسد!؟
ظهر الطابع البونابرتي لانقلاب حافظ الأسد منذ لحظاته الأولى. ولو ترجمت خطبه التي كان يلقيها في المحافظات السورية إلى الفرنسية، بعد إسقاط الجوانب السورية البحتة منها، لما ظن أي مؤرخ فرنسي إلا أنها نصوص كتبها لويس بونابرت! وإذا كان النص الحقوقي هو أكثر الميادين التي فيها هوية الدولة، فيكفي مراجعة مجموعة المراسيم التي أصدرها الأسد خلال السنوات الأولى من حكمه لمعرفة الهوية الحقيقية لمشروعه. لقد رفع سقف الملكية الزراعية الذي كانت حددته الإصلاحات الزراعية السابقة، تعبيرا عن المصالحة مع الرأسمالية الزراعية التي دمرها الإصلاح الزراعي ؛ ووفر لها ـ عبر مشاريع السدود والمصارف المتخصصة التي أنشأتها الدولة بأموال دافع الضرائب السوري ـ مياه الري والأسمدة بأسعار دون سعر التكلفة ؛ وتخلى عن مساحة كبيرة من السوق الداخلية والخارجية للقطاع الخاص ؛ وأنشأ بالأموال " البترو دولارية " التي تدفقت بعد حرب أكتوبر أكبر عملية توسع في البنية التحتية في تاريخ سوريا (السدود، قنوات الري، الكهرباء، المصارف المتخصصة.. إلخ) ؛ وأعاد التحالف مع الحكومات العربية التي كان النظام البعثي يصفها حتى الأمس القريب بـ " الرجعية والعميلة للاستعمار" ؛ وأبدى تسامحا غير مسبوق مع قوى المجتمع التقليدية(رجال الدين، شيوخ العشائر)، بل وأعاد إحياء الميت منها وتحالف معها. وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى أن بناء المساجد شهد أكبر ازدهار منذ العصر الأموي (بني في عهد حافظ الأسد وحده أكثر من سبعة آلاف مسجد تعادل حوالي 80 بالمئة من عدد المساجد الموجودة الآن في سوريا) ؛ وأنشأ " معاهد الأسد لتحفيظ القرآن " في طول البلاد وعرضها. وفي المحصلة تحولت وزارة الأوقاف إلى أغنى وأكبر وزارة سوريا، بما فيها وزارة الدفاع نفسها، فضلا عن كونها أكبر مستثمر تجاري! وكان أمر المصالحة مع الشارع الإسلامي التقليدي قد بدأ عندما رضخ في العام 1973 ووافق على النص حرفيا في الدستور على أن دين رئيس الدولة الإسلام، وأن يضم قسم الولاء للدولة تعبير " أقسم بالله العظيم.. "، علما بأن الدستور المؤقت السابق لم يكن يشير إلى دين رئيس الدولة، وكانت صيغة القسم هي " أقسم بشرفي ومعتقدي.."! وكان ذلك أول تعبير سافر عن هوية الدولة الإسلامية ـ الطائفية التي جردت حوالي 10 بالمئة من المسيحيين من حقهم في المواطنة (لا يحق للمسيحي أن يكون رئيسا للجمهورية). والواقع هذا ما قام به لويس بونابرت تماما بعد انقلابه في العام 1851، حين أعاد هيمنة الكنيسة الكاثوليكية التي طردتها الثورة الفرنسية من رحمة الدولة. وكان على الفرنسيين أن يناضلوا خمسين عاما آخر كي يستعيدوا علمانية الدولة ويرسخوها من جديد.
الاقتصاد السياسي للابتزاز
من أجل تنفيذ مشروعه، اخترع حافظ الأسد نمطا جديدا من الممارسة السياسية لم أجد تعبيرا ملائما له إلا "الاقتصاد السياسي للابتزاز". وكان الأداة الأساسية شبه الوحيدة للحصول على مطالبه داخلا وخارجا. فاستثمر على نحو فعال الصراع بين قطبي العالم (واشنطن وموسكو) وحرب أكتوبر و الثورة الإسلامية الإيرانية ثم صراعها الطويل مع النظام العراقي من أجل الحصول على أموال طائلة من دول الخليج لم يكن منها بد لتنفيذ مشاريع البنية التحتية الجديدة، أو لتجديد ما هو قائم منها. وحين سقط الاتحاد السوفييتي، وبات هامش المناورة ضيقا جدا أمامه، كان على درجة من الخبث بحيث أنه لم يجد أي حرج أو مشكلة في إرسال قواته للقتال تحت راية الجيش الأميركي في حفر الباطن وتحرير الكويت مقابل تمديد الولاية الدولية له (الأميركية في الواقع) على لبنان، والتي تجلت في الهجوم العسكري على الزعيم الوطني اللبناني ميشيل عون في 13 أكتوبر 1990، وإنهاء انتفاضته الاستقلالية. وقد برع براعة منقطعة النظير في ممارسة هذه السياسية، مستفيدا من الأهمية الجيوسياسية لسوريا. ولأول مرة منذ سقوط الدولة الأموية منذ 13 قرنا تتحول سوريا من " موضوع مستهلك للسياسة الإقليمية والدولية " إلى " منتج للسياسة "، أو من " ملعوب به " إلى " لاعب "، كما يمكن أن نقول أيضا. وما من شك في أن الميزات الشخصية للأسد قد لعبت دورا أساسيا في إنجاز ذلك. ولمعرفة الدور الشخصي الذي يصبح عاملا حاسما أحيانا في نجاح هذا النموذج البونابرتي وفشل ذاك، تكفي المقارنة بين ما فعله صدام في الكويت وما فعله الأسد في لبنان.
عندما غزا صدام الكويت لم يكن يقوم في الواقع إلا بترجمة " ثقافة سياسية عراقية " سائدة منذ القرن التاسع عشر، أو ما قبل، تجمع على أن الكويت هو جزء من العراق. ولكنه حقق هذا الأمر بوسيلة في منتهى الغباء والحماقة. بينما ترجم الأسد " الثقافة السياسة السورية " المتعلقة بلبنان على نحو آخر تماما: لقد أعاد تشكيل وصياغة المكونات السياسية والاجتماعية اللبنانية التقليدية وقلبها رأسا على عقب، معشّقا إياها في الآن نفسه مع المكونات السورية، سواء عبر الأساليب القانونية أو المافيوية. وفي المحصلة وجد لبنان نفسه مرتبطا بسوريا بطريقة أخطبوطية لا يمكن الفكاك منها أبدا، ولا يمكن لأي مكون من مكوناتها أن يقرر مصير الانفصال. والواقع إن الأسد كان يمشي في مشروعه لضم لبنان نهائيا، بطريقة " شرعية ـ دستورية "، مهما طال الزمن. وتكفي مراجعة بنود " معاهدة الأخوة " لمعرفة حقيقة المآل النهائي الذي كان يفكر به للعلاقة بين البلدين. وأرجو أن لا يفهمن أحد أني أدافع عن احتلال الكويت من قبل العراق، ولبنان من قبل سوريا، سواء بطريقة حمقاء أو ذكية. فالأمر هو لمجرد المقارنة بين دور الفرد في صناعة التاريخ هنا وهناك، وفي ظل نظامين متشابهين تماما.
على الصعيد الداخلي، وهو ما بدا دوما أنه "عقب أخيل" في مشروع الأسد البونابرتي، تبرز قضية الطائفية والمذهبية. وحين يتهم نظام الأسد بممارسة الطائفية، فإن ثمة خطأ علميا يقترف على نحو يتصل بالانتهازية السياسية التحريضية أو الجهل بجوهر اشتغال هذا النموذج من الأنظمة. ومع أن هذه القضية تستحق بحثا قائما بذاته، وهو ما أقوم به في الوقت الراهن، فإن من المفيد التوقف عندها وإن باختصار.
ثمة أشكال عديدة من الأنظمة الاستبدادية، ولايمكن استخدام مفهوم "الاستبداد" لتوصيف أي نظام ديكتاتوري على طريقة "كله صابون"! هناك النظام الاستبدادي البونابرتي، والنظام الاستبدادي البيسماركي، والنظام الاستبدادي الإقطاعي (حالة لويس السادس عشر، والنظام الأوربي عموما، ما قبل الثورات البورجوازية و/ أو ما قبل الثورات القومية الرومانسية في العام 1848). وكل نمط من هذه " الاستبدادات " له وظيفة تاريخية تجعله مختلفا عن الآخر تماما. إذ ليس ثمة استبداد في التاريخ يمارس من أجل الاستبداد بذاته، وإنما من أجل هدف اقتصادي تتحدد هويته وطبيعته حسب الحالة المدروسة. كما ويشترك الاستبداد في الكثير من الحالات ببعض الميزات والخصائص مع أشكال النظم القمعية الأخرى كالفاشية والديكتاتورية، كالموقف من الأقليات الدينية والعرقية ومن الدين والقومية عموما.
في الواقع إن الديكتاتورية، ولكونها كذلك، لا يمكن أن تكون إلا طائفية و / أو مذهبية. وفي أحيان كثيرة تنزلق إلى ممارسات فاشية عنصرية سافرة. والأمر يتناسب دائما بشكل طردي مع درجة الخطر التي تحدق بالنظام ومشروعه. فرغم أن النظام السوري يعتمد، كأي نظام ديكتاتوري واستبدادي آخر عبر التاريخ، على استجلاب رموزه المولجين بالقبض على المفاصل الحساسة من الطائفة التي ينتمي إليها الديكتاتور (هنا الطائفة العلوية)، فإن درجة حضور هذا الاستجلاب تبقى دائما مرهونة بدرجة الخطر التي تحيق به، والتي قد تجبره أحيانا إلى التحول إلى أوليغارشية سافرة. ولا أدل على ذلك من أن اعتماد النظام، كميا وعدديا، على أبناء طائفته كان محدودا جدا قبل اشتباكه مع الأصوليين الإسلاميين قبل ربع قرن، قياسا بما بعدها. فقبل تلك الأحداث كانت تجري أكبر عملية أسلمة و تسنين (من: سنة) للمجتمع والدولة منذ الاستقلال كما لاحظنا أعلاه. وهو ما يترجم عادة، وإن خطأ، باسم تعميق الوحدة الوطنية. (الوحدة الوطنية تنتمي لسياق آخر مختلف تماما، وتتصل بالأسعار والأجور وعلاقة الريف بالمدينة، وليس بعلاقة الدولة والسلطة مع الطوائف كما يردد البعض على نحو ببغائي).
بعد حسم الصراع لصالحه، شعر النظام بأن عليه أن يعيش أجواء الخطر الدائم من الآن فصاعدا، وبالتالي تعميق عملية اعتماده على أبناء الطائفة. والواقع، وإذا ما عدنا لوثائق ووقائع تلك الأيام، نلاحظ أن الانتفاضة الإسلامية المسلحة كانت ترتبط بعاملين داخلي وخارجي لا علاقة لهما تقريبا بصراع ديني أو مذهبي، مهما تجلى ذلك في الخطاب السياسي. فعلى الصعيد الداخلي كانت النتفاضة الإسلامية المسلحة أداة خارجية للصراع مع حافظ الأسد من قبل محور كامب ديفيد والولايات المتحدة والعراق من أجل إجباره على الانضمام لركب التسوية بشروطهم. أما داخليا فكانت البورجوازية التقليدية، التي أصبحت آنذاك تساهم بحوالي 55 بالمئة من مجموع الاستثمارات، وأكثر من 60 بالمئة إذا استثنينا قطاع النفط والثروات المعدنية الأخرى، تريد ترجمة نفوذها الاقتصادي بحضور سياسي عبر آليات الحكم. ولذلك دعمت بقوة (خلال السنتين الأوليين من المواجهة السافرة: 1978 ـ 1980) الإخوان المسلمين بقوة، ليس لأنهم ممثلون سياسيون لها، ولكن كأداة ضغط وحسب. وهناك واقعتان لافتتان جدا في هذا المجال. فقد أثبتت التحقيقات مع قيادات الإخوان المسلمين و" الطليعة الإسلامية المقاتلة "، والوثائق التي وقعت بأيدي السلطة، أن اتحاد غرف التجارة في سوريا (ممثلا بالشيخ بدر الدين الشلاح آنذاك) كان فرض على العديد من التجار الكبار في سوريا أن يدفعوا زكاة الخمس والعشر للإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة! كما أن الحديث الذي أدلى به الشيخ الشلاح ذات مرة للمحامي والإعلامي الراحل نجاة قصاب حسن، تصب في هذا السياق. فقد أعرب عن اعتقاده بأن " القطاع الخاص الذي يساهم بأكثر من نصف الدخل الوطني والاستثمارات، من حقه المشاركة في صناعة القرار السياسي ". وقد عاد وريثه في المنصب، ابنه الدكتور راتب، إلى تكرار الحديث نفسه من على شاشة التلفزيون الرسمي خلال التسعينيات. ومن اللافت أيضا أن اتحاد غرف التجارة قد غير ولاءه فورا بعد حسم الصراع مع الإسلاميين، وتحول مئة وثامنين درجة ليتحالف مع رفعت الأسد! فخلال الصراع على السلطة في العام 1984، وقف اتحاد غرف التجارة مع رفعت الأسد بشكل سافر. وكان بإمكان المرء أن يلاحظ كيف أن صور رفعت الأسد الضخمة قد بدأت باحتلال صدور المحلات التجارية في الوقت الذي كان فيه الأسد الكبير في المشفى يعاني سكرات الموت!
ما ينغي إضافته هنا أن هناك نمطين من الممارسات التمييزية الدينية في سوريا، هي الممارسة المذهبية داخل الجسم الإسلامي نفسه (علويين، سنة، اسماعليين، شيعة موحدين [دروز])، وممارسة طائفية من الدولة ككل، باعتبارها ممثلة للإسلام بكليته، تجاه المسيحيين الذين يجردهم الدستور من مواطنيتهم ويتعامل معهم كمواطنين درجة ثانية. وعلينا أن نلاحظ أن الانتهازية القذرة لبعض أوساط المعارضة السورية تعمي بصرها وبصيرتها، فتجعلها لا ترى إلا الشكل الأول، بينما تغض النظر عن الثاني وتعتبره أمرا شرعيا ومن طبيعة الأمور! والواقع أنه، وباستثناء منظمة حقوقية واحدة (المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة)، لم يقترب أي حزب معارض أو منظمة حقوقية أو تحالف سياسي، بما في ذلك " إعلان دمشق "، من هذا الأمر. وكانوا أجبن وأكثر انتهازية من المطالبة بإلغاء النص الدستوري، الفضيحة والجريمة، الذي يجرد أي مسيحي من حقه في ان يكون رئيسا للجمهورية، باعتباره من أهل الذمة الذين لا يحق لهم ممارسة الولاية السياسية الأولى ؛ أو المطالبة بإلغاء قانون الأحوال الشخصية " الطالباني " بامتياز، والذي لا يسمح للمسيحي بالزواج من مسلمة إلا بعد إعلان إسلامه! والواقع إن شخصا مثل حسن الترابي ظهر أنه أكثر علمانية من جميع المعارضين السوريين، بما فيهم الشيوعيون واليساريون!
ما أردت الوصول إليه هو أن ممارسات السلطة، المذهبية، تندرج فيما أسميته بـ "الممارسة الطائفية لأسباب غير طائفية". والواقع إن أي دراسة نقدية مقارنة للأنظمة الشمولية ستجعلنا وجها لوجه أمام هذه الحالة: بونابرت أعاد السيطرة للكنيسة ومارس ممارسات تمييزية ضد الاقليات الدينية ألاخرى ؛ في العراق الصدامي كانت أعمدة النظام من السنة مثلما أن أعمدت النظام الآن هي من الشيعة. وفي الأردن تعتمد الدولة في مفاصلها الأساسية (جيش ومخابرات) على أبناء الأقليات القومية و / أو الدينية (شيشان، مسيحيون..). وفي مصر، وبعد 60 عاما من "الثورة" أصبح وضع الأقباط أكثر سوءا مما كان عليه في ظل النظام الملكي. وفي السعودية لا يزال بعض الشيعة والإسماعيليون مميزين سلبيا. وفي إيران تعيش الأقلية السنية الظرف نفسه. لكن، ورغم ذلك كله، وبالمعنى العلمي الدقيق، لا يمكن اتهام أي نظام من هذه الأنظمة بأنه يمارس الطائفية أو المذهبية لأسباب طائفية أو مذهبية صرفة. فالأمر يقع في سياقات أخرى. أما ما يكتب بهذا الشأن على أيدي بعض المستشرقين (من مثل: الصراع على السلطة في سوريا لمؤلفه الهولندي نيكولاس فاندام، والذي تحول إلى مرجع بالنسبة لبعض المعارضين السوريين) فهو على درجة كبيرة من التفاهة بالمقاييس العلمية، حتى الأكاديمي الغربي منها. ومن يقرأ هذه الكتب يخرج بانطباع وحيد هو أن الصراع في دول الشرق لا يعدو أن يكون مجرد صراع طوائف ومذاهب. ذلك دون أن ينتبه مؤلفو هذه الكتب أن هذا الصراع هو الشكل الذي يتجلي به الصراع الحقيقي، وليس الصراع الحقيقي نفسه.
إن أكبر برهان على أن حافظ الأسد قد لعب، كفرد، دورا هائلا في صناعة التاريخ الشرق أوسطي، هو ما حصل في لبنان. فرغم الطريقة المذلة التي خرج بها النظام من لبنان، فإن التحالف الإقليمي ـ الدولي ـ المحلي، ثبت بعد أكثر من سنة أنه عاجز عن إلغاء مفاعيل " المشروع الأسدي " في لبنان وما حوله. وأثبت أن ما قاله لكاتب سيرته با تريك سيل وطلب منه أن يختم كتابه به (اكتب: إن الصراع سيستمر) هو دقيق تماما. بل إن الطريقة التي تعاطي بها ابنه وخليفته مع الأمور الداخلية والخارجية منذ وفاة والده أن " دور الفرد في التاريخ " كثيرا ما تكون له القوة نفسها التي تكون للظروف الموضوعية، أو العكس. ومجرد مقارنة الأسد الابن بالأسد الأب، تثبت صحة هذه الفرضية. واستنادا إلى معرفتنا بطريقة تفكير الأب، يستطيع الكثيرون اليوم، وأنا منهم، القول إن ما حصل لم يكن له ليحصل لو أن الأسد الأب كان لم يزل حيا ؛ أو على الأقل: ما كان له أن يحصل بهذه الطريقة التراجيدية.
بعد ست سنوات على موته لا يزال ممكنا القول إنه لم يزل يعيش فينا ومعنا. يعيش فينا بديكتاتوريته وبالرعب الذي زرعه في نفوسنا، ويعيش معنا حين نتذكر ذكاءه في تجنيب سورية الكثير من الكوارث القاتلة.. في مقابل وريثه التي لم يعمل خلال هذه السنوات الست إلا على جر سورية من كارثة إلى كارثة ومن حفرة إلى حفرة أعمق منها. إنها باختصار، وإذا ما حرّفنا المقولة المعروفة، قضية المستبد الذكي والمستبد الغبي ودور كل منهما في التاريخ!
(*) ـ رغم صدوره قبل حوالي ربع قرن، والذي لم يترجم إلى العربية للأسف، فلا يزال هذا الكتاب بحتفظ براهنيته، على الأقل من زاوية معرفة الطريقة التي يشتغل بها هذا النوع من الأنظمة والمآل الذي تنتهي إليه مشاريعها السياسية والاقتصادية. وبسبب صعوبة المفاهيم التي تميز أمين باشتقاقها في أعماله، لم نجد ما هو أنسب من تلك المفردة، استنادا إلى محتوى الكتاب نفسه. انظر:
Samir Amin: Irak et Syrie(1960-1980), Du Projet National agrave; Transnationalisation, Minuit, Paris 1982