كتَّاب إيلاف

الحكومات العربية والإرهاب

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


لا شك أن الإرهاب الإسلامي لم يأت من فراغ، بل هو ناتج عن أفكار تحريضية وتدميرية تلبست بلبوس الدين والنصوص المقدسة، حتى نضجت في رؤوس الإرهابيين وحولتهم إلى عبوات ناسفة عن قناعة تامة باسم الله والإسلام طلباً للحسنين "النصر أو الشهادة". كذلك إن هذه الأفكار هي ليست وليدة الساعة، بل نتاج عملية غسل العقول لعقود طويلة إن لم نقل لقرون من السنين، ولكن أتت بثمارها القاتلة خلال العقدين الماضيين، والتي بلغت الذروة في العراق في هذا الزمن الرديء. وما يجري في البلاد العربية من صراع محتدم بين التخلف والتقدم، يهدد، إن عاجلاً أو آجلاً، بحدوث زلزال لا يقل خطورة عما حصل في العراق والذي أدى إلى سقوط الفاشية وما حصل بعدها من تداعيات.

كما وأن هناك عوامل عديدة ساعدت على شيوع الأفكار الأصولية الإسلامية المتطرفة في البلاد العربية واعتناقها من قبل الشباب المسلمين، ومن هذه العوامل: التراث العربي-الإسلامي، الموروث الاجتماعي (culture) الذي يلغي الآخر والنظرة الدونية للمرأة، الأزمة الاقتصادية الخانقة والتي هي بدورها نتاج الفساد الإداري المتفشي في الدولة، والانفجار السكاني. إضافة إلى تفشي الأمية والعزلة الثقافية عن العالم ومقاومة الفكر العلماني الديمقراطي الليبرالي من قبل الحكومات. وقد نجحت قوى الإسلام السياسي في استغلال هذه الأوضاع الفاسدة لنشر الفكر السلفي وتجنيد الشباب في تنظيمات الإرهاب. هذه العوامل وبدعم الحكومات العربية، هي التي هيأت التربة لنمو الإرهاب، وبالتالي وقفت كحجر عثرة أمام تقدم الشعوب العربية ومواكبتها للحضارة البشرية. فقوانين حركة التاريخ تقضي إما التطور واللحاق بالشعوب المتقدمة، أو التوقف والتراجع، فيحصل الانهيار والانقراض كما انقرضت حضارات وأمم في التاريخ.

يشكل الإرهاب الآن أكبر تهديد للشعوب العربية ومستقبلها ويعيق تطورها وتقدمها الحضاري. فقد تسبب في قتل مئات الألوف من الأبرياء في العالم، ومعظم الضحايا هم من البلاد العربية، وخاصة الجزائر التي فقدت نحو ربع مليون ضحية، ثم يليه العراق وفلسطين ومصر والأردن والمغرب واليمن والسعودية وغيرها. كما وتسبب الإرهاب في تخريب المؤسسات الاقتصادية والبنى التحية في العراق وأعاق إعادة إعماره بعد التحرير من نظام البعث الفاشي.

ولو أمعنا النظر في كل هذه المآسي وبحثنا عن الأسباب، لرأينا أن الحكومات العربية، وحتى تلك التي تدعي و تتظاهر بأنها مع الديمقراطية والإصلاح السياسي، لعبت دوراً كبيراً في نشر الفكر الإسلامي المتطرف الذي أدى إلى هذا الخراب الشامل. وهذه المآسي هي ليست الخاتمة، بل ربما هي البداية والآتي أعظم، ما لم تتخلى هذه الحكومات عن مواقفها الخاطئة وتسارع في تبني الإجراءات اللازمة الصحيحة لمعالجة الوضع المتردي. فالحكومات العربية لحد الآن مترددة في حسم مواقفها من السلفية والديمقراطية، وهي تغازل القوى السلفية على أمل كسب رضائها ومباركتها لكي تستمر في احتكار السلطة، على حساب القوى التقدمية والديمقراطية. ولكن هذه السياسة المنحازة جاءت بنتائج كارثية على هذه الحكومات وشعوبها، حيث أدت إلى إضعاف القوى التقدمية وتنشيط القوى السلفية التي بلغت من القوة إلى مرحلة الإرهاب بحيث صارت تهدد بإسقاط الحكومات ذاتها والسيطرة على السلطة.

إن دحر الإرهاب ضرورة ملحة لها الأولوية وفوق كل شيء آخر، إنه مسألة تقرير مصير للشعوب العربية ومستقبلها، ولا يمكن للحكومات العربية تحقيق هذه الغاية بالقوى الأمنية والقمع فقط، بل يجب تجفيف منابع الإرهاب من الأفكار الخاطئة التي يتغذى عليها السرطان الإرهابي ويعتمد عليها الإسلام السياسي في جذب الشباب وتجنيدهم في منظماته الإرهابية. ولا يمكن محاربة الفكر الإرهابي ما لم تطلق الحكومات حرية التعبير والتفكير للمثقفين الليبراليين العرب وتوفر لهم وسائل النشر والإعلام لإيصال أفكارهم التنويرية إلى أوسع الجماهير لحمايتهم من السقوط ضحايا التضليل السلفي المتطرف. إن الذي يجري الآن هو العكس تماماً. فالحرية شبه مطلقة للسلفيين، وسيطرتهم باتت شبه كاملة على المؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية، ينشرون بكل حرية أفكارهم الظلامية التدميرية وينفثون سمومهم القاتلة، ويكافئون عليها بأعلى الجوائز والشهادات العلمية من الجامعات الرسمية. بينما الاضطهاد يلاحق المثقفين الليبراليين حيث تم تضييق الخناق عليهم في بلدانهم وزج بهم في السجون، مما اضطر المئات منهم الفرار إلى الخارج أو الانكفاء على الذات والسكوت إيثاراً للسلامة.
إن الوضع العربي المزري هذا أتاح المجال لدعاة التطرف الإسلامي السيطرة الكاملة على المساجد كخطباء والقيام بعمليات غسيل الدماغ للناس البسطاء وخاصة الشباب منهم، وشحنهم بالكراهية ضد غير المسلمين ودفعهم إلى الإرهاب. وكما أسلفنا، فقد تم لهم ذلك بمساعدة الحكومات العربية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، إن مؤسسة الجامع الأزهر التي تعتبر أكبر وأعلى مؤسسة دينية في العالم الإسلامي السني، هي مؤسسة حكومية وفي جميع تاريخها كانت تمتثل لأوامر السلطة وتصدر الفتاوى التي تخدم السياسات الحكومية. وحتى إلى وقت قريب، كانت هذه المؤسسة تدعم الإرهاب في العراق وتسميه بالمقاومة، إلى أن امتد الإرهاب ووصل القاهرة وشرم الشيخ، عندئذ غيرت لهجتها إزاء "المقاومة الشريفة" في العراق. وجامع الأزهر يقوم الآن في مصر بدور محاكم التفتيش في القرون الوسطى في أوربا، إذ لا يمكن صدور أي كتاب في مصر ما لم تتم موافقته عليه. وهناك عشرات، إن لم نقل مئات الكتب التثقيفية التنويرية منعت من النشر في مصر بسبب ممانعة هذه المؤسسة لها، بينما لا تواجه الكتب السلفية التي تنشر ثقافة الكراهية والإرهاب هذه العقبات. فكيف والحالة هذه، يمكن لهذا الشعب التخلص من الأفكار الظلامية؟
كما وقرأنا يوم أمس، 12/6/2006 في صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية هذا العنوان: [لأردن: اعتقال "نواب عزاء الزرقاوي"]. وتحته عنوان آخر يفيد أن [زعيم "القاعدة" في العراق درب 300 أصولي قبل مقتله وزرعهم في بلدانهم لتنفيذ عمليات]. وهذا يعني أن هؤلاء يعملون الآن كخلايا سرطانية في بلدانهم لنشر الإرهاب. فكما يبدو من التقارير، أن هناك صراعاً بين الحكومة الأردنية والشعب الأردني، الحكومة ضد الإرهاب ولكن نسبة كبيرة من الشعب مع الإرهاب والذي يسمونه جهاداً، حيث ظهر ذلك جلياً قبل وبعد مقتل الإرهابي المسعور الزرقاوي. إذ تفيد الأنباء أن هناك مأتم أقيم في مدينة الزرقا في الأردن، وربما في مناطق مختلفة من البلاد العربية، تؤبن الزرقاوي وتعتبره شهيداُ، ولا بد أنهم استشهدوا بالآية الكريمة (لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون). فالإرهابيون خبراء في توظيف النصوص المقدسة في تضليل شعوبهم وخدمة الإرهاب. فالألوف من الأبرياء العراقيين الذين قتلوا على يد الزرقاوي وأتباعه، في رأي هؤلاء، هم من الكفرة يستحقون القتل، وأن الزرقاوي قتل في سبيل الله والإسلام والعروبة والوطنية... إلى آخره . كما وقد قدم أربعة نواب فلسطينيين في البرلمان الأردني العزاء بهذه المناسبة، وهم بالطبع يمثلون مواقف ناخبيهم. كما إن منظمة حماس الفلسطينية هي الأخرى نشرت بياناً تعزي فيه الإرهابي "شهيد الأمة الإسلامية" الزرقاوي!!!
لا نشك في جدية الحكومة الأردنية وغيرها من الحكومات العربية في محاربة الإرهاب ومنظمات الإرهاب وحركات الإسلام السياسي المتطرف. ولكن مشكلة هذه الحكومات أنها تحارب الإرهاب عندما يحصل في بلدانها فقط، ولا تحارب أسبابه. فالحكومة الأردنية لم تتخذ هذا الموقف الجاد في محاربة الزرقاوي و أنصاره إلا بعد أن قام هؤلاء بتفجيرات عمان في أواخر العام الماضي.
ونعيد السؤال ذاته، كيف استطاع الإرهابيون كسب هذه الشعبية الواسعة في الشعوب العربية؟ وهل هذا الوضع الفكري المتخلف هو نتاج الساعة؟ أبداً، إنه نتاج عشرات السنين من عمليات غسل الأدمغة والأوضاع الإجتماعية المتردية. إنه نتاج قمع الحكومات العربية للمفكرين الأحرار والسماح للفكر السلفي وحده بالانتعاش. وقد بدأت هذه الحملة في مصر في عهد عبدالناصر. فمن المعروف أن عبدالناصر هو أول من شن حرباً على حرية التعبير والتفكير حيث صادر الحريات وقام بتأميم الصحافة التي هي رئة الشعب، ونشر مكاتب الاستخبارات والمباحث لتحصي على الشعب أنفاسه. ففي ذلك العهد اضطر الكتاب المصريون اللجوء إما إلى العزلة والانزواء والإعتكاف عن الكتابة، أو مسايرة النظام كإنتهازيين لينجوا بجلودهم ويحموا عائلاتهم من الخوف والجوع. فنجيب محفوظ مثلاً توقف عن الكتابة لسبع سنوات بعد انقلاب 23 يوليو 1952. وبعد وفاة عبد الناصر أنهار نظامه ودشن السادات عهداً يتمتع بنوع من الانفتاح وهامش من الحريات. فألف الكاتب الكبير توفيق الحكيم، الحائز على وسام الدولة من عبدالناصر نفسه وهو أعلى وسام في مصر، كتاباً أسماه (عودة الوعي)، أنتقد فيه بشدة سياسات عبد الناصر ومصادرته للحريات. وقد تعرض توفيق الحكيم وغيره ممن انتقدوا عبدالناصر بعد موته بهجوم شرس من قبل محمد حسنين هيكل الذي وصفهم بأنهم كانوا أشباحاً خائفة ضعيفة تحت حكم عبدالناصر. رضي توفيق الحكيم هذه الصفة وتسائل قائلاً: "لكن هل توجد الأشباح الخائفة الضعيفة إلا في جو من الفزع والرعب؟ لماذا إذن لا توجد أشباح خائفة ضعيفة في بلاد مثل فرنسا وأمريكا والسويد وغيرها من البلدان التي لا يعيش أهلها في الرعب والهلع من التعذيب والمعتقلات والقتل والنفخ في البطون والاعتداء على أعراض الزوجات والبنات والأخوات مع تشويه الآراء المعارضة بتلطيخها بتهم التآمر والخيانات". وهذا المثال يعطينا فكرة عما كان ومازال يجري في البلاد العربية ووضع المثقف العربي فيها. فهو مهدد ليس بقطع الأرزاق فحسب بل بقطع الأعناق كذلك.
خلاصة القول، أن الحكومات العربية الآن في ورطة من صنع أيديها، حيث منحت حرية التعبير للسلفيين في نشر الفكر السلفي المتطرف، بينما قمعت الليبراليين ومنعت وصول الفكر الليبرالي التنويري إلى الشعب. وهذا الموقف لعب دوراً كبيراً في نشر الإرهاب في البلاد العربية. وعليه، لا يمكن لهذه الحكومات دحر الإرهاب ما لم تطلق حرية التعبير والتفكير للمثقفين الأحرار وترفع الحضر عن الفكر التقدمي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف