من يريد أن يبعث الفتنة من مرقدها؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
راج في بلادنا منذ زمن خطاب مأزوم ، تتمثل أزمته في شحنه بمفردات كنا نعتقد أنها تراجعت مع بوادر تراجع الفكر الذي أفرزها وعودة بعض أربابه إلى عقولهم وانصياعهم إلى الحق، لكن سرعان ما تبين أن لهذا الفكر أوفياء حريصين على بقائه وبعثه كلما آنس الوطن وأهله
قرب خلاصهم منه. تولت بثّ ذلك الخطاب فئة اعتادت أن تستمد مقومات بقائها ومثولها بقوة في الساحة الفكرية والاجتماعية من التحريض والاستعداء والتشكيك في عقيدة الآخر الشريك في الدين والوطن، عبر مقالات ومقابلات صحفية وتليفزيونية ثم بيانات تعد أخطر مكونات هذا الخطاب الذي يحوي مؤشرات خطيرة تخرجه من كون الباعث عليه رغبة صادقة في إصلاح أو دعوة إلى تصحيح خلل يراه منشؤوه ماثلا في بلادنا.
عنف الخطاب وإقصاؤه للآخر واستعداء السلطة السياسية والشعور المجتمعي عليه ينفي عنه أي غاية نبيلة؛ ليكون خطاب تحريض وعنف ليس غير، ذلك أن النية مبيتة فيه تجاه فئة معينة بغية إحداث شرخ ضد وحدة المجتمع وتماسك نسيجه.
في الخطاب كثير من الصراخ والعويل على حرمات الإسلام التي انتهكها هذا الفريق من أبناء المجتمع، علاوة على شعور متضخم من الاستعلاء وتزكية النفس واستعراض القوة!!!
بدأ هذا الهجوم المنظم الذي هو حتما ليس وليد الصدفة ولا توافقا في الزمن والرؤية بمقال كتبه أحد رجال التعليم السابقين في صحيفة محلية منذ أشهر، ثم تبعته مقالات أخرى ومقابلات تلفزيونية ، تجرأ أحدهم في إحداها على وصف الفئة المتنورة في الوطن بأنهم (ميليشيات ومارينز )، وأنهم ينفذون أجندة غيرهم !! كما وصفهم آخر في موقع الكتروني بـ ( الليبراليين السعوديين ) واتهمهم باتهامات لا تقوم على دليل، وهو أسلوب ينتهجه أهل هذا الخطاب فلا غرابة! ومما قاله إنهم: يتسولون على أبواب السفارات الأجنبية، ويخطبون ود كل أجنبي ، ولا تعنيهم ثوابت الأمة! وسماهم ثالث ( علمانيين) واستخدم آية قرآنية كريمة انتزعها من سياقها الخاص باليهود والنصارى ووظفها في هذا السياق
إنه إن كانت هذه المقالات والمقابلات كثرت أم قلت تدخل في سياق التعبير عن الرأي الذي لا يملك أحد حق مصادرته، كما أنه أمر لا يليق بمن يدعو للحوار وإفساح المجال للرأي الآخر وعدم إقصائه لأن القمة تتسع للجميع ، فإن حرية الرأي لابد أن تلتزم بأدبيات لا يجوز الحياد عنها مهما بلغت الذات تضخما ومهما تراءى لكاتب الرأي أنه بمنأى عن المساءلة وأن له حصانة حقيقية أو متخيلة ، فإن هذا كله لا يعطيه الحق في سوق التهم جزافا والخروج على أدبيات الاختلاف.
إن الخطر الذي يحدق بالمجتمع والوطن على السواء هو الماثل في التحريض الذي يعتمد بيانات يصدرها بعض من سولت لهم أنفسهم حق الوصاية على المجتمع بل على الوطن الذي يدّعون الخوف عليه فيصدرون هذه البيانات لكنهم في الوقت نفسه يستهينون به فيستنكفون عن تسميته باسمه مكتفين بالاسم الذي يفضله كل الحزبيين المتطرفين كابن لادن ومشايخه الذين علموه السحر أي بلاد الجزيرة أو بلاد التوحيد ! خطورة هذا الخطاب تكمن في كونه موجها للأمة، وقد شارك في صياغته والتوقيع عليه نخبة من رجال الدين والتعليم والقضاء، مما يضفي عليه مصداقية لدى رجل الشارع البسيط وبعض النساء والشباب المتحمس ليكونوا عونا لهم في حملة الاحتراب الداخلي ولتشكيك والتخوين، ومما يدعو للتساؤل أن هذا البيان حوى ما حوى من تهم خطيرة ولغة عدائية وجرأة على الآخر، وهو قد كُتب بغية توزيعه ونشره على الملإ ، فماذا عسى أن تكون فحوى الخطاب الآخر غير المعلن الذي يلقى في قاعات الدرس والمجالس الخاصة والمخيمات الصيفية؟ سؤال لابد أن يرد على ذهن من قرأ البيان.
أما الهدف من البيان فالظاهر منه هو الحفاظ على الدين والخوف عليه من المتغيرات وحماية المرأة باعتبارها ثالثة الأثافي في هذا الخطاب المتوتر، أما ما استتر منه فهو السعي إلى إحداث شرخ في بنية المجتمع بالتحريض على الفئة المتنورة منه وهي فئة ليست هامشية وليست قليلة كما يقال بل فئة تمثل بعض المسؤولين والأكاديميين والمثقفين والكتاب، وإني وإن كنت ضد هذه التقسيمات الفئوية التي لا تزيد المجتمع إلا تشرذما وتفككا، فإن هذا لا يمنع من القول إنها موجودة بل أضحت سمة من سمات الخطاب المتشدد ولعله أول من سعى إلى نشرها وتثبيتها وتعميقها في بنية الثقافة السائدة في بلادنا.
يحوي البيان كثيرا من التهم، أولا: تهم تمس العقيدة الدينية منها على سبيل المثال : حرب الفضيلة وتشويه القيم الإسلامية وتغيير هوية المجتمع والسعي الحثيث لتجفيف منابع الخير ، إلى ضروب الانحراف والبعد عن الدين بتحجيم المؤسسات الشرعية وتقليص المناهج الدينية، وأهواؤهم ضالة وشهواتهم منحرفة.
ثانيا: تهم تمس الولاء للوطن وتتقاطع مع عقيدة الانتماء إليه: مثل ( فهم يدعون الوطنية وهم أكثر الناس تنكرا للوطن وتضليلا لأبنائه، فلهم اتصالهم بالأجنبي وتواصلهم مكشوف عبر سفارات تلك البلاد وعبر المؤسسات الإعلامية الغربية
أما الصفات التي تكرم البيان في إسباغها عليهم فمنها (العصابة) وقد ذكرها البيان إحدى عشرة مرة، يليها ( النفاق والمنافقون ) ذكرها أربع مرات، ثم أورد صفات متفرقة بثها بين ثنايا البيان منها: عصابة مارقة متمردة، رسل الكفار، خونة لله ولرسوله ، تنكبوا الصراط المستقيم.
هذا قليل من كثير يطفح به هذا الخطاب المتشنج الذي لم تَحلْ صلاة من كتبه عن الخوض فيما خاض فيه من فجر في الخصومة التي هي من صفات المنافقين، بل إنه بعدما أفرغ بعض ما في جعبته و أظن أن فيها الكثير الذي يشهد عليه بعض ما كتبه ،أخذ يدعو إلى قتالهم وجهادهم بعدما وصفهم بالنفاق ورماهم بالكفر فوظف آيتين كريمتين في سياق التحريض لتقوية دعوته هما قوله تعالى( هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) وقوله (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ! لاشك أنه كلام حق أريد به باطل، لكن الذي يدعو للعجب أن بيانا كهذا يكتبه ويوقع عليه أناس ليسوا من الدهماء أو البسطاء الذين لا يدركون حقيقة ما يفعلون ، حيث تضمن كثيرا من التهم دون وجه حق ودون بينة لما فيه من ادعاءات باطلة ودون تمثل للتوجيهات الدينية بعدم بهتان المسلم !! كما يحمل البيان علاوة على ذلك نبرة عالية من تزكية النفس والاستعلاء وتقليل شأن الآخر بصورة تشبه ما كان يقوم به رجال الكنيسة في العصور الوسطى من وصاية على المجتمع ، في حين نهى القرآن عن تزكية النفس ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) ، كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من الاستعلاء ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
موقعو البيان لم يمتثلوا ما أمر الله به عباده من تعاون على البر والتقوى فخلا منهما بيانهم ولم يبق فيه إلا الإثم والعدوان gt;عند تأمل لغة البيان يعتري الإنسان انطباع بأن كاتبيه يريدون به أناسا غير أهل هذه البلاد لفرط ما يحمل من تهم العنف والتخوين والتحريض والوصف بأوصاف لا يجوز للمسلم أن يطلقها على أخيه المسلم ؛ فهو فحش وفجر في الخصومة ، ولم تمنعهم صلاتهم التي ( تنهى عن الفحشاء والمنكر ) من وصف إخوة لهم آمنوا بالدين نفسه ، وصلوا في المسجد نفسه ، وصاموا رمضان معا وأفطروا معا وحجوا في بقعة واحدة وزمن واحد وتصدقوا وتزكوا بهذه الأوصاف لكنه فكر الوصاية ليس غير، إن من حق هؤلاء أن يطرحوا رؤاهم وأن يعبروا عن مخاوفهم، لكن ليس من حقهم إطلاقا رمي التهم جزافا كما أنه ليس من حقهم إشهار سلاح التخوين والعمالة للأجنبي والتآمر ضد مصلحة الوطن، وهنا لابد لكل عاقل أن يسأل هؤلاء المتحمسين ، هل أشهر من سموهم ليبراليين سلاحا أزهقوا به أرواح مواطنين أبرياء؟ هل هم من فخخ السيارات وفجرها؟ هل هم من حاول تفجير مصافي البترول؟ هل هم من انخرط في منظمات إرهابية كتنظيم القاعدة؟ هل جمعوا أموالا لصالح الإرهاب والإرهابيين؟ ماذا خبرتم من تآمرهم على الوطن؟؟؟
هذا الخطاب المتشنج ضد المثقفين والكتاب وبعض المسؤولين عبر المقالات واللقاءات والبيانات سرعان ما تلقاه المارق ابن لادن نزيل الكهوف فتطاول به على قامات وطنية أفنت عمرها في خدمة الوطن والمساهمة في دفع عجلة التنمية ، قامات لم تقابل وطنها بالجحود والنكران ولم تتآمر عليه مع زمرة المنحرفين والحاقدين كما فعل هو، إن التزامن بين الهجومين واستهداف شخصيات بعينها يشي بالكثير.
إن سلاح التكفير والتخوين سلاح قديم قدم الإنسانية ، والتاريخ مليء بحوادث راح ضحيتها أصحاب الفكر والرؤى التنويرية؛ ذلك أن هناك من هم أوفياء للوضع القائم أعداء للتغير لأنه يضر بمصالحهم ويجعل دائرة الضوء تنحسر عنهم ، وهم يريدون أن يبقوا أبدا في قلب الحدث.
ماذا ينقم هؤلاء من تيار التنوير سوى دعوته إلى التحديث والتطوير وإعطاء المرأة دورها في التنمية الوطنية ، والسير بالوطن حتى ينخرط في منظومة المجتمعات المتطورة، إن التحديث لم يخرج أندونيسيا ولا ماليزيا من حياض الدين، وربما كان بعضهم أصدق من بعضنا في ممارساته الدينية ، كما أن إعطاء المرأة حقها في المشاركة الوطنية لم يخرج نساء المجتمعات الإسلامية ولاسيما الخليجية من حصن الفضيلة ، بل إن بعض نساء هذه الدول أكثر تصويرا لنموذج المرأة المسلمة المعاصرة المحافظة على قيم الدين ، لكن المعضلة أن لدى بعضنا شعورا متضخما بالفوقية والاختلاف عن الآخرين يجعله يتخيل أننا لا نخضع لما تمليه سنن الكون وعلى رأسها أن دوام الحال من المحال.
لاريب أن هناك من يريد إفساد المرحلة التي نعيشها وهي تؤذن بكثير من صور التطوير والتحديث ، انسجاما مع طبيعة العصر الذي نعيشه وتسارع وتيرة التطور في العالم كله، هذا التغيير الذي أكد صانعو القرار مرارا أنه لن يكون على حساب الثوابت الدينية ، لكن هناك من يريد تعطيل المسيرة وإيقاف عملية التحديث والنكوص إلى الوراء وإبقاء المرأة في بيتها. إن الصمت غير المبرر عن بيانات كهذا البيان يولد الجرأة على الوطن وقادته ومفكريه ومثقفيه وكتابه ، هذا عدا عما يسببه من إرباك وإساءة لفئة من المواطنين أخذت على عاتقها مسؤولية التنوير وبناء ما تهدم في المنظومة الثقافية جراء التطرف والتشدد والإرهاب.
أخيراً من يريد أن يفتت وحدتنا الوطنية؟ من يريد أن يقسمنا إلى طوائف وأحزاب؟ من يريد أن يوصلنا إلى حالة من التفكك والتشظي؟ من يريد أن يجهز على إنجازاتنا قبل أن تستوي على سوقها؟ من يريد أن يبعث الفتنة من مرقدها فيشعل بيننا نيران الاختلاف؟